• اخر تحديث : 2024-04-30 13:50
news-details
أبحاث

واقع التنظيمات الإرهابية ومستقبلها في أفغانستان بعد عامين من الانسحاب الأمريكي


مقدمة

منحَ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي بدأ في 15 أغسطس 2021، حركةَ طالبان فرصة ذهبية للعودة إلى السلطة في البلاد، فالحركة التي أُطيح بها عبر غزو أمريكي للبلاد قبيل 20 عامًا من هذا التاريخ، نجحت في العودة إلى الحكم مجدَّدًا بعد أن دخلت العاصمة كابول وسيطرت على مقاليد الأمور خلال أيام الانسحاب على عكس ما توقعته الولايات المتحدة وحلفاؤها.

وساهمت عودة حركة طالبان إلى حكم أفغانستان في تعقيد ديناميكيات المشهد الجهادي في البلاد، فمع أنها تعهدت في اتفاق الدوحة للسلام الشامل، الذي وقّعته مع الولايات المتحدة الأمريكية في فبراير 2020، بعدم استضافة أيٍّ من التنظيمات أو الجماعات الجهادية على الأراضي الأفغانية، في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي، إلا أنها خالفت الاتفاق وسمحت لجهاديين أجانب من جماعات عديدة بالوجود على أراضيها، بما في ذلك أمير تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الذي قتل في كابول في 31 يوليو 2022.

ورفضت حركة طالبان الإقرار باستضافتها مقاتلين أجانب داخل أفغانستان، حتى إنها لم تؤكد رسميًّا مقتل أيمن الظواهري في كابول، كما أطلقت حملة ضد ولاية خراسان، الفرع المحلي لتنظيم "داعش"، وصوّرت تلك الحملة في منصاتها الدعائية بأنها تهدف إلى احتواء خطر الولاية وعدم السماح لها بشنّ هجمات خارجية، سواء ضد دول الجوار الأفغاني أو غيرها، لكنّ تلك الحملة لم توقف هجمات ولاية خراسان، سواء ضد طالبان أو المصالح الأجنبية في البلاد، وإن كانت تلك الهجمات انحسرت، إلى حد كبير، خلال الفترة الأخيرة.

ومن الناحية الأخرى، أشارت تقارير دولية رسمية وغير رسمية إلى وجود نشاط لحوالي 20 جماعة جهادية أجنبية داخل البلاد، تحاول بعضها شنّ هجمات خارج أفغانستان، ما يعني أن خطر التنظيمات والجماعات الجهادية لا يزال قائمًا.

وفي الحقيقة، فإن الوصول إلى معلومات دقيقة بشأن وجود ونشاط التنظيمات والجماعات الجهادية في أفغانستان يعدّ أمرًا صعب المنال في ظل حكم طالبان، ففي ظل نقص في المصادر الأولية التي يمكن الاعتماد عليها، يتم جمع غالبية المعلومات من تقارير تصدرها جهات مهتمة بالأوضاع في البلاد، بما في ذلك التقارير الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة، إلى جانب التقارير والبيانات الإعلامية التي قد لا تكون دقيقة في بعض الأحيان.

وتحاول الورقة الحالية تقديم تصوّر عن واقع التنظيمات الإرهابية ومستقبلها في أفغانستان، في الذكرى الثانية لبدء الانسحاب الأمريكي من البلاد، استنادًا إلى البيانات والمعلومات المتاحة.

تيارات طالبان والعلاقات مع التنظيمات الأخرى

قبل التطرق إلى واقع التنظيمات الإرهابية النشطة في أفغانستان، لا بد من الإشارة إلى أن حركة طالبان ليست تيارًا أو مكونًا واحدًا، بل عبارة عن تيارات ومكونات متباينة، بعضها يرفض أيَّ وجود للتنظيمات الجهادية الأخرى (الأجنبية) في البلاد، وبعضها يتسامح مع هذا الوجود، بل ويُرحب به. ولا تعدّ التباينات بين مكونات حركة طالبان أمرًا مستغرَبًا لأنها تشكّلت بالأساس من مكونات مختلفة من طلاب المدارس الدينية وشيوخها "المولوية"، بجانب أمراء الحروب "الكومندنات" وغيرهم من قادة الأحزاب التي شاركت في القتال إبان ما عُرف بـ "الجهاد الأفغاني" ضد الاتحاد السوفيتي.

