يأتي الانقلاب في النيجر – الذي جاء بعد انقلابات مماثلة في كلٍّ من مالي وبوركينا فاسو – ليُسلِّط الضوء على مستقبل النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً أن النيجر كانت تُعد من آخِر حلفاء فرنسا فيها. ويتجسَّد القلق الفرنسي في أن المجالس العسكرية التي تنبثق من هذه الانقلابات عادةً ما تكون مُعادِيةً لفرنسا، ويكون من أول أهدافها العمل على إخراج القوات الفرنسية من أراضيها. وتدل العديد من المؤشرات الحاصلة بعد 27 يوليو 2023، على جنوح العلاقة بين فرنسا والمجلس العسكري في النيجر نحو المزيد من التأزم، خصوصاً مع اتهام فرنسا بانتهاك قرار إغلاق الحدود، وانتشار التظاهرات المنددة بالوجود الفرنسي في نيامي، ورفع المتظاهرون فيها الأعلام الروسية. ويبدو أن النفوذ الفرنسي أصبح مهدداً أكثر من أي وقت مضى في هذه المنطقة، على الرغم من كلٍّ ما تُمثِّله من حاجة إلى المصالح الفرنسية، سواء في مسألة مكافحة الإرهاب، أو في منع تمدُّد النفوذ الروسي في الحديقة الخلفية لفرنسا.
سياسة فرنسا
تبنَّت فرنسا عدداً من الخطوات في مواجهة الانقلاب في النيجر، وهو ما يُمكِن تناولُه على النحو التالي:
1– عدم الاعتراف بالمجلس العسكري: ندد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 28 يوليو 2023، بالانقلاب العسكري في النيجر، واصفاً إياه بأنه غير الشرعي وخطير للغاية على النيجر وعلى المنطقة المحيطة بأسرها، داعياً إلى إطلاق سراح الرئيس محمد بازوم، كما أعلن الإليزيه أن إيمانويل ماكرون سيرأس اجتماعاً لمجلس الدفاع والأمن الوطني للنظر في ملف النيجر الذي كان من أبرز نتائجه تأكيد عدم الاعتراف بالسلطة المنبثقة عن الانقلاب الذي يقوده الجنرال عبد الرحمن تشياني، واستمرار اعتبار محمد بازوم المنتخب ديمقراطياً الرئيس الشرعي للنيجر.
2– مواجهة تصعيد المتظاهرين: وفي يوم 30 يوليو 2023، استهدف بعض المتظاهرين في العاصمة النيجرية نيامي السفارة الفرنسية، محاولين إشعال النار فيها، بالإضافة الى إحراق العلم الفرنسي ورفع الأعلام الروسية، وترديد هتافات مناهضة لفرنسا. وجاء الرد الفرنسي بشكل حازم عبر بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية (الإليزيه) بالرد الفوري في حال وقوع هجوم على رعاياها أو دبلوماسييها أو مبنى سفارتها، كما طلبت وزارة الخارجية الفرنسية من قوات الأمن النيجرية اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان أمن الدبلوماسيين الأجانب في نيامي، ولا سيما الفرنسيين، مُذكِّرةً بأن ضمان حق تنقل الموظفين الدبلوماسيين وحمايتهم هي تدابير ملزمة وفقاً لقواعد القانون الدولي المنصوص عليها في اتفاقية فيينا لعام 1961.
3– إجلاء الرعايا الفرنسيين: على وقع الاعتداء على السفارة الفرنسية في نيامي، ونظراً إلى إغلاق الحدود البرية والمطار، قامت الحكومة الفرنسية، في الأول من أغسطس 2023، بالبدء في عملية إجلاء لرعاياها الموجودين في النيجر، وأعلنت وزارة الخارجية الفرنسية في 3 أغسطس 2023، على موقعها الإلكتروني، انتهاء هذه العملية بعد إجلاء 1079 شخصاً، من بينهم 577 فرنسياً؛ وذلك عبر القيام بخمس رحلات جوية بين النيجر وفرنسا، معلنةً أن أي مواطن فرنسي لا يزال موجوداً في النيجر ويريد مغادرتها فإن بإمكانه الإبلاغ عن ذلك على عنوان بريد إلكتروني ورقم هاتف مخصص لذلك. وفي هذا السياق، اعتبر رئيس الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني أنه ليس هناك سبب موضوعي يدفع الرعايا الفرنسيين إلى مغادرة النيجر؛ حيث لم يتعرض أحد منهم لأي تهديد أو مضايقة.
