عُقد ببروكسل "المنتدى العالمي لمستثمري البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى" يومي (29 و30) يناير 2024، بغية بحث الشراكة طويلة المدى بين الطرفين، وبختامه أعلن الاتحاد عن ضخ 10 مليارات يورو للاستثمار في ممر النقل عبر بحر قزوين الذي سيربط آسيا الوسطى بالدول الأوروبية خلال رحلة برية مدتها 15 يوماً؛ ما يدشن مرحلة جديدة للتعاون بين الطرفين ويعزز نفوذ الاتحاد بالمنطقة، وينافس نفوذ القوى الإقليمية بها، وأبرزها روسيا التي دعا ممثل الاتحاد للشؤون الخارجية "جوزيب بوريل" دول آسيا الوسطى إلى فرض عقوبات عليها، بيد أنها لم تستجب لتلك الدعوات حتى الآن؛ للحفاظ على الروابط السياسية والاقتصادية المشتركة مع روسيا، ولحرصها على استمرار التوازن في علاقتها الخارجية بين موسكو والدول الغربية، بيد أن هذا الموقف سيعرضها للمزيد من الاستقطاب الدولي من عدة قوى كبرى، أبرزها الاتحاد الأوروبي؛ وذلك في ضوء التغيرات الجيوسياسية بالقوقاز وآسيا الوسطى بعد الحرب الأوكرانية.
استراتيجية أوروبية
تتميز دول آسيا الوسطى (كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان) بموقعها الاستراتيجي؛ حيث تتوسط القوى الإقليمية بآسيا، فضلاً عن وفرة مصادر الطاقة والمعادن النادرة بها، وقد اعترف الاتحاد الأوروبي باستقلالها عام 1992، وكثف اهتمامه بالمنطقة خلال العامين الماضيين بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان بأغسطس 2021، وبدء الحرب الروسية بأوكرانيا في 24 فبراير 2022. وتتمثل ملامح السياسة الأوروبية تجاه آسيا الوسطى فيما يلي:
1– تطور الاستراتيجية الأوروبية تجاه آسيا الوسطى: عين الاتحاد الأوروبي ممثلاً خاصاً له لآسيا الوسطى عام 2005، وأصدر استراتيجية عام 2007 للتعاون مع آسيا الوسطى بمجالات (حقوق الإنسان، والاقتصاد، والبيئة، والطاقة، والأمن، والنقل)، ثم عام 2019 أُصدرت استراتيجية جديدة بعنوان "فرص جديدة لشراكة أقوى" تهتم بالتعاون الإقليمي والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان. وفي منتصف يناير 2024 دعا البرلمان الأوروبي، في تقرير له، إلى تطوير استراتيجية التعاون مع دول آسيا الوسطى لتحقيق أقصى استفادة منها في ظل التغيرات الجيوسياسية بالمنطقة بعد بدء الحرب الروسية بأوكرانيا.
ومن المقرر أن تُعقد عام 2024 أول قمة بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى بعد اعتماد خارطة الطريق المشتركة الجديدة بين الطرفين. ويعد الاتحاد أكبر جهة مانحة لآسيا الوسطى؛ حيث قدم لها (1.1) مليار يورو مساعدات خلال الفترة (2014–2020)، كما أنه أكبر مستثمر بها بنسبة تصل (42%) من حجم الاستثمارات الخارجية، وبلغت استثماراته في العقد الأخير نحو (105) مليارات يورو تركزت بمجال الطاقة.
2– تكثيف الاهتمام الأوروبي بآسيا الوسطى بعد حرب أوكرانيا: مثَّل التدخل العسكري الروسي بأوكرانيا منذ بدايته في 24 فبراير 2022، دافعاً هاماً لإعادة التركيز الأوروبي على منطقة آسيا الوسطى بحكم أهميتها الاستراتيجية لموسكو؛ حيث توصف بأنها "الفناء الخلفي ومجالها الحيوي"؛ ما يعظم أهميتها لتعزيز الأمن الأوروبي في ظل استمرار المواجهة الروسية مع دول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لا سيما في ظل احتمالات توسع نطاقها الجغرافي لتتجاوز الحدود الأوكرانية.