وعلى أساس هذه التباينات اختلفت وجهات النظر داخل الحركة، قبل الغزو الأمريكي، بشأن التعامل مع المقاتلين الأجانب، وخصوصًا العرب ممن انضموا إلى تنظيم القاعدة، فرأى تيارٌ، على رأسه المُلَّا محمد عمر، مؤسس حركة طالبان، إيواءَ أفراد هذه التنظيمات والسماح لهم بالوجود في أفغانستان دون منحهم إذنًا بشنّ هجمات خارجية، وهو ما خالفه تنظيم القاعدة عندما نفّذ هجمات 11 سبتمبر 2001.

أما التيار الثاني أو ما يُعرف بتيار طالبان الوطنية، الذي يحلو للجهاديين أن يسموه "التيار الفاسد"، فقد رأى ضرورة قطع الصلات مع التنظيمات السلفية الجهادية وطردها من البلاد؛ خوفًا من إضرار هذه التنظيمات بمصالح البلاد، علاوة على الخلاف العقدي لهذه التنظيمات مع طالبان، التي تقتفي أثر المدرسة الديوبندية: ماتريدية العقيدة، حنفية المذهب.

ولم تسمح حالة الانهماك التشغيلي والتحديات التي عايشتها حركة طالبان إبان فترة حكمها الأول (1996: 2001) بظهور التباينات الداخلية بين تيارات الحركة، بَيْدَ أن الصدمة التي تلقتها بعد 11 سبتمبر 2001 بإطاحة حكمها من أفغانستان بفعل الغزو الأمريكي، ساهمت في صعود التيار الرافض للمقاتلين الأجانب أو المهاجرين. فبعد سقوط نظام طالبان، أواخر عام 2001، لجأ عدد من كبار قادة طالبان القندهاريين إلى كويتا الباكستانية وكوَّنوا مجلس قيادة طالبان الشهير بـ "مجلس شورى كويتا"، وبدؤوا بإعادة بناء شبكاتها مرة أخرى، وبدا واضحًا وقتها أن الديناميات الداخلية للحركة تتغير وأن نهجها الجديد سيكون أكثر براجماتية وأقل تمسكًا بالنهج القديم الذي تسامح مع وجود المقاتلين الأجانب داخل أفغانستان، وأدى إلى الإطاحة بحكم الحركة.

ونجح مجلس شورى كويتا في الإمساك بمقاليد الأمور داخل حركة طالبان إلى حدٍّ كبير، حتى مع وجود معارضة لنهجه أدت أحيانًا إلى حدوث انشقاقات قمعتها قيادة الحركة، ولعل هذا هو ما أقلق زعيم القاعدة المؤسس أسامة بن لادن، الذي وصف النهج الجديد للحركة بأنه مقدمة لاستئصال التيار الجهادي الصادق -الداعم للجهاد المعولَم- في مقابل تصعيد "التيار المهادن" المدعوم من الاستخبارات الباكستانية (ISI) .

وفي الإطار نفسه، سعت التنظيمات الجهادية العابرة للحدود الوطنية (تنظيمات الجهاد المعولم) إلى تأمين وجودها في البلاد عبر الارتباط بشبكة حقّاني التي رأت أنها قد تستفيد منها في بناء قدراتها وزيادة مواردها واكتساب خبرات قتالية إضافية تُعزز موقفها في التنافس مع أعضاء مجلس شورى كويتا القندهاريين، وهو التنافس الذي له جذور قبلية وجغرافيّة أيضًا ترجع إلى انحدار حقاني من قبائل الشرق، وتحديدًا قبيلة "زدران" في بكتيكا شرقي أفغانستان، وانحدار المجموعة القندهارية من قبائل دورني وغيرها من قبائل الجنوب الأفغاني.

ويمكن النظر إلى العلاقات بين شبكة حقاني وتنظيمات الجهاد المعولم باعتبارها علاقة مصلحة، توفّر فيها الشبكة الإيواء والحماية لأفراد هذه التنظيمات، فيما تقوم الأخيرة بتوفير الدعم اللوجيستي والعملياتي للشبكة، وتظهر أن شبكة "حقاني" التي تعتبر جزءًا من طالبان تؤيد نهج الجهاد المعولم الذي تتبناه هذه التنظيمات.

