صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، تنشر مقالاً للكاتب والتر دورن، وهو أستاذ دراسات الدفاع في الكلية العسكرية الملكية الكندية، تحدث فيه عن الأسباب التي يجب أن تدفع أوكرانيا إلى التنازل والتوصل إلى سلام مع أوكرانيا. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
بعد أكثر من عامين من الموت والدمار، وعاجلاً أم آجلاً، سيتعين على روسيا وأوكرانيا الاتفاق على وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق سلام. وهذا أمر مرحب به. إنّ التوصل إلى اتفاق لن يؤدي إلى الحد من القتل والمعاناة والتكاليف الباهظة للحرب فحسب، بل إنه سيجعل أوكرانيا أيضاً، على المدى الطويل، أقوى وأكثر قدرة على الدفاع عن نفسها وعن ديمقراطيتها. والأهم من ذلك أنه سيقلل من فرصة حدوث تصعيد خطير.
ويرى كثيرون في الغرب أنّ تقديم التنازلات لروسيا من أجل التوصل إلى اتفاق سلام من شأنه أن يرقى إلى مستوى استرضاء موكسو، ولن يؤدي إلا إلى تشجيع المزيد من الهجمات. لكنها ليست استرضاء. إنّ إنهاء الحرب من شأنه أن يسمح لأوكرانيا بإعادة تسليحها والاندماج بشكل أكبر في أوروبا والغرب، ما يزيد من قوة الردع في واقع الأمر.
ومن الممكن أن يوفر مؤتمر السلام في سويسرا نهاية هذا الأسبوع، والذي عقدته أوكرانيا لحشد الدعم الدبلوماسي لقضيتها، الفرصة التي تشتد الحاجة إليها لدراسة ما إذا كان الاتفاق معقولاً وقابلاً للتحقيق. وقد أعربت روسيا عن استعدادها للتفاوض، رغم أنّه لم يتم دعوتها لحضور المؤتمر. لكن الدولة المضيفة، سويسرا، تتوقع أن تكون روسيا حاضرة في المؤتمرات المستقبلية.
ولن يعرف أحد كيف ستسير مفاوضات السلام ما لم تبدأ العملية. فعند مقارنتها بالحرب التي لا تنتهي والتي تبتلع الأرواح والموارد بمعدل ينذر بالخطر، فإنّ حتى التسوية غير الكاملة ستكون أفضل.
إذاً، ما الذي يمكن لأوكرانيا أن تأمل في تحقيقه بشكل معقول وما هو نوع التنازلات التي يتعين عليها تقديمها؟
تعهدت أوكرانيا بعدم التنازل أبداً عن أراضيها. القانون الدولي يدعم قرار كييف الذي يحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ولا ينبغي لها أن تتنازل عن مطالبتها المشروعة بأرضها. ولكن لتأمين وقف دائم لإطلاق النار، ربما تحتاج إلى الاعتراف بأن روسيا تسيطر، ولكن ليس السيادة، على أجزاء من أربع مناطق أوكرانية وشبه جزيرة القرم، ووقف سعيها لاستعادة المناطق المحتلة بالقوة.
ومن المسلّم به أنّ هذا سيكون تنازلاً صعباً ومؤلماً، ويجب أن يكون مشروطاً بعدم شنّ روسيا أي هجمات كبيرة. وإذا ظلّت روسيا مسالمة، فقد تحتاج أوكرانيا إلى انتظار فرصة أفضل لاستعادة كل أراضيها، مثل تلك التي وجدتها ألمانيا في عام 1989 عندما فتح سقوط سور برلين الطريق أمام إعادة توحيد شطري أوكرانيا.
وكجزء من اتفاقية السلام، قد تضطر أوكرانيا أيضاً إلى إيقاف طلبها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والتعهد بعدم الانضمام إليه لعدد من السنوات، على سبيل المثال من خمس إلى عشر سنوات. وهذا الأمر يعد مناسباً كون أعضاء الناتو لا يزالون بعيدين عن الاتفاق على ضمّ دولة في حالة حرب إلى الحلف، خوفاً من أن تؤدي العضوية إلى نشوب حرب بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.