3– دعم ملف الطاقة للتقارب بين أوروبا وآسيا الوسطى: شكلت ورقة الطاقة محدداً هاماً في العلاقات بين أوروبا وآسيا الوسطى؛ إذ تعمل الدول الأوروبية لإيجاد بديل عن الغاز الروسي الذي كان يمثل المورد الرئيسي لأوروبا؛ حيث تملك آسيا الوسطى احتياطيات نفطية تبلغ (31.25) مليار برميل و(415.4 تريليون م3) من الغاز الطبيعي و(2.7%) و(0.07%) من الاحتياطيات العالمية من الفحم واليورانيوم على التوالي.
ولذا عقد الاتحاد الأوروبي أول قمة سنوية مع دول المنطقة ضمن صيغة (C5+1)، بكازاخستان في أكتوبر 2022، والثانية بقيرغيزستان في يونيو 2023، وبحثتا تطوير التعاون بمجال الطاقة والنقل، وتكثفت زيارات الوفود الأوروبية إلى دول المنطقة، وأكد الاتحاد أنه يبحث عن ممرات نقل جديدة من آسيا الوسطى إليه لنقل النفط والغاز. في المقابل رحبت آسيا الوسطى بذلك الاهتمام، وبضخ المزيد من الاستثمارات باقتصادها؛ لأنه سيؤدي إلى تحقيق توازن مع النفوذ الاقتصادي والسياسي الروسي والصيني بها.
4– الاستثمار الأوروبي بمشروعات النقل الإقليمي: عُقد في العاصمة البلجيكية بروكسل المنتدى العالمي لمستثمري البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى (Global Gateway) نهاية يناير 2024، وأعلن نائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية "فالديس دومبروفسكيس" أن الهدف منه "بحث الاستثمارات اللازمة لتحويل ممر النقل عبر قزوين إلى طريق متطور ومتعدد الوسائط وفعال، يربط أوروبا وآسيا الوسطى في غضون 15 يوماً".
وقد شارك في المنتدى ممثلون لدول آسيا الوسطى الخمس ودول الاتحاد والمفوضية الأوروبية، وبختامه وقع بنك الاستثمار الأوروبي مذكرة تفاهم مع قيرغيزستان تبلغ (150) مليون يورو لتمويل مشاريع النقل بها، ووقع مع كازاخستان مذكرة مماثلة بقيمة (500) مليون يورو، كما وُقعت مذكرة بين بنك التنمية الكازاخستاني وبنك الاستثمار الأوروبي بمبلغ إجمالي (320) مليون يورو لتطوير قطاع النقل في منطقة آسيا الوسطى؛ حيث يستثمر بنك الاستثمار الأوروبي ما يقرب من 11 مليار يورو في البنية التحتية للنقل بالمنطقة.
وجدير بالذكر أن عقد المنتدى يأتي لتطبيق توصيات دراسة المفوضية الأوروبية بشأن ممرات النقل المستدامة بين الاتحاد وآسيا الوسطى، التي حددت احتياجات البنية التحتية بالمنطقة ودعت إلى الاستثمار بها. ويطرح المنتدى "مبادرة البوابة العالمية"، وهي استراتيجية لربط الاتحاد ببقية أنحاء العالم، من خلال تشجيع الاستثمار العام والخاص في شبكة عالمية من (سلاسل النقل والتوريد، والطاقة الخضراء، والاتصالات الحديثة، والتعليم والبحث العلمي)، ويهدف إلى إيجاد بديل عن "الممر الشمالي" الذي تتحكم به روسيا لنقل موارد الطاقة من آسيا الوسطى إلى دول الاتحاد.
5– الترويج للنموذج الأوروبي في آسيا الوسطى: أوضح "بوريل" خلال المنتدى أن "المبدأ الأساسي للتعاون مع دول آسيا الوسطى ينص على أن النموذج الأوروبي للتواصل الموثوق مع الدول الشريكة، الطويل الأجل الذي يتوافق مع مصالح الاتحاد الأوروبي وقيم سيادة القانون وحقوق الإنسان والأعراف والمعايير الدولية وتطوير البنى التحتية للنقل؛ سيحقق الهدف السياسي المتمثل في زيادة التعاون لتقاسم مستقبل أفضل من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية وحماية القيم المشتركة". وبهذا يكون الاتحاد الأوروبي يتبع سياسة "طويلة الأمد" لنشر قيمه وثقافته الديمقراطية المنفتحة المعتمدة على السوق الحر وحرية الرأي والتعبير بدول آسيا الوسطى التي تتسم مجتمعاتها بالاتجاه المحافظ والحكم الشمولي، وهو ما سيؤدي حال تنفيذه على المدى الطويل إلى تنشئة جيل جديد من القيادات المجتمعية والسياسية بدول المنطقة توالي الاتحاد الأوروبي وتتبع سياسته؛ ما سيقلص النفوذ الروسي والصيني بالمنطقة.