4– وقف المساعدات المالية: تعتمد النيجر – التي تعتبر من أفقر الدول في غرب أفريقيا؛ حيث يعيش نحو 10 ملايين نيجري تحت مستوى الفقر الشديد؛ (أي ما نسبته 42% من إجمالي عدد السكان) – بشكل كبير على المساعدات المالية الأجنبية، ولا سيما الفرنسية. ووفقاً لأحدث الأرقام الفرنسية، فإن الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) دفعت 119.2 مليون يورو للنيجر في عام 2022.
كما تُساهِم وزارة الخارجية الفرنسية بمبلغ يُقدَّر بعشرات الملايين من اليوروهات لسد العجز المالي ولدعم المؤسسات الحكومية والإدارية، بالإضافة إلى مبالغ أخرى تأتي على شكل قروض وهِبَات. وبحسب تقرير نشرته وزارة المالية النيجرية في العام الجاري، فإن أكثر من نصف دخل البلاد (أي نحو 5 مليارات يورو) يأتي من موارد خارجية، وتحتل فرنسا المرتبة الخامسة في لائحة المساهمين، بعد ألمانيا والصين والولايات المتحدة وبلجيكا. وكانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت، في 29 يوليو 2023، تعليق جميع مساعداتها التنموية والمالية للنيجر.
5– إعادة تقييم أجهزة الاستخبارات الفرنسية: إن حصول انقلاب عسكري في النيجر ليس حدثاً مفاجئاً؛ نظراً إلى عدد الانقلابات المُنفَّذة منذ استقلال النيجر حتى يومنا هذا (خمسة انقلابات ناجحة منذ عام 1960)، كما أن الرئيس بازوم كان قد تعرَّض لعدة محاولات انقلابية فاشلة من قبل، ولكن اللافت في الموضوع هو عجز المخابرات الفرنسية عن التنبه إلى أمر الانقلاب الأخير. وذكر تقرير تم نشره في موقع ميديابارت (MEDIAPART) الفرنسي في 2 أغسطس 2023 أن الرئيس الفرنسي ماكرون انتقد بشدة هذا الفشل الاستخباراتي، محملاً مسؤولية ذلك لمدير المديرية العامة للأمن الخارجي (DGSE) برنار إيمييه (سفير فرنسي سابق في لبنان)، كما طال هذا الانتقاد السفارة الفرنسية في نيامي، ومديرية المخابرات العسكرية (DRM).
ويدافع “إيمييه” عن نفسه باعتبار أنه رفع تقريراً في يناير الماضي، محذراً فيه من احتمال وقوع انقلاب في النيجر، لكن الحكومة الفرنسية أهملته. ويمتلك الرئيس الفرنسي صلاحية تعيين وإقالة رئيس جهاز المديرية العامة للأمن الخارجي، وهناك شائعات ذكرتها صحيفة (The Telegraph) في تقرير لها نُشر في 4 أغسطس 2023 أن استمرار برنار إيمييه في وظيفته بات على المحك، وأن تدهور العلاقة بين ماكرون وإيمييه بدأ مع رفض ماكرون طلب إيمييه تعيينه وزيراً للخارجية.