ومع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، اتجهت شبكة حقاني لتعزيز نفوذها وزيادة استقلالها التكتيكي عبر الاستيلاء على المؤسسات السيادية في البلاد، بما في ذلك وزارة الداخلية والمديرية العامة للاستخبارات، كما استولت على الإدارات المسؤولة عن إصدار وثائق الهجرة وجوازات السفر، بجانب قيادتها لفيلق قوات النخبة الطالبانية "بدري 313".

ويمكن القول إن تنامي قدرات الشبكة العملياتية مكّنها من العمل بمزيد من الحرية مع التنظيمات الجهادية الأجنبية، وربما كان سببًا من الأسباب التي حفزتها لاستضافة زعيم القاعدة أيمن الظواهري في أحد المنازل المملوكة لأحد مساعدي سراج الدين حقاني في كابول؛ حيث قُتل في غارة أمريكية أواخر يوليو 2022.

ومع أن التباينات داخل طالبان برزت بشكل أوضح بعد وصولها إلى السلطة، إلا أن قيادة الحركة حافظت على التماسك والتوازن بين تياراتها الرئيسية (مجلس شورى كويتا، وشبكة حقاني، وتيار المكتب السياسي برئاسة المُلَّا عبدالغني برادار، إلى جانب تيار المُلَّا يعقوب، نجل مؤسس الحركة ووزير الدفاع الحالي). وسمح التعايش الحرج بين هذه التيارات بإبقاء جسور الصلة ممدودة بين التنظيمات الجهادية الأجنبية وبعض تيارات حركة طالبان، لكن قيادة الحركة فضّلت ألا تُصرح بذلك علنًا، بل وعمدت إلى نفيه من أجل أن تسوّق نفسها لكسب الشرعية والاعتراف في المجتمع الدولي.

التنظيمات النشطة في أفغانستان

هناك مجموعة من التنظيمات الإرهابية النشطة في أفغانستان ويمكن تناولها على النحو التالي:

1. تنظيم القاعدة

بقيت العلاقة بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان قائمة، حتى مع رفض مجلس قيادة الحركة لنهج الجهاد المعولم، وساعدت الروابط الموجودة بين التنظيم وشبكة حقاني الأفغانية في إعادة تنشيط جزء من شبكات القاعدة التي وُجِدت في أفغانستان سابقًا.

وقد أبدت القيادة العامة (العليا) لتنظيم القاعدة وأفرعه المختلفة، ابتهاجًا بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان ووصفته بأنه "انتصار إسلامي تاريخي"، وباركت لأمير حركة طالبان المُلَّا هبة الله أخوند زاده، سيطرة الحركة على السلطة في البلاد واعتبرتها تتويجًا لمسيرة بدأها الملا محمد عمر، في لفتة توحي بأن التنظيم أراد تأكيد ولائه لطالبان وتذكيرها بالعلاقات التاريخية بينهما. من ناحيتها، تجنّبت قيادة الحركة الإقرار علنًا بوجود صلات مع تنظيم القاعدة، حتى بعد مقتل "الظواهري" في كابول، لكيلا يكون ذلك مثارًا للطعن بالتزام الحركة بمخرجات اتفاق السلام الذي ينص على عدم السماح للقاعدة أو أيٍّ من التنظيمات الإرهابية الأخرى بإيجاد ملاذ آمن في أفغانستان.

ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن مجلس الأمن الدولي، فإن تنظيم القاعدة يعمل سرًّا في أفغانستان من أجل إعادة بناء شبكاته، ويستخدم البلاد كمركز لوجيستي وأيديولوجي لتعبئة وتجنيد مقاتلين جدد وإعادة بناء قدراته على شنّ هجمات خارجية، وذكر التقرير أن شبكة حقاني وفّرت هويات وطنية أفغانية لعناصر القاعدة الموجودين على أراضي البلاد كما أن خلايا التنظيم في أفغانستان تشرف عليها الإدارة 12 التابعة للمديرية العامة للاستخبارات، وهي المسؤولة عن المقاتلين الأجانب، وهذا يعدّ دليلًا إضافيًّا على الارتباط بين شبكة حقاني التي تسيطر فعليًّا على الأمن والاستخبارات في عموم أفغانستان

ويُقدّر مجلس الأمن أعداد مقاتلي القاعدة الموجودين في أفغانستان بنحو 400 مقاتل، منهم 30 إلى 60 من كوادر التنظيم المخضرمين، في مقدمتهم أبو إخلاص المصري، أحد قادة كتيبة "عمر الفاروق" التابعة للقاعدة في أفغانستان التي تضم أيضًا كوادر آخرين، من بينهم عبدالحكيم المصري، وطلحة السعودي، وقتال الحجازي. وإلى جانب هؤلاء المقاتلين، توجد قيادة فرع القاعدة في شبه القارة الهندية، المعروف أيضًا باسم "أنصار غزوة الهند"، داخل أفغانستان ويقود هذا الفرع، حاليًّا، أسامة محمود، أمير القاعدة في شبه القارة الهندية، ونائبه عاطف يحيى غوري، بينما يتولى القيادي محمد معروف مسؤولية التجنيد والاستقطاب. ويتوزع وجود خلايا القاعدة في ولايات بجنوب ووسط وشرق أفغانستان، ويشارك كوادر القاعدة المتبقّون في أفغانستان كمدربين في معسكرات حركة طالبان ويقومون أيضًا بأداء أنشطة إعلامية لصالح التنظيم.

ويطمح فرع القاعدة في شبه القارة الهندية (يتراوح عدد مقاتليه من 200 إلى 400 مقاتل) إلى إيجاد قواعد عملياتية خارج أفغانستان والتمدد نحو ساحات جديدة في بنجلاديش وميانمار، وهو ما يتضح من تحليل الرسائل الإعلامية التي ينشرها بلغات، منها: الأوردية والبورمية والبنغالية، محاولًا التركيز على المظالم المحلية في تلك الدول ودعوة المسلمين فيها للانضمام إليه.

وعلى صعيد متصل، راجت في الفترة التي تلت مقتل أيمن الظواهري، تكهنات بأن قيادة القاعدة، بما في ذلك لجنة حطين (مجلس الشورى القيادي)، وعلى رأسه سيف العدل، المرشح الأبرز لخلافته -الذي يقيم في إيران ولم يُنصَّب أميرًا رسميًّا للتنظيم حتى الآن- ستنتقل إلى أفغانستان لقيادة التنظيم، ولاسيما أن وثيقة البيعة التي تعهَّد بها مقاتلو التنظيم تُحدد 4 خلفاء محتمَلين لأمير القاعدة الراحل (قتل ثلاثة منهم وبقي سيف العدل)، وتشترط وجوده في أفغانستان (خراسان)، أو أي فرع من أفرع القاعدة الأخرى حتى يصبح أميرًا للتنظيم.

غير أن سيف العدل أو لجنة حطين لم ينتقلا إلى أفغانستان بسبب معارضة حركة طالبان، على الأرجح، وهذا يعني عدم صحة الشائعات التي تحدثت عن وجوده وقيادة القاعدة العليا في البلاد، والتي أوردها تقرير فريق الدعم التحليلي بمجلس الأمن في آخر تقاريره عن طالبان، في يونيو الماضي، قبل أن يعود وينفيها في أحدث تقرير له عن داعش والقاعدة الصادر في يوليو المنصرم.

وتُبيِّن تلك المعلومات أن قيادة حركة طالبان على تَوافقٍ واستعداد أكبر لِتقبُّل قيادات القاعدة من غير العرب، وخاصة أمراء القاعدة في شبه القارة الهندية الذين يتبنّون وجهة نظر متطابقة إلى حدٍّ كبير مع تلك التي تتبناها قيادة طالبان العليا، في مقابل وجود حالة من الفتور تجاه وجود قادة القيادة العامة للقاعدة المنحدرين من دول عربية.

وبنظرة تحليلية إلى المعلومات المتاحة عن وضع شبكة القاعدة في أفغانستان يتضح وجود مبالغة في بعض التقديرات بشأن طبيعة وجود التنظيم داخل البلاد، مع أن العديد من الشواهد، من بينها تأخُّر إصدار البيانات الإعلامية المرتبطة بالأحداث الجارية، تشير إلى أن القيادة العامة للقاعدة تُعاني وليس لديها ملاذ آمن حقيقي يمكِّنها من أداء مهامها الروتينية بسلاسة، وهو ما يُعدُّ دليلًا إضافيًّا على وجود تضخيم لحالة التنظيم في الوقت الحالي.

