في 18 يوليو 2023، كشفت الحكومة البريطانية عن تحديث لاستراتيجية مكافحة الإرهاب المعروفة باسم “كونتست”، وهي تُعَد الوثيقة الأولى من نوعها منذ خمس سنوات. وقد أوضحت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان، في تصريحات لها، أن “التهديد الإرهابي لبريطانيا يتزايد؛ حيث أصبح المهاجمون غير متوقعين بشكل متزايد، ويصعب اكتشافهم”، مشيرةً إلى أن التهديدات أصبحت “أكثر تنوعاً وديناميكيةً وتعقيداً”، وهو ما دفع بلادها إلى وضع تحديث شامل لاستراتيجيتها الخاصة بالتصدي للإرهاب، التي ركزت فيها على إرهاب الجماعات "الإسلامية"، باعتباره التهديد المحلي الرئيسي للمملكة المتحدة؛ إذ شكل نحو ثلثي الهجمات في عام 2018، فضلاً عن تشتت وانتشار أعضاء تنظيمَي (داعش) و(القاعدة)، في الوقت الذي تحاول فيه الجهات الفاعلة الدولية المعادية للندن الاستفادة من الأنشطة الإرهابية لتحقيق أهداف خاصة لها بالمملكة.
مضمون الاستراتيجية
تستند الاستراتيجية إلى عدد من الأطر والتوجهات الرئيسية لدى المملكة المتحدة بشأن العمليات الإرهابية وكيفية التصدي لها، منها:
1- التخوف من تهديدات الجماعات الإرهابية "الإسلامية": أوضحت الوثيقة البريطانية أن التهديد المحتمل من الجماعات الإرهابية "الإسلامية" المتمركزة في الخارج، مستمر ومتطور؛ فعلى الرغم من نجاح الإجراءات المستمرة لمكافحة الإرهاب من قِبل لندن وحلفائها في قمع أخطر التهديدات الإرهابية، فإن جماعات مثل داعش والقاعدة لا تزال تتطور وتتكيف في دول أخرى أكثر من أي وقت مضى، ومع أن قدراتهما لا تزال أقل بكثير من الفترات السابقة، فإن هناك علامات على عودة ظهورهما مرة أخرى؛ حيث تواصل كلتاهما إلهام وتمكين وتوجيه الأفراد والجماعات المتطرفة لمهاجمة المملكة المتحدة وحلفائها، بما في ذلك الضغط على الجهود البريطانية لمكافحة الإرهاب؛ الأمر الذي أدى إلى تطور ظهور المزيد من الشبكات الإرهابية ذات الصلة بهذين التنظيمين المتطرفين.
2- تأكيد الطابع المزدوج للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي: تعد التكنولوجيا عاملاً مهماً لجهود المملكة المتحدة في التصدي للإرهاب؛ حيث يمكن أن يؤدي الاستخدام الدقيق والمناسب للتقنيات المتطورة إلى جعل استجابتها أكثر كفاءةً وفاعليةً. ولكن في الوقت ذاته، يمكن أن يؤثر تسريع توافر التقنيات الجديدة والمنصات عبر الإنترنت بالسلب على جهود المملكة في التصدي للإرهاب؛ حيث يستغل الإرهابيون التكنولوجيا لإخفاء شبكاتهم ونشر دعايتهم وتمكين هجماتهم.
وبناءً عليه، حددت الاستراتيجية التكنولوجيا وأدوات الذكاء الاصطناعي أيضاً باعتبارها من أكبر التهديدات التي تواجه المجتمع البريطاني، بل اعتبرتها أيضاً تهديداً للأمن العالمي؛ إذ تشكل التطورات التكنولوجية – بما في ذلك الذكاء الاصطناعي – تهديدات جديدة إذا وقعت في أيدي الإرهابيين؛ حيث يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على جعل النشاط الإرهابي “أكثر تعقيداً وبجهد أقل”؛ ما يساعد الإرهابيين على إنشاء وتضخيم المحتوى الراديكالي والمواد الدعائية والتعليمية، فضلاً عن التخطيط المبتكر للهجمات وارتكابها، وأضافت أن الانتشار السريع للتشفير من طرف إلى طرف آخر، وتوافر أدوات إخفاء الهوية، قد أتاح أيضاً للإرهابيين فرصة للتواصل دون التعرُّض لخطر الكشف أو تحديد الهوية.