تداعيات حادة
يمكن تلخيص تأثيرات الانقلاب في النيجر على المصالح الفرنسية بالنقاط الآتية:
1– إضعاف حصار المجموعات الإرهابية: قامت فرنسا، بعد انتهاء عملية برخان لمكافحة الإرهاب في صيف عام 2022، بنقل جنودها المنتشرين في مالي إلى النيجر؛ حيث أصبح يُرابِط فيها منذ ذلك الوقت 1500 جندي فرنسي، يتمركز معظمهم في قاعدة عسكرية داخل مطار العاصمة نيامي، بالإضافة إلى الانتشار على الحدود مع بوركينا فاسو ومالي. وتحتوي قاعدة نيامي الجوية، على خمس طائرات بدون طيار، وثلاث طائرات مقاتلة من طراز ميراج؛ وذلك لتأمين سرعة الوصول إلى المناطق الساخنة التي يتم رصد وجود عناصر من الجماعات الإرهابية فيها.
وعلى عكس عملية برخان التي كان الجيش الفرنسي يمتلك فيها صلاحية العمل بمفرده، فإن الجنود الفرنسيين المنتشرين في النيجر يعملون دائماً برفقة الجيش النيجري. وتعتبر خسارة النيجر بالنسبة إلى فرنسا بمنزلة فقدان نقطة مراقبة استراتيجية تُمكِّنها من رصد وملاحقة التهديد الإرهابي في منطقة الساحل بأكملها.
2– ضرب جهود مكافحة الهجرة غير الشرعية: نظراً إلى موقعها الجغرافي واستقرارها النسبي، رسَّخت النيجر نفسها شريكاً رئيسياً للاتحاد الأوروبي في مكافحة الهجرة غير الشرعية، خصوصاً بعد تدهور الوضع الأمني في ليبيا؛ حيث أصبح الاتحاد الأوروبي يُدِير طلبات اللجوء منها، إلى حد اعتبارها من قِبل البعض بأنها أصبحت حدود أوروبا الجديدة مع أفريقيا.
ووفَّرت قمة “لا فاليت” في عام 2015، التي ضمَّت قادة دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى قادة الدول الأفريقية؛ الإطار المالي للشراكة بين الاتحاد الأوروبي والنيجر لإدارة التعاون في ملف مكافحة الهجرة غير الشرعية؛ بحيث أصبحت تستفيد بمبلغ يقارب 230 مليون يورو تم توزيعها لدعم عدة قطاعات داخل النيجر كالأمن والقضاء والاقتصاد.
3– تأثيرات على قطاع الطاقة في فرنسا: لفرنسا مصالح اقتصادية وطاقوية مهمة أيضاً في النيجر التي تُعَد خامس أكبر مُنتِج لليورانيوم في العالم. وهذا الخام ضروري لتشغيل محطات الطاقة النووية الفرنسية. وتحتاج فرنسا إلى عدة آلاف من الأطنان من اليورانيوم سنوياً لتشغيل هذه المحطات. وفي عام 2008، جاء 43% من اليورانيوم الذي أنتجته شركة أريفا (AREVA) الفرنسية (الاسم السابق لأورانو ORANO) من النيجر. وفي السنوات التالية، أصبحت (Orano) تستخرج كميات أقل في النيجر؛ حيث وصلت هذه النسبة في عام 2021 إلى 30% أو ما يقارب ألفَي طن.
وبعد عام 2021، تم إغلاق أحد المنجمَين اللذين تستثمر فيهما شركة أورانو بسبب نفاد الاحتياطيات، فيما يتوقع أن يبقى المنجم الآخر (منجم أرليت Arlit) قيد التشغيل حتى عام 2040. وحالياً يُمثِّل اليورانيوم المستخرَج من مناجم النيجر ما يقارب من 15% من الواردات الفرنسية. ووفقاً لأرقام (Euratom) في عام 2021 فإن 24% من اليورانيوم المستخدم في أوروبا يأتي من النيجر. وعلى الرغم من وجود 300 جندي نيجري يؤمنون حماية منجم أرليت، فإن هناك تخوفات فرنسية من أن تُركِّز الجماعات الإرهابية هجماتها على هذه المناجم بعد وقوع الانقلاب، أو أن يسعى الانقلابيون إلى تأميم هذا القطاع حتى يتمكنوا من استغلاله، خصوصاً في حال حصول تشجيع من جهات خارجية أخرى كروسيا.
