عقب اختتام قمة الناتو في واشنطن يوم 11 يوليو 2024، صرَّح الكرملين بأن خطة الولايات المتحدة لنشر صواريخ بعيدة المدى بشكل دوري في ألمانيا، ستؤدي إلى مواجهة على غرار الحرب الباردة بين روسيا والغرب. سبق ذلك التصريح إعلان البيت الأبيض قرار نشر قدرات صاروخية أمريكية بعيدة المدى في ألمانيا، على هامش قمة حلف شمال الأطلنطي في واشنطن، مع الإشارة إلى أن نشر أسلحة بعيدة المدى في تلك المنطقة – بما في ذلك صواريخ توماهوك وSM6 – يمثل عنصراً رادعاً. وقد أثار هذا القرار موجة من التفاعلات، ولقي زخماً كبيراً فيما وصفه البعض بإعادة إحياء ترتيبات الحرب الباردة أو حتى تشكيل نواة انهيار منظومة ضبط التسلح بشكل كامل.
تعاون دفاعي
ينطوي هذا القرار على عدد من الدلالات التي تعكس الأسباب والدوافع من وراء اتخاذه في هذا التوقيت، ولعل همها:
1– استشعار خطر استمرار حرب أوكرانيا والتقدمات الميدانية الروسية: يشير هذا الإعلان الأمريكي الألماني إلى استشعار الخطر من قِبل حلف الناتو لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية لأكثر من عامين ونصف، وللانتصارات الميدانية التي حققتها روسيا مؤخراً، ومنها خاركيف. وفي ظل عدم فاعلية الردع الغربي بما يؤدي إلى تراجع روسيا أو قبولها بالشروط الغربية، فإن التصعيد المماثل يبقى الخيار الوحيد للتعامل مع الموقف الميداني، بغض النظر عن مدى فاعليته في تهدئة الأوضاع من عدمها.
2– الرغبة في التصعيد وتصدير الضغوط لروسيا: ترغب واشنطن وحلف الناتو في إيصال رسالة إلى روسيا بالتصعيد؛ نظراً إلى تواتر التقديرات والتقارير بأن روسيا لم تَعُد تأبه للمساعدات العسكرية الغربية الجديدة إلى أوكرانيا، وتيقُّنها أن الأخيرة لن تُحدِث – بأي حال من الأحوال – تغييراً ميدانياً جذرياً؛ لذلك مثَّل إعلان نشر هذه المنظومات الصاروخية في ألمانيا لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية رسالة تصعيدية واضحة بتغيير الموازين.
3– تطوير القدرات الفنية للصواريخ الخاصة بالحلف: لا يحمل القرار دلالة سياسية فقط بإعادة ألمانيا إلى نطاق انتشار الصواريخ البعيدة المدى، ولكن أيضاً يتضمن ارتقاءً فنياً لقدرات الحلف الموجودة والمنتشرة بالفعل؛ حيث يُعتبَر نشر صواريخ توماهوك وSM–6 والصواريخ فرط الصوتية ذات المدى الأطول ارتفاعاً ملحوظاً في القدرات الموجودة بالفعل.
4– القضاء على فرص إعادة إحياء معاهدة القوى النووية المتوسطة: كانت الصواريخ المراد نشرها محظورة بموجب معاهدة القوات النووية المتوسطة المدى، التي تم التوقيع عليها في نهاية الحرب الباردة، وشملت الصواريخ التي تطلق من الأرض، والتي يمكن أن تقطع مسافة تتراوح بين 500 و5500 كيلومتر (310 إلى 3400 ميل). وفي عام 2014 اتهمت الولايات المتحدة روسيا بانتهاك الاتفاقية بنشر نوع جديد من صواريخ كروز ذات القدرة النووية، ثم انسحبت منها في عام 2019، وحذت روسيا حذوها. وتُعتبَر تعهدات نشر هذه الأنواع من الصواريخ تقويضاً كاملاً لهذه الاتفاقية التي كان يطمح المجتمع الدولي إلى إعادة إحيائها.
5– تزايد الضغوط الداخلية على شولتز: من ناحية ألمانيا، أشاد المستشار الألماني أولاف شولتز بالنشر المزمع للأسلحة الأمريكية في بلاده، ووصف الخطوة بأنها "قرار ضروري ومهم وفي الوقت المناسب". وتشير هذه التصريحات إلى الأهمية التي أصبح يوليها الرأي العام الألماني لدواعي الأمن القومي في مواجهة روسيا، ومقدار ما يواجهه شولتز من ضغوط لزيادة القدرات الدفاعية الألمانية.
6– تأكيد بايدن استمرار دعمه للأمن الأوروبي: يعكس قرار الإدارة الأمريكية نشر صواريخ في ألمانيا مساعي بايدن لتأكيد استمرار دعمه للأمن الأوروبي، وخاصةً في ضوء الدعوات المتصاعدة في أوروبا لتعزيز مسار الاستقلالية الدفاعية بعيداً عن واشنطن، وهي الدعوات التي اكتسبت زخماً مؤخراً في ظل تزايد احتمالات عودة ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً، والتخوف من السياسات التي قد يتبناها تجاه حلف الناتو وحلفاء واشنطن في أوروبا.
تداعيات محتملة
يستدعي الإعلان الأمريكي الألماني عن نشر هذه المنظومات عدداً من التداعيات المحتملة المتمثلة فيما يلي:
1– الدفع نحو سباق تسلح جديد: بخلاف القضاء على آمال إعادة إحياء معاهدة القوى النووية المتوسطة بشكل نهائي، فإن هذا القرار من المرتقب أن يؤدي إلى استمرار تآكل منظومة ضبط التسلح الدولي، في ظل الزيادات الكمية والكيفية للقدرات النووية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر، فضلاً عن وفاة معاهدة "نيو ستارت" إكلينيكياً بين واشنطن وموسكو. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى إجراء موسكو نشراً واسعاً لقدراتها الصاروخية على أراضيها وأراضي حلفائها؛ ما يفرض تهديدات إضافية على منظومة ضبط التسلح ومنع الانتشار على المستوى الدولي.
2– احتمالية تبني موسكو سلوكاً أكثر حدةً في أوكرانيا: عقب القرار، صرح المتحدث الرسمي باسم الكرملين بأن قرار واشنطن قد أعطى روسيا "سبباً للتوحد" و"تحقيق جميع أهداف حملتها العسكرية في أوكرانيا". وفي تفسير هذه التصريحات، ذهبت التقديرات إلى أنها تعكس نوايا روسية لتكثيف العمليات العسكرية رداً على هذا التصعيد، أو رغبةً منها في تحقيق تفوق نوعي قبل النشر الفعلي لهذه الصواريخ في 2026.
3– زيادة الطلب على الأنظمة التسليحية الأمريكية: أوضح البيان الأمريكي الألماني المشترك أن نشر الصواريخ كان يُنظَر إليه في البداية على أنه مؤقت، لكنه سيصبح دائماً فيما بعد جزءاً من التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي وتعزيز منظومة "الردع المتكامