• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42

يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى إضعاف القارة، إذ يُعتقد أن حوالي عشرين دولة تعاني من ديون مفرطة أو في طريقها إلى أن تصبح كذلك. هو وضع يختلف عن أزمة الثمانينيات والتسعينيات، ولكنه يهدد مرة أخرى بتقويض آفاق التنمية في منطقة وسط طفرة ديمغرافية.

لقد وعد وزير المالية الغاني كين أوفوري عطا أن بلاده لن تعود أبدًا لرؤية صندوق النقد الدولي (IMF). "مهما حدث ، لن نفعل ذلك. فالعواقب ستكون وخيمة، ونحن أمة فخورة، ولدينا الموارد، ولدينا القدرة "، أكد كين أوفوري- عطا في شباط/فبراير 2022، إذ تجمعت الغيوم فوق الاقتصاد الغاني بين سقوط السيدي والعملة والمحلية، وأسعار الفائدة المرتفعة.

للأسف، فعلى الرغم من وعد وزير المالية السابق، وبعد عشرة أشهر طلبت الدولة الواقعة غرب أفريقيا للمرة السابعة عشرة منذ استقلالها في سنة 1957 مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي. وتمت الموافقة على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار (2.8 مليار يورو) في نهاية أيار/مايو الماضي، بينما تعهد الدائنون للبلاد العمل على إعادة هيكلة ديونها. وهي خاتمة مريرة للبلد الذي كان مثالًا للنمو الأفريقي المستقر والديمقراطي الذي حاز استحسان الأسواق المالية منذ فترة طويلة. وغانا هي ثاني دولة أفريقية تفلس منذ الأزمة التي نتجت عن جائحة كورونا، وسبقتها زامبيا غير القادرة على الوفاء بديونها الخارجية اعتبارًا من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وبعد مفاوضات لا نهاية لها مع دائنيها، وخاصة الصين، لمحاولة تخفيف العبء، يبدو أن هناك اتفاقًا ما بدأ أخيرًا في الظهور..

ويغذي وضع اقتصاد البلدين المزري مخاوف أولئك الذين يلوحون بخطر أزمة ديون جديدة في أفريقيا بعد عشرين عامًا من عمليات الإلغاء الواسعة التي يقودها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقد أعاد هؤلاء تعيين العدادات إلى الصفر تقريبًا في حوالي ثلاثين دولة في المنطقة، لكن الديون بلغت الخطوط الحمراء مجددًا. وقد وصل الدين العام في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى 57 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي نهاية العام 2022، وهو مستوى لم نشهده منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن حوالي عشرين دولة في القارة تعاني حاليًا من ديون مفرطة أو في طريقها إلى ذلك.

يقول الأستاذ في جامعة كيب تاون ـ جنوب أفريقيا، كارلوس لوبيز: " أزمة الديون هذه دولية؛ فمناطق العالم كلها معنية، وتعد المبالغ في أفريقيا صغيرة للغاية. تخيل أن مدفوعات خدمة الديون في أفريقيا جنوب الصحراء [البالغة 21.4 مليار دولار في سنة 2022 وفقا لوكالة فيتش] تعادل تقريبًا ما تم طرحه على الطاولة في الولايات المتحدة لإنقاذ بنك وادي السيليكون!".ولكن الوضع لا يقل صعوبة: "لقد أصبح من الصعب على عدد معين من البلدان الوفاء بقروضها بسبب نقص السيولة المتاحة لأفريقيا. باختصار، لا تكمن المشكلة في حجم الدين بقدر ما تكمن في القدرة على سداده، وهو السؤال الذي سيشغل مناقشات "قمة الاتفاقية المالية العالمية الجديدة" التي سيعقدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس يومي 22 و23 حزيران/ يونيو، وهو اجتماع يشارك فيه العديد من الرؤساء الأفارقة الذين يتمثل طموحهم المعلن في زيادة تمويل الدول النامية.