2.    تنظيم ولاية خراسان/ داعش خراسان

على النقيض من تنظيم القاعدة، الذي يحتفظ بعلاقات ودية إلى حدٍّ كبير مع حركة طالبان، يخوض تنظيم ولاية خراسان، الفرع المحلي لتنظيم "داعش" تمردًا مسلحًا في مناطق بشرق ووسط وشمال البلاد ضد طالبان، التي يصفها بأنها حركة وطنية مرتدة. ويتولى شهاب المهاجر (ثناء الله جبار خان غفاري) إمارة ولاية خراسان، وهو أحد كوادر الحرس الرئاسي الخاص إبان حكم الرئيس السابق أشرف غني، وراجت في يونيو الماضي شائعات حول مقتله في عملية للاستخبارات الأفغانية، لكنها لم تتأكد، ويتولى تميم الكردي، المعروف بأبي أحمد المدني، إمارة مكتب الصديق ومقره أفغانستان، وهو واحد من ثمانية مكاتب تعمل كقيادات إقليمية لداعش.

ويُقدَّر عدد مقاتلي تنظيم ولاية خراسان بين 2000 و6000 مقاتل، ويُوصَف بأنه أخطر تهديد أمني يواجه حركة طالبان، ونجح، على مدى العامين الماضيين، في تنفيذ عدد من الهجمات الكبرى استهدفت مقارَّ دبلوماسية، من بينها السفارتان الروسية والباكستانية، وفندق يرتاده رجال أعمال صينيون في العاصمة كابول. كما أطلق التنظيم حملة اغتيالات مركزة استهدفت كبار قادة الحركة الأفغانية ونجح في تصفية 6 من كبار قادتها، في غضون العامين الماضيين، منهم رحيم حقاني، أحد أبرز شرعييّ الحركة، والمُلَّا حمدالله مخلص، قائد وحدة كابول في فيلق النخبة "بدري 313"، بالإضافة إلى الملا محمد داوود مزمل، حاكم ولاية بلخ شمالي أفغانستان، علاوة على تخطيطه لاغتيال سراج حقاني والمُلَّا يعقوب.

ويلمِّح تطوّر قدرات التنظيم العملياتية إلى اكتسابه خبرات نوعية جديدة، ربما جراء انضمام ضباط وكوادر سابقين خدموا بالجيش والاستخبارات الأفغانية السابقة إليه؛ حيث يُركز على استقطاب الضباط والجنود السابقين، كما يحاول اللعب على وتر التوترات الإثنية والتوترات بين السلفيين الأفغان وطالبان التي أغلقت مدارسهم واعتقلت أفرادًا منهم، لضم السلفيين إلى صفوفه، كما استقطب مقاتلين أجانب من وسط وجنوب آسيا، بينهم إيغوريون، ونفَّذ بعضهم هجمات انتحارية. كما وثَّق التنظيم ارتباطه بالشبكة المالية العالمية للتنظيم الأم (داعش)، وتلقَّى عن طريقها أموالًا استخدمها في شنّ هجمات كبرى، من بينها هجوم مطار كابول في أغسطس 2021. كما أصبحت ذراعه الإعلامية فاعلة في الحرب الدعائية التي يخوضها التنظيم، حتى أنه أصدر مجلته الخاصة "صوت خراسان"، لكن يُلاحظ أنه خرج في بعض الأحيان عن الإطار الذي رسمه ديوان الإعلام المركزي، وهو ما دفع بالأخير إلى فرض رقابة إضافية على المحتوى الدعائي المنشور عبر "ولاية خراسان" ومناصريها.

وتبرهن المعطيات السابقة على أن تنظيم ولاية خراسان لديه طموحات وتطلعات عالمية، فمع أنه يخوض حرب تكسير عظام ضد حركة طالبان إلا أنه يواصل التأكيد على أن لديه أهدافًا عالمية باعتباره واحدًا من أهم أفرع داعش الخارجية، ولذا فإن تقييم الاستخبارات الوطنية الأمريكية للتهديدات في عام 2023، أكد نيّات الولاية شنَّ هجمات خارجية داخل الغرب.