6– تشجيع آسيا الوسطى على فرض عقوبات على روسيا: يحث الاتحاد الأوروبي منذ عامين دول آسيا الوسطى على فرض عقوبات على روسيا. وقد دعا "بوريل" خلال المنتدى دول المنطقة إلى التعاون مع الاتحاد "لإحكام قبضة العقوبات ضد روسيا؛ لأنها أصبحت شريكاً رئيسياً له ومركز كل الأحداث". وفي أغسطس 2023 أوضح رئيس المجلس الأوروبي "شارل ميشيل" أن "الاتحاد يريد بدء حوار مع دول آسيا الوسطى حول الامتثال للعقوبات ضد روسيا، ويعتزم اتخاذ إجراءات ضد من يساعدون في الالتفاف عليها". ولوح الاتحاد من قبل بفرض عقوبات على دول آسيا الوسطى ما لم تلتزم بفرض عقوبات على روسيا.
حيث يتهم الاتحاد دول المنطقة بأنها تتجاوز العقوبات عبر استيراد سلع وبضائع أوروبية ثم بيعها لموسكو؛ ما أدى إلى رفع التبادل التجاري بين آسيا الوسطى وروسيا خلال عام 2023. وإذا تمسكت دول المنطقة بموقفها الرافض لفرض عقوبات على روسيا للحفاظ على مصالحها الاقتصادية معها فإن هذا سيعرضها لاحتمالية فرض عقوبات اقتصادية أوروبية عليها؛ لاستمرار تعاملها مع روسيا؛ ما سيعرض اقتصادها لخسائر جمة ويهدد بوقف المشروعات التنموية بين الاتحاد وآسيا الوسطى، وربما تلجأ إلى تعزيز تعاونها أكثر مع روسيا؛ ولذا سيكون على دول المنطقة الاختيار بين استمرار تعاملها مع روسيا أو التخلي عن ذلك لتعزيز تعاونها مع الاتحاد الأوروبي.
تداعيات محتملة
يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي قد نجح في تعزيز نفوذه خلال العامين الماضيين بآسيا الوسطى، بيد أن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق هدفه المتمثل في استجابة دول المنطقة لدعواته بفرض عقوبات على روسيا. ورغم طرح الاتحاد عدداً من المبادرات والمشروعات التنموية الطموحة المزمع تنفيذها مع دول المنطقة، فإنها ربما تتوقف بفعل الخلافات بين دول الاتحاد أو قلة التمويل اللازم لها. وفي كل الأحوال فإن الاهتمام الأوروبي بآسيا الوسطى سيكون له عدد من التداعيات الإقليمية على المنطقة، منها:
1– تعزيز فرص التعاون الاقتصادي الإقليمي: طرح المنتدى العالمي للاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، ضخ 10 مليارات يورو للاستثمار في ممرات النقل الإقليمية وتطوير البنية التحتية بالمنطقة؛ ما سيؤدي إلى تعزيز فرص التعاون الاقتصادي الإقليمي بين الدول الخمس من جهة، ومع دول جوارها من جهة آخرى، خاصة (أذربيجان، والهند، وتركيا)؛ حيث تطرح كل منها مشروعات إقليمية متشابهة للربط الإقليمي.
2– احتدام التنافس على الممرات الإقليمية: كثر الحديث عن ممرات النقل الإقليمية بآسيا الوسطى، وكل قوى نافذة بالمنطقة لها مشروعها الذي تعمل عليه لتصبح معبراً لنقل مصادر الطاقة من الدول الحبيسة إلى القارة الأوروبية؛ لسد حاجتها النفطية بعد حظر النفط والغاز الروسيين. وطرْح الاتحاد الأوروبي مشروعه لتطوير "ممر بحر قزوين" المعروف "بالممر الأوسط" سيؤدي إلى تنافس حاد بينه وبين كل من (روسيا، وتركيا، والصين) لنقل موارد الطاقة والبضائع والسلع من آسيا الوسطى وإليها. وربما يتم عرقلة أحد تلك المشاريع؛ ما سيؤدي إلى خسائر اقتصادية للدول المشاركة فيه، كما يمكن أن تتعرض أعمال البنية التحتية لتلك المشاريع لأعمال تخريب وأعمال إرهابية، لا سيما مع وجود خلايا لتنظيم "داعش" و"القاعدة" في أفغانستان المجاور لآسيا الوسطى.