قد تصبح المعادلة غير مقبولة لحوالي عشرين دولة تحشد القليل من الإيرادات الضريبية التي تجد نفسها مجبرة على كبح ديونها بالفعل. وعلى ضوء ذلك، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في 28 نيسان/أبريل الماضي في عمود في صحيفة لوموند قائلًا: " تنفق أفريقيا منذ العام 2020 على تسديد الديون أكثر مما تنفق على الرعاية الصحية". وفي نيجيريا ـ الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في القارة ـ يمتص سداد الديون ما يعادل أكثر من 90 في المئة من عائدات الدولة، مما يؤدي تقريبًا إلى تدمير الموارد المتاحة للخدمات الاجتماعية. لكن، هل سيُحكم على القارة الأفريقية بالعودة إلى المديونية المفرطة للأبد؟

ركزت شركات الأبحاث والمؤسسات الدولية على أوجه الشبه بين الفترة الحالية وفترة الثمانينيات والتسعينيات عندما شهدت الدول التي تأثرت بانخفاض أسعار السلع الأساسية ازدياد حجم ديونها. ووفقا لمذكرة نشرها صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان الماضي لا تزال مؤشرات الاقتصاد الكلي في المتوسط أفضل بكثير اليوم مما كانت عليه عندما تم إطلاق مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.

منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين "اجتمعت ثلاث ظواهر" على حد تعبير الخبير الاقتصادي البريطاني المتخصص في الأسواق الناشئة، تشارلي روبرتسون؛ حيث تم شطب الديون الأفريقية وارتفاع معدلات النمو، مما جعل البلدان الأفريقية أكثر جذبًا؛ وكان لدى الصين طاقة هائلة في الإنتاج والادخار، فبدأت في البناء والإقراض على نطاق واسع في القارة. وأخيرًا، فتحت أسعار الفائدة الأميركية المنخفضة الباب للوصول إلى سوق الديون الدولية لمصدرين جدد".

وقد جمعت 21 دولة أفريقية الأموال في الأسواق بين العامين 2007 و2020، ومعظمها لأول مرة. في حين أن المساعدة التي يدفعها المانحون الرئيسيون أصبحت أقل سخاءً بمرور الوقت، وزودت سندات اليوروبوندـ هذه السندات المقومة بعملة مختلفة عن عملة البلد المُصدِرـ الدول بالمال بسرعة من دون شروط.

في الوقت نفسه، ووفقًا لمبادرة الأبحاث الصينية الأفريقية ـ وهي مركز أبحاث في جامعة جونز هوبكنز الأميركية ـ منحت الصين دولًا أو شركات في القارة ما لا يقل عن 127 مليار دولار بين الأعوام 2010 و2019. ونُفذت هذه العملية تحت قيادة العملاق الآسيوي، وتضاعفت مواقع إنشاء الطرق والموانئ والسكك الحديدية وأصبحت بكين الدائن الثنائي الرئيس لعدد قليل من البلدان مثل جيبوتي وإثيوبيا وزامبيا.

يؤكد مدير مختبر التمويل من أجل التنمية مارتن كيسلر أن "النقطة الإيجابية هي أن هناك أصولًا أمام هذه الديون الجديدة: لقد أتاحت ازدهارًا حقيقيًّا في البنية التحتية، لكن الأمر المؤسف يتمثل في أن عددًا من المشاريع لم يحقق العائد المتوقع. فعلى سبيل المثال، انتهى الأمر بالأموال في زامبيا التي تم جمعها من الأسواق، وكانت مخصصة في البداية لمشاريع النقل الكبرى إلى استخدامها بشكل أساسي لخفض العجز. بينما ضلت بعض القروض التي أصدرتها الصين طريقها، إذ انتهى بها الأمر أحيانًا في جيوب السياسيين الزامبيين السابقين.

وحسب نائب رئيس مركز التفكير الغاني "إيماني" برايت سيمونز "هناك مشكلة في كفاءة الإنفاق؛ حيث تم هدر الكثير من الأموال في مشاريع ذات العائد الضئيل أو معدوم على الاستثمار". بالإضافة إلى ذلك؛ لم يحدث التحول الصناعي الذي وعدت به الحكومة، وبدأت الدولة بالاقتراض بشكل متزايد من الأسواق وبنوكها المحلية في محاولة لضمان بقائها.