3- استدعاء دور أفراد المجتمع في مواجهة الإرهاب: تميزت الاستراتيجية المحدثة بتحولات مهمة في طبيعة التهديد الإرهابي الذي يواجه المملكة المتحدة؛ حيث بات الأفراد والمجموعات الصغيرة خارج شبكات الإرهاب المنظمة الكبيرة، يهيمنون الآن على تنفيذ الهجمات الإرهابية؛ ما يجعل من الصعب التنبؤ بالإرهابيين ويُصعِّب اكتشافهم.
ومن جانب آخر، يعتبر الجمهور العادي شريكاً رئيسياً في التنفيذ الناجح لأهداف الاستراتيجية البريطانية؛ إذ يلعب دوراً أساسياً في منع الهجمات وتقليل الخسائر في الأرواح في حالة وقوع هجوم؛ ففي عام 2022/2023، تلقت شرطة مكافحة الإرهاب أكثر من 13 ألف بلاغ من الجمهور، قدم 2000 منها تقريباً معلومات استخباراتية مفيدة للشرطة، كما يلعب الجمهور دوراً حيوياً في الحفاظ على سلامتهم وسلامة الآخرين، من خلال السعي إلى منع الأفراد من أن يصبحوا إرهابيين، بالإبلاغ عن العناصر أو السلوكيات المشبوهة والمتطرفة، ولا سيما دعم تطبيق القانون لمتابعة النشاط الإرهابي المحتمل عن طريق الاتصال بالخط الساخن لمكافحة الإرهاب.
4- تطوير آليات مواجهة الأيديولوجيات المتطرفة: ستركز الحكومة البريطانية على منع الأفراد من التحول إلى التطرف في المقام الأول، وسيشمل ذلك العمل مع المجتمع لتحدي الأيديولوجية المتطرفة وتقديم الدعم للأشخاص المعرضين للتطرف. كما ستعمل الحكومة على تعطيل المؤامرات والشبكات الإرهابية، من خلال استخدام مجموعة من أدوات إنفاذ القانون، بما في ذلك المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية والاعتقالات، وزيادة عدد ضباط الشرطة، وتطوير تقنيات جديدة لمكافحة الإرهاب.
5- تعزيز الشراكة مع الحلفاء الدوليين: مما لا شك فيه أن التهديد الذي يشكله الإرهاب هو تحدٍّ عالمي، والتعاون الدولي ضروري من أجل التصدي له؛ حيث لا يُمكِن لدولة واحدة العملُ بمفردها لتقليل خطر الإرهاب؛ ولذا أدركت الحكومة البريطانية أنها بحاجة إلى العمل بشكل وثيق مع شركائها الدوليين لمواجهة هذا التحدي، وبشكل خاص مع الولايات المتحدة وأعضاء “العيون الخمس” الآخرين (أستراليا وكندا ونيوزيلندا) وشركائها الأوروبيين. هذا وقد تضمنت الاستراتيجية الجديدة عدداً من التدابير لتعزيز هذه الشراكات، مثل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق عمليات إنفاذ القانون.
6- تفعيل دور القطاع الخاص: يمثل الإرهاب تهديداً رئيسياً للأعمال التجارية؛ الأمر الذي سيدفع الحكومة نحو التعاون مع القطاع الخاص من أجل دعمه لحماية المجتمع من خطر الإرهاب؛ وذلك من خلال مساعدته على فهم التهديدات التي يواجهها، وما يمكنه فعله لتقليل مخاطر العمليات الإرهابية، بجانب تقديم الاستشارات وتمويل الأبحاث لتطوير حلول مبتكرة للمساعدة في الحفاظ على الأمان العام. وقد أوضحت الوثيقة ضرورة العمل مع القطاع الصناعي بهدف دفع الابتكار في الحماية الوقائية والحد من مخاطر التكنولوجيا، ومواكبة التهديدات الإرهابية في ضوء استمرارها في التحول والتطور.