تنظيمات أخرى

وبخلاف تنظيم القاعدة وولاية خراسان، تنشط جماعات وتنظيمات جهادية أخرى عديدة في أفغانستان، من أبرزها حركة تحريك طالبان (طالبان-باكستان)، والحزب الإسلامي التركستاني، ومجموعات أوزبكية وطاجيكية أخرى.

وتعدّ طالبان-باكستان الأقرب لنظريتها الأفغانية، وتقيم قيادة الحركة، وعلى رأسها أمير نورالدين محسود وأغلب مقاتليها الذين تُقدّر أعدادهم ببضعة آلاف مقاتل في مناطق الحدود الشرقية المحاذية لباكستان (في ننجرهار وبكتيكا وباكتيا وخوست). وقد انهارت الهدنة التي عقدتها تحريك طالبان مع الحكومة الباكستانية بوساطة من شبكة حقاني وحركة طالبان الأفغانية، في نوفمبر 2022، ومنذ ذلك الحين شنّت الحركة هجمات ضد قوات الجيش والأمن في باكستان.

ومن بين التنظيمات النشطة أيضًا، الحزب الإسلامي التركستاني، الذي يتكون من مقاتلين إيغوريين يُقدَّر عددهم ببضع مئات، ويقوده حاليًّا "عبدالحق التركستاني"، القريب من قيادة القاعدة، ويتبنّى الحزب استراتيجية عمل طويلة المدى تشمل تدريب مجموعات إيغورية داخل معسكرات الحزب في أفغانستان بالتنسيق مع القاعدة وطالبان، وقد حاولت ولاية خراسان استقطاب الإيغوريين لكنها فشلت في تحقيق ذلك بشكل كامل حتى الآن.

ومن اللافت للانتباه أن حركة طالبان نجحت في إيجاد توازن استطاعت من خلاله الاحتفاظ بصِلاتها مع تحريك طالبان والحزب الإسلامي التركستاني، دون أن تتأثر علاقتها بكلٍّ من باكستان والصين، وهذا يُعطي لمحة عن النهج البراجماتي الذي ستتمسك به الحركة الأفغانية، الآن ومستقبلًا.

مستقبل التنظيمات الجهادية في أفغانستان

تأسيسًا على ما تقدّم، يمكن افتراض أن العلاقات بين حركة طالبان والتنظيمات الجهادية المقرَّبة منها والموجودة في أفغانستان ستظل قائمة لجملة من الاعتبارات، منها نهج الحركة وقناعتها الذاتية فيما يتعلق بالجهاد القتالي، والروابط الموجودة بينها وبين تلك المجموعات، علاوة على الاستفادة السياسية والمالية التي تجنيها الحركة من خلال تلك العلاقة.

وفي ضوء هذه الروابط العتيقة بين الطرفين، يُستبعَد أن تقوم طالبان بقطع صلاتها مع تنظيم القاعدة أو أيٍّ من التنظيمات الجهادية الحليفة لها، حتى في حال استمر الضغط الأمريكي والغربي على الحركة، إذ أثبتت الأخيرة أنها تمكّنت من التكيف مع هذه الضغوط طوال عامين دون أن تؤدي تلك الضغوط إلى تغيير جذري في نهج وسلوك طالبان.

وبدورها، لا تُبدي التنظيمات الجهادية علامات على وجود خوف أو توجس من تحوِّل الأوضاع في أفغانستان، على المدى القريب، على الأقل، ومن ثم فإن التنظيمات تواصل غرس جذورها في التربة الأفغانية وتأسيس قواعد للعمل والدعم في البلاد تحت سمع وبصر طالبان. ويُحتمَل أن تلجأ حركة طالبان إلى بعض التكتيكات من أجل تأمين وجود حلفائها القريبين، ومن هذه التكتيكات، دمج أفراد وكوادر التنظيمات الجهادية في الجيش وأجهزة الأمن الأفغانية، وهو أمر غير مستبعَد، بل قد يحدث بعد أن يتم منح هؤلاء الأفراد هويات جديدة أو جنسيات أفغانية والسماح لهم بلعب دور أكبر.