4– تمدد النفوذ الروسي: تُعَد النيجر من آخر حلفاء فرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد إجبار فرنسا على الخروج من مالي وبوركينا فاسو، وتوجه المجلسين العسكريين الحاكمين في هاتين الدولتين إلى التحالف مع روسيا. هذا وكانت موسكو تنشر من خلال أدوات العمل الخاصة بجماعة فاجنر، دعاية مكثفة مناهضة لفرنسا في تلك المنطقة؛ ما أدى إلى تنامي الشعور المُعادِي لفرنسا (Sentiment Anti Français)؛ حيث تجلى ذلك في تزايد التظاهرات المنددة بالوجود الفرنسي، والمطالِبة بخروج فرنسا، كما تعرضت السفارات الفرنسية لأعمال شغب من قبل بعض المتظاهرين.
أما في النيجر، فإنه حتى إن كانت السلطة فيها مُقرَّبة من فرنسا، فإن بعض شرائح المجتمع النيجري أصبحت تُجاهِر بمعارضة الوجود الفرنسي حتى قبل حصول الانقلاب الأخير، كحركة M62 التي يرأسها عبد الله سيدو، من خلال تنظيم عدة تظاهرات تم التلويح فيها بلافتات معادية لفرنسا تحمل شعارات مثل “الجيش الفرنسي المجرم” أو “يجب أن يرحل الجيش الاستعماري”.
وقد اعتبرت بعض الأوساط الفرنسية، كالمتحدث باسم حزب (MODEM) والنائب في البرلمان الفرنسي “برونو فوكس” أن هذا التظاهرات ليست عفوية وأن أياديَ روسيةً تقف خلفها، وبدا واضحاً من خلال المقالة التي نشرها رئيس النيجر المخلوع “محمد بازوم” في واشنطن بوست في 3 أغسطس 2023، أنه يسعى إلى لفت النظر إلى التهديدات التي يمكن أن تنشأ من جراء النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة.
فيما اعتبر سفير النيجر في الولايات المتحدة “كياري ليمان تينجويري” أن نجاح عملية الانقلاب سيصبُّ في صالح جماعة فاجنر التي ستُسيطر في أفريقيا على شريط بري متواصل ممتد من السودان في الشرق إلى موريتانيا في الغرب. وتجدر الإشارة إلى أن هذا السفير كان من السفراء النيجريين الأربعة الذين تم إنهاء مهامهم من قِبل المجلس العسكري في 4 أغسطس 2023 الذين يشغلون مناصب السفراء في فرنسا ونيجيريا وتوجو والولايات المتحدة.
5- تهديد الوجود العسكري الفرنسي في النيجر: رداً على الأمر الذي أصدره المجلس العسكري الحاكم في نيامي للمطالبة برحيل الجنود الفرنسيين في النيجر المُقدَّر عددهم بـ1500 جندي، اعتبرت باريس أن السلطات الشرعية في النيجر هي وحدها التي يمكنها التنديد بالاتفاقات العسكرية مع فرنسا، وما دامت السلطات التي تعتبرها فرنسا شرعية (أي الرئيس “بازوم” المحتجز) لم تُطالِب بعدُ برحيل القوات الفرنسية، فإن فرنسا ستبقى. وحتى في حالة نقض الاتفاقات العسكرية المبرمة بين فرنسا والنيجر من قبل أيٍّ من الطرفين، فإنه سيكون أمام فرنسا فترة من ستة أشهر على الأقل لإنجاز هذا المغادرة؛ وذلك لأن معدات القاعدة الفرنسية في نيامي كبيرة وثقيلة، ولا يمكن تفكيكها بسرعة.
مستقبل معقد
يرتبط مستقبل النفوذ الفرنسي في النيجر وفي منطقة الساحل، بعدة عوامل، يتلخص أهمها فيما يأتي:
1– إمكانية القيام بعملية عسكرية منفردة: اتهمت سلطة الانقلاب في النيجر باريس بأنها تحضر لتدخل عسكري على بلادهم، ورداً على سؤال حول هذا التوجه، أكدت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا أن هذا غير صحيح، وأن الأولوية الوحيدة لفرنسا في النيجر هي حماية أمن مواطنيها، مضيفةً أن من الضروري إعادة الرئيس “بازوم” إلى ممارسة مهامه.