والمخاطر لا تهدد قارة بأكملها تتكون من أكثر من خمسين دولة بالمستوى نفسه. ويشير مارتن كيسلر إلى أن "الأكثر عرضة للمخاطر هم المستثمرون "الحدود"، وهو مصطلح يشير إلى الأسواق الجديدة بنمو واعد، ولكنها أصغر حجمًا وأكثر تقلبًا وأقل سيولة من الأسواق الناشئة؛ وكانت لسنوات طويلة الأكثر ديناميكية. يضيف كيسلر

وعلى غرار زامبيا وتشاد وغانا، طلبت إثيوبيا أوائل العام 2021 الاستفادة من إطار إعادة هيكلة الديون المشترك الذي وضعته مجموعة العشرين، لكن العملية شاقة بالنسبة لها أيضًا. فخلال هذا الوقت، تشهد البلاد نفاد احتياطياتها من العملات الأجنبية، وليس لديها سوى ما يكفي لتمويل أقل من شهرين من الواردات.

وعلى خلفية الخصومات الجيوسياسية، عقد تنوع ملفات تعريف الدائنين عمليات إعادة التفاوض، فالدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تتهم بكين بإطالة أمد المفاوضات. ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي فإن 8 في المئة فقط من ديون بلدان أفريقيا جنوب الصحراء تعود إلى الصين، بينما تعد ثلاثة أرباع هذه الديون بمثابة قروض تجارية محلية أو في شكل سندات أوروبية. ومع ذلك؛ نادرًا ما يبادر الدائنون من القطاع الخاص إلى التدخل عند خروج الديون عن نطاق السيطرة. وخلافًا للصين؛ لم يشارك أي منهم في مبادرة تعليق خدمة الديون التي اقترحتها مجموعة العشرين لصالح الاقتصادات النامية في بداية الوباء.

وفي حين يهدد شبح الإفلاس عددًا قليلًا من البلدان، فالقارة بأكملها موضع اختبار بسبب عجز التمويل، خاصة بعد انخفاض معدل الإقراض الصيني غذته مخاوف بكين من عواقب إسرافها المالي. ومنذ أشهر، لم يغامر أي مُصدر أفريقي بدخول الأسواق الدولية بعدما أصبحت الأسعار باهظة. كما تواجه القارة عواقب الصراع الروسي الأوكراني الذي يجذب اهتمام وأموال المانحين الرئيسيين. وتشير أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المؤقتة إلى تراجع المساعدات الإنمائية المخصصة لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة ما يقارب ثمانية في المئة عام 2022.

وفي حين تنطفئ الآمال التي علقت على التضامن الذي وعدت بتقديمه الدول الغنية في الأيام الأولى لانتشار جائحة فيروس كورونا، فقد ارتفعت معدلات التضخم تحت تأثير الحرب وعدم تنظيم التجارة الدولية.

يقول مدير الإدارة الأفريقية في صندوق النقد الدولي أبيبي إيمرو سيلاسي في هذا الخصوص: "إن الوضع لا يطاق بالنسبة إلى عدد من البلدان. وفي حال بقي على حاله ولم نجد طريقة لزيادة الموارد، فإن مشاكل السيولة ستتحول إلى مشاكل في القدرة على سداد الديون".

وبالنسبة إلى الاقتصاد الإثيوبي، وعلى الرغم من أن الضغوط المالية لن تخلق أزمة ديون عامة، لكنها قد تؤجل مسار التنمية. علمًا أن استثمارات في رأس المال البشري والبنية التحتية لا تلبي احتياجات القارة التي تشهد نموًا ديموغرافيًا ويعيش أكثر من ثلث سكانها في فقر مدقع. ويقول سيلاسي: "في السنوات العشر والـ 15 المقبلة ستؤمن أفريقيا نصف ما يحتاجه سوق العمل الدولي من يد عاملة. ويستدعي تحولهم إلى محركات للاقتصاد العالمي الالتحاق بالمؤسسات التعليمية والتمتع بصحة جيدة. وخلاف ذلك، فإن تجاهل دعم هذه المنطقة اليوم يهدد مستقبل العالم بأسره".