أما القيادة العامة لتنظيم القاعدة فسوف تستفيد من المساحة الممنوحة لها من أجل إعادة بناء وترميم الهيكل القيادي والتنظيمي للتنظيم المتضرر بفعل الحملة الطويلة ضده، دون أن تخرج القيادة عن التفاهمات المبرَمة مع طالبان لعدد من الأسباب، منها اختلاف السمات الشخصية بين أمراء القاعدة الحاليين ونظرائهم من جيل القاعدة المؤسس، وتبنّي الأمراء الحاليين مبدأ الصبر الاستراتيجي بما يتضمنه من استعداد جيد قبل أن يقرروا أن يضربوا خارج الحدود، كما فعل التنظيم من قبل.

وعلى الناحية الأخرى، ستبقى العلاقة عدائية بين طالبان وتنظيم ولاية خراسان، المرتبط بتنظيم داعش، وسيسعى كل منهما لتدمير الآخر، وقد تستفيد الحركة الأفغانية من حلفاء إقليميين ودوليين في حربها الطويلة مع التنظيم. وعلى الصعيد ذاته، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يزالون في حاجة إلى مساندة حركة طالبان من أجل إجهاض أي مخططات أو مؤامرات إرهابية تسعى "ولاية خراسان" لتنفيذها، فحتى مع إضعافه إلى حدٍّ كبير، يبقى قادرًا على اجتذاب مقاتلين جدد والتخطيط لشنّ هجمات خارجية ضد حلفاء ومصالح الولايات المتحدة، كما تقول الاستخبارات الوطنية الأمريكية. وبالطبع فإن الولايات المتحدة لن تعود إلى أفغانستان ثانيةً، كي تقاتل ضد ولاية خراسان، ولذا فإن البديل أمامها هو اتباع استراتيجية "ما وراء الأفق" التي تعتمد على شنّ هجمات بطائرات من دون طيار ضد الأهداف والأشخاص الذين يُهددون أمن الولايات المتحدة ومصالحها، وهذه الاستراتيجية لن تنجح إلا بوجود دعم من مصادر استخبارات بشرية على الأرض، وهو ما يمكن أن توفّره حركة طالبان. وسيتطلب الأمر، في هذه الحالة، من واشنطن وطالبان أن تُنحِّيا خلافاتهما جانبًا وتتعاونا من أجل منع تمدد ولاية خراسان، وربما يؤدي التقارب البراجماتي بينهما إلى تسامح الولايات المتحدة مع وجود تنظيمات جهادية أجنبية لا تستهدف مصالح أمريكا وحلفائها، كالحزب الإسلامي التركستاني مثلًا، غير أن هذا، إن حدث، فلن ينطبق بأي حال من الأحوال على تنظيمَي داعش، والقاعدة.

خاتمة

تكشف المراجعة الجادة لأداء حركة طالبان، على مدى العامين الماضيين، وجود تغيير نسبي في تعامل الحركة مع التنظيمات الجهادية الأجنبية المقرَّبة منها، بينما بقي تعامل الحركة مع خصومها ثابتًا ويعتمد على اتباع الأسلوب الاستئصالي وعدم التسامح مع الخارجين عن نهج الحركة أو المنشقين عنها. وقد نجحت حركة طالبان، إلى حدٍّ ما، في إدارة المخاطر التي يفرضها وجود العديد من التنظيمات والمجموعات الجهادية داخل أفغانستان، فهي تسعى لاحتوائها بصورة ذكية؛ بحيث تبقى هذه التنظيمات تعمل داخل الإطار المرسوم لها من قِبَل الحركة ولا تخرج عنه بصورة تؤدي إلى الإضرار بمصالحها أو توريطها في صراعات جديدة مع قوى أجنبية، على غرار ما حصل سابقًا بعد هجمات 11 سبتمبر، ويبدو أنها ستواصل تحقيق نجاحات في هذا الصدد في الفترة المستقبلية. غير أن هذا النجاح الذي حققته طالبان قد يتحول إلى فشل ذريع في حال اضطربت الأوضاع الداخلية في البلاد أو عمَّتها الفوضى لأي سبب من الأسباب، إذ إن تلك الفوضى قد تحفّز مجموعات جهادية للخروج عن التفاهمات المبرَمة مع طالبان وشنّ هجمات خارجية تعيد إدخال الحركة وأفغانستان إلى النفق المظلم مرةً ثانيةً.