بجانب هذا النفي، انتشرت بعض الشائعات التي تقول إن فرنسا لن تقوم بتدخل عسكري من أجل إعادة بازوم إلى السلطة، لكنها ستكتفي بالقيام بعملية عسكرية خاطفة لتحريره وإجلائه من نيامي، خصوصاً أنها لا تريد أن تُعمِّم صورة عن نفسها بأنها تتخلى عن حلفائها؛ فربما تؤدي هذه الصورة إلى ابتعاد آخِر حلفائها في منطقة الساحل عنها؛ أي الرئيس التشادي “محمد إدريس ديبي”، وحيث كان لافتاً في هذا السياق خروج موقف من نجامينا يؤكد عدم مشاركة تشاد بأي عمل عسكري تجاه النيجر، باعتبار أن الرئيس التشادي كان قد ظهر في أول الأزمة وهو يلعب دور الوسيط بين بازوم وقادة الانقلاب؛ حيث قام بزيارة بازوم في قصره.
وفي هذا السياق، يرى بازوم أنه قدَّم لفرنسا خدمة كبيرة يجب أن تُبادِله فيها بالوفاء، حينما عرض على فرنسا استقبال قواتها المطرودة من مالي، وهو يعلم تمام العلم أن قرار التحالف مع فرنسا لا يحظى بشعبية كبيرة لدى شريحة كبيرة من مواطنيه، وأن هذا الأمر قد يحمل في طيَّاته مجازفة بخسارة الاستقرار الداخلي من خلال تأجيج المشاعر المعادية لفرنسا، خصوصاً بعد سقوط النظامين المُواليين لفرنسا في مالي وبوركينا فاسو، بحيث أصبح القرب من فرنسا عاملاً لإضعاف أقرب حلفائها الأفريقيين.
2– فرص تنفيذ عملية عسكرية مشتركة: يمكن لفرنسا والولايات المتحدة القيام بتدخل عسكري مشترك، خصوصاً أن للنيجر مكانة استراتيجية عند الولايات المتحدة أيضاً؛ حيث إنها تمتلك فيها قاعدة مهمة للطائرات من دون طيار (الدرونز) في مدينة أغاديز، بالإضافة إلى وجود ألف جندي أمريكي داخلها، ولكن بعض الآراء ترى أن التدخل الأمريكي لن يكون حلاً جيداً، خصوصاً أن الرأي العام الأمريكي لم يَنْسَ بعدُ آثار التدخل الكارثي الأمريكي في الصومال عام 1992، كما يمكن أن يؤدي حصول تدخل هكذا إلى انتشار دعاية مضادة عن عودة الاستعمار الغربي الجديد، وإلى تعظيم المشاعر المعادية لفرنسا في أفريقيا.
3– احتمالية نجاح خيار دعم المنظمات الإقليمية: أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية في 5 أغسطس 2023، أنها تدعم بحزم وتصميم جهود إيكواس لدحر المحاولة الانقلابية في النيجر، معتبرةً أن مستقبل النيجر واستقرار المنطقة بأسرها على المحك. وكانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا المعروفة بإيكواس قد هددت بالقيام بتدخل عسكري إذا لم يُسلِّم “المجلس الوطني لحماية الوطن” (الذي يُعبِّر عن السلطة العسكرية الجديدة في النيجر)، السلطة إلى الرئيس الدستوري المحتجز قبل مهلة انتهاء الإنذار المحدد في 6 أغسطس 2023.
وتُعَد نيجيريا والسنغال وساحل العاجل الدول الثلاث الوحيدة في إيكواس، التي صرَّحت علانيةً بأنها مستعدة لإرسال جنود للمشاركة في العمل العسكري ضد سلطة الانقلاب في النيجر. وفي المقابل، أعلنت مالي وبوركينا فاسو، في بيان صحفي مشترك، أن التدخل ضد نيامي سيُمثِّل “إعلان حرب” ضدهما.