ولكن لا يزال بوسع أوكرانيا أن توقّع معاهدات ثنائية مع أعضاء منفردين في حلف شمال الأطلسي للحصول على الدعم الأمني، وهو ما بدأت تفعله بالفعل، على سبيل المثال، مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا. وسوف تحتاج الضمانات الأمنية المستقبلية إلى تضمين أحكام قوية لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والمعلومات الاستخبارية، والمساعدة في منع الهجمات السيبرانية. ومع ذلك، ربما لن يُسمح لحلفاء أوكرانيا بوضع قواعد عسكرية على أراضيها.
وسيحتاج أي اتفاق سلام أيضاً إلى اتخاذ إجراءات قوية لمنع اندلاع صراع آخر. وقد يشمل ذلك إنشاء منطقة منزوعة السلاح وإخطارات متبادلة بالتدريبات والمناورات العسكرية. لقد أصبح الإنذار المبكر والمراقبة المستمرة والشفافية أسهل كثيراً في عصر المراقبة عبر الأقمار الصناعية، وخاصة من النوع الذي توفره الولايات المتحدة حالياً. ومن شأن عمليات التفتيش الدولية وقوة عازلة تابعة للأمم المتحدة، مؤلفة من قوات من دول غير أعضاء في حلف شمال الأطلسي، أن تزيد من صعوبة شن عمليات التوغل في المستقبل.
لا شك أنّ التوصل إلى هدنة أو اتفاق سلام من شأنه أن يمنح روسيا الوقت لإعادة تجميع صفوفها وإعادة تسليح قواتها. ولكن أوكرانيا تستطيع أن تفعل الشيء نفسه. ويعني ذلك أيضاً إمكانية إعادة جميع أسرى الحرب، وليس فقط في المجموعات الصغيرة التي تفاوضت عليها الأطراف حتى الآن.
والأمر الأكثر أهمية هو أنّ السلام المبدئي، حتى لو توقف بسبب الانتهاكات، من شأنه أن يمنح شعب أوكرانيا في النهاية الوقت لإعادة بناء حياتهم وبلدهم، ويمكن لملايين اللاجئين العودة إلى ديارهم والبدء في إعادة إسكان البلد المنضب. ويمكن للولايات المتحدة أن ترعى جهود إعادة الإعمار، وبوسع أوروبا أن تقود جهود إعادة البناء والتكامل، ومن شأن السلام أن يسهل على أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ولجعل اتفاق السلام أكثر قبولاً بالنسبة لروسيا، فمن الممكن أن يُعرض عليها تخفيف العقوبات، بشرط الالتزام بالاتفاق. ويمكن لروسيا بعد ذلك مقايضة نفطها وغازها بأسعار السوق، على الرغم من أنّ الدول الغربية يمكن أن تضع آليات لإعادة فرض العقوبات على الفور، ما يسمى العودة السريعة للعقوبات إذا لزم الأمر. وسوف تستعيد روسيا إمكانية الوصول إلى احتياطياتها من الذهب والعملات الأجنبية المحتجزة في الغرب.
ومن الممكن بالطبع توقّع حدوث انتهاكات لأي اتفاق مستقبلي، لكن مستوى العنف سيظل أقل بكثير من الحرب الحالية. وإذا قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتصعيد نحو الحرب الشاملة، فإنّ أوكرانيا ستكون أكثر قدرة على الرد. وفي هذه الأثناء، ينبغي لحلفاء أوكرانيا الحفاظ على التدفق المستمر للأسلحة وزيادة الدعم الدبلوماسي والاقتصادي لتعزيز موقف البلاد على طاولة المفاوضات في المستقبل.
وبما أنّ أوكرانيا وروسيا سوف تظلان جارتين لعقود وقرون مقبلة، فيتعين على البلدين أن يتوصلا إلى بعض الترتيبات المتبادلة من أجل التوصل إلى حل سلمي للنزاعات. وإذا استمرت عمليات القتل الحالية لسنوات قبل التوصل إلى تسوية، فسوف يتساءل الناس لماذا كان على هذا العدد الكبير من الناس أن يموتوا أولاً. إنّ أفضل طريقة لتكريم أولئك الذين قتلوا في الحرب هي تأمين سلام مستدام حتى لا يضطر الآخرون إلى تقديم نفس التضحية.