7- تعزيز الأمن الوقائي: من المقرر إصدار قانون “مارتين” لتعزيز الأمن في الأماكن العامة، الذي من شأنه أن يفرض شرطاً على المسؤولين عن أماكن وأحداث معينة للنظر في كيفية التصدي للتهديدات الإرهابية، مع تنفيذ تدابير مناسبة لمواجهتها. ولدعم أولئك الذين يدعمون حماية الجمهور من هذه التهديدات،
أشارت الاستراتيجية إلى مواصلة وزارة الداخلية وشركائها تقديم المشورة والتدريب المجاني من خلال منصة (ProtectUK)، وهي منصة مركزية جديدة تم إطلاقها في عام 2022 تختص بالشأن ذاته، كما ستعمل المطارات البريطانية على تحديث قدرات الفحص، وتعزيز قدرة المطارات على اكتشاف التهديدات والحفاظ على سلامة الركاب. وبالإضافة إلى ذلك، سيُوفر نظام الهجرة والحدود فرصة حاسمة لتحديد وإدارة الأفراد المشبوهين والمتطرفين.
دوافع رئيسية
هناك العديد من الأسباب التي دفعت الحكومة إلى تحديث استراتيجيتها الخاصة بمكافحة الإرهاب وإصدارها في الوقت الراهن، ولعل أبرزها ما يلي:
1- النجاح النسبي لاستراتيجية مكافحة الإرهاب لعام 2018: منذ الإصدار الأخير من “كونتست” في عام 2018، نجحت جهود مكافحة الإرهاب المتضافرة من قبل المملكة المتحدة وحلفائها الرئيسيين إلى حد كبير في تقليل المخاطر من خلال قمع التهديدات الإرهابية، وقد مكَّن ذلك من إعادة توازن الأمن القومي البريطاني.
هذا النجاح قد شجَّع الإدارات الحكومية، والسلطات المحلية، وخدمات الطوارئ في الخطوط الأمامية، ووكالات الاستخبارات، والشركاء الآخرين، على الاستمرار من أجل العمل معاً لمكافحة الإرهاب؛ حيث باتت الغالبية العظمى من الناس يشعرون بالأمان من محدودية وانحسار العمليات الإرهابية؛ نتيجة لثقتهم بقدرة الحكومة على حماية المملكة المتحدة من خطر الإرهاب.
2- استمرار نشاط المجموعات الإرهابية: حذر رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني (MI5) من احتمالات مواجهة بريطانيا تهديدات إرهابية لا هوادة فيها، وأن خطر الإرهاب يتطور باستمرار، ومن المرجح أن يستمر في السنوات المقبلة، ومن ثم تحتاج الحكومة إلى أن تكون قادرة على تكييف استراتيجيتها لمواجهة مشهد التهديد المتغير؛ إذ قد تم تصميم الاستراتيجية الجديدة لتكون مرنة وقابلة للتكيف؛ بحيث يمكن تحديثها مع التغيرات اللاحقة التي قد تطرأ على التهديدات الإرهابية.
وفي السياق ذاته، أجرت شرطة مكافحة الإرهاب نحو 800 تحقيق مباشر، ونفذت 169 عملية اعتقال في اتهامات مرتبطة بالإرهاب خلال العام الماضي، ومنعت وكالات المخابرات وإنفاذ القانون 39 هجوماً إرهابياً كانت في مراحل أخيرة من التخطيط على مدار الأعوام الستة الماضية، ومعظمها تكمن وراءها دوافع متطرفة.
3- توسع نطاق ظاهرة “الإسلاموفوبيا”: باعتبار الجماعات الإرهابية الإسلامية هي التهديد الرئيسي بالنسبة إلى الغرب على مدار العقدين الماضيين، أدى صعود داعش والجماعات الإرهابية الأخرى إلى مشهد تهديد أكثر لا مركزيةً وانتشاراً؛ الأمر الذي قد عمَّق صعوبة تعقُّب المؤامرات الإرهابية وتعطيلها، وباتت الترتيبات للعمليات الإرهابية لا يمكن التنبؤ بها؛ ما يزيد صعوبة اكتشاف القضايا والتحقيق فيها. ووفقاً لإحصائيات الاستراتيجية البريطانية، فإن ثلاثة أرباع وقت جهاز الاستخبارات البريطاني (MI5) مُخصَّص لقضايا الجماعات الإرهابية الإسلامية، فضلاً عن تمثيل هذا النوع من الإرهاب نحو 67% من الهجمات في عام 2018. هذا وقد أوضحت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان أنه تبين خلال شهر يونيو الماضي وجود تخطيط من جانب تنظيم داعش الإرهابي لتنفيذ هجوم على تجمُّع عام في بريطانيا.