وتشير تحليلات متعددة إلى استحالة تنفيذ خط أنابيب الغاز (لاجوس–الجزائر) المقترح إنشاؤه الذي يُعرَف باسم (Gazoduc Trans–Saharien) بطول 4000 كلم، والذي يمر حكماً عبر النيجر؛ وذلك في ضوء الانقلاب في النيجر؛ حيث إنه لم يَعُد ممكناً تنفيذ هذا المشروع في ظل انتشار عدم الاستقرار في النيجر، فيما تذكر تحليلات أخرى أن أحد عوامل تسريع هذا الانقلاب، هو رغبة روسيا في القضاء على هذا المشروع؛ لتجفيف مصادر أوروبا من الطاقة، خصوصاً بعد العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بعد حرب أوكرانيا؛ لذلك فإن لنيجيريا وفرنسا مصلحة مشتركة لإعادة نظام يكون متحالفاً معهما في النيجر لضمان مستقبل تنفيذ هذا المشروع.
4– تحويل الوجود العسكري إلى وجود تقني: انتهجت فرنسا صيغة جديدة للتعاون العسكري في القارة الأفريقية منذ فبراير 2023. وتهدف هذه الصيغة إلى تقليص عدد قواتها الدائمة هناك المُقدَّر عددها بـ6000 جندي مع تحويل دور القواعد العسكرية الدائمة (في أبيدجان وداكار وليبرفيل) إلى مراكز تدريب عسكرية غير مُكلَّفة بالتدخل العسكري. وترى بعض الآراء أن نجاح عمليات إجلاء الرعايا الفرنسيين والأوروبيين من السودان في مايو الماضي، وفي النيجر حالياً، يؤكد الفائدة التقنية للاحتفاظ بهذا النوع من الوجود العسكري.
5– استقرار باريس على الانسحاب العسكري من أفريقيا: ينظر البعض إلى الانقلاب العسكري في النيجر على أنه فشل سياسي جديد يُضاف إلى سلسلة الإخفاقات الفرنسية السابقة في أفريقيا، ويدل على عدم إجراء أي محاولة تقييم موضوعية للتجارب الخاسرة السابقة، التي أظهرت بوضوح أن الرأي العام الأفريقي لم يَعُد يتقبَّل الوجود العسكري الفرنسي على أراضيه بأي شكل من الأشكال؛ لذلك فإن هذه الآراء تعتبر أنه كان يجب على فرنسا أن تنسحب من الساحل الأفريقي بعد انتهاء عملية سيرفال (Opération Serval) في 2013، وأن التمديد للوجود العسكري الفرنسي عبر عملية برخان حوَّل هذا الوجود في نظر الأفارقة من قوة لمكافحة الخطر الإرهابي إلى قوة احتلال بحكم الأمر الواقع.
ختاماً، فإنه على المديين القصير والمتوسط، يمكن أن يؤسس نجاح الانقلاب في النيجر لنهاية حقبة من السيطرة التاريخية الفرنسية استمرت عدة عقود على منطقة الساحل الأفريقي. وتتأرجح التقييمات حول مدى صواب طريقة تعامل فرنسا مع الانقلاب في النيجر؛ فبعض الآراء ترى أنه كان يجب على فرنسا استمالة المجلس العسكري الجديد في النيجر والقطع مع سياسة العقوبات ووقف المساعدات التي اتبعتها الحكومة الفرنسية والتي أثبتت أنها لا تُجدي نفعاً، فيما يرى البعض الآخر أنه لا يمكن لفرنسا التخلي عن رئيس تم انتخابه بطريقة ديمقراطية وتأييد مجلس عسكري جاء عبر انقلاب عسكري حتى لو كان الأمر سيُفضي إلى انتقال السلطة العسكرية الجديدة إلى المعسكر الروسي، بما يمثل ذلك من تهديد للمصالح الفرنسية.