3– تضارب محتمل في المصالح الأوروبية: ربما يؤدي الاهتمام الأوروبي المكثف بالتعاون مع آسيا الوسطى، إلى نتائج عكسية إذا تضاربت مصالح الاتحاد بصفاه مؤسسة إقليمية مع مصالح كل دولة على حدة؛ حيث قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بجولته الأولى بالمنطقة في نوفمبر 2023، وزار كازاخستان وأوزبكستان، وكذلك عقدت القمة الرئاسية الأولى بين ألمانيا وآسيا الوسطى وفق صيغة (C5+1) ببرلين في سبتمبر 2023.
شهد عام 2023 زخماً في تطوير التعاون بين إيطاليا وبريطانيا مع آسيا الوسطى؛ كل على حدة؛ ما يبرز تنافساً أوروبياً–أوروبياً على مد النفوذ بآسيا الوسطى؛ ما يتطلب تنسيقاً أوروبياً مع القوى المؤثرة كفرنسا وألمانيا؛ لمنع حدوث تقاطع مصالح أو تنافس بينها؛ لأن ذلك من شأنه عرقلة الجهود الأوروبية المتعددة لتكريس النفوذ بآسيا الوسطى.
4– انتقاد روسي للمساعي الأوروبية: تتحفظ روسيا على المساعي الأوروبية لتعزيز التعاون مع دول آسيا الوسطى. وفي نهاية عام 2023 أعلنت موسكو أنها "تحترم علاقات دول آسيا الوسطى مع أوروبا"؛ لأن ذلك سيعود بالنفع على المنظمات الإقليمية المشتركة التي تقودها موسكو والتي تحظى دول آسيا الوسطى بعضويتها، ومنها (رابطة الدول المستقلة، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومعاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنجهاي للتعاون).
وهذا ربما يدفع الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة سياساته مع آسيا الوسطى لمنع استفادة موسكو منها. وفي نهاية نوفمبر 2024، وصف وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" زيارات مبعوثي الاتحاد الأوروبي إلى آسيا الوسطى بغية المطالبة بتأييد وتنفيذ العقوبات المفروضة على روسيا، بأنها "وقاحة"، وأكد أن "الاتحاد الأوروبي لن ينجح في إزاحتنا من آسيا الوسطى"؛ ما ينذر بأن موسكو سيكون لها رد فعل مماثل على تعزيز التعاون الأوروبي في فنائها الخلفي؛ إذ ربما تتخذ روسيا خطوات ضد دول الاتحاد الأوروبي أو الدول الصديقة لها عبر فرض عقوبات عليها أو شن هجمات إلكترونية ضدها أو تعزيز وجودها العسكري بآسيا الوسطى؛ حيث تحتفظ بقاعدة عسكرية في طاجيكستان وقيرغيزستان، وربما تلجأ إلى تخريب المشروعات الأوروبية في دول المنطقة، لا سيما مشروعات "النقل الإقليمي"، عبر خلايا إرهابية؛ كي تحافظ على نفوذها بالمنطقة.
5– ارتفاع حدة الاستقطاب الدولي بالمنطقة: تعزيز وجود الاتحاد الأوروبي سياسياً واقتصادياً بمنطقة آسيا الوسطى سيؤدي إلى ارتفاع حدة الاستقطاب الدولي بالمنطقة بين عدة قوى كبرى تسعى إلى تعزيز نفوذها ومنها (الصين، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية) وبعض القوى الإقليمية، ومنها (تركيا، إيران)، وهو ما سيؤدي إلى تنافس دولي بين تلك القوى من جهة، وإلى مضاعفة الضغط على دول آسيا الوسطى من جهة آخرى؛ حيث سيكون لزاماً عليها أن تختار حليفاً دولياً وتعادي آخر، وهو ما يفاقم حالة الاستقطاب الدولي بالمنطقة التي سيكون لها ارتدادات إيجابية وسلبية عليها.
مما سبق، نرى أن العقبات الرئيسية لتطوير التعاون بين الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى هي الخلافات داخل دول الاتحاد، والتنافس الإقليمي مع روسيا والصين؛ ولذا على الاتحاد عدم ممارسة المزيد من الضغوط على دول آسيا الوسطى، ومراعاة الروابط السياسية والتاريخية والاقتصادية بينها وبين روسيا التي تمنعها من فرض العقوبات على موسكو. وإذا فشل الاتحاد في ذلك فلن يتحقق ما ينشده من تطوير للتعاون مع دول المنطقة.