4- الدفع باستفادة أطراف دولية من الإرهاب: حذرت برافرمان من تشكيل كل من روسيا وإيران والصين مخاطر كبيرة على أمن المملكة المتحدة، مشيرةً إلى روسيا باعتبارها “أكثر مخاوف الأمن القومي إلحاحاً”، وأشارت إلى أن دولاً، من بينها روسيا، تستخدم الإرهاب لزرع الانقسام في بريطانيا، وأن الروايات الإرهابية تستغلها جهات معادية تسعى إلى تعزيز الروايات الانقسامية والاستقطابية في الغرب، محذرةً من احتمالات زيادة تلك المحاولات من أعداء بريطانيا في الخارج مستقبلاً؛ حيث سبق أن أظهرت الأبحاث وجود حسابات مرتبطة بروسيا قد استخدمت هجمات إرهابية، مثل تفجير مانشستر أرينا وحادث الطعن على جسر لندن لتضخيم الرسائل الانقسامية واليمينية المتطرفة عقب الهجمات في البلاد.
5- تعزيز الشفافية بشأن سياسات الحكومة: في ضوء ما يشهده حزب المحافظين من مواجهة شرسة من بقية الأحزاب الأخرى، وتحديداً حزب العمال البريطاني، أرادت الحكومة جعل استراتيجيتها لمكافَحة الإرهاب أكثر شفافيةً؛ إذ تعرضت الحكومة لانتقادات بسبب استخدامها المراقبةَ وجمع المعلومات الاستخباراتية في الحرب ضد الإرهاب؛ حيث تريد الحكومة أن تكون أكثر شفافيةً بشأن عملها في مكافحة الإرهاب؛ حيث توفر الاستراتيجية الجديدة مزيداً من المعلومات حول نهج الحكومة في مكافحة الإرهاب، بما في ذلك استخدامها المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية؛ وذلك بهدف بناء ثقة الجمهور بجهود الحكومة لمكافحة الإرهاب.
6- ارتفاع تكاليف الإرهاب: للهجمات الإرهابية عواقب وخيمة تمتد عبر المجتمع، بما في ذلك الآثار الجيوسياسية والاقتصادية والعواقب المؤثرة على الأمن القومي؛ فبالإضافة إلى التكاليف الشخصية والمجتمعية للإرهاب، فإن التكاليف الاقتصادية الأوسع نطاقاً للإرهاب كبيرة؛ إذ تقدر تكلفة الهجمات الإرهابية الخمس التي وقعت في جميع أنحاء المملكة المتحدة في عام 2017 بما يصل إلى 172 مليون جنيه إسترليني من التكاليف المباشرة. وفي تحليل منفصل بواسطة مؤسسة (RAND Europe)، فإن التأثيرات غير المباشرة المحتملة للإرهاب على الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى نحو 43 مليار جنيه إسترليني في عام 2017.
7- تعدد البؤر الإرهابية في الخارج: هناك تخوفات بريطانية من احتمالية خلق بيئة عمل متساهلة مع الجماعات التي قد تطمح إلى مهاجمة المملكة المتحدة مرة أخرى في المستقبل؛ وذلك على خلفية استيلاء طالبان على أفغانستان وانتشار فروع داعش في أجزاء من أفريقيا؛ حيث أوضح مسؤولون هناك أن الجماعات التابعة لداعش التي انتشرت في أنحاء أفريقيا قد تحاول شن هجمات في المملكة المتحدة في المستقبل، وهو الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود الحكومية والمجتمعية لمواجهتها بشكل استباقي.
ختاماً، تعد الاستراتيجية الجديدة خطة شاملة تهدف إلى الحفاظ على المملكة المتحدة في مأمن من الإرهاب؛ حيث تعتبر خطوة مهمة إلى الأمام في الحرب ضد الإرهاب، باعتبار أنها تتناول جميع جوانب الحرب ضد الإرهاب، كما أن تركيز الحكومة على الوقاية والتعطيل والحماية هو نهج متوازن من شأنه أن يساعد في الحفاظ أمن المملكة من العمليات الإرهابية المحتملة. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر أنه لا يوجد حل واحد لهذه المشكلة المعقدة؛ حيث ستحتاج الحكومة إلى مواصلة العمل مع المجتمع، وتطبيق القانون، والعمل مع الشركاء الدوليين الآخرين في الشأن ذاته، بيد أنه على الجانب الآخر، جادل بعض النقاد بأن الاستراتيجية لا تذهب بعيداً بما فيه الكفاية في معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب، بل إن الأمر يتطلب المزيد من الجهود والخطوات الإضافية للحد من انتشار الإرهاب في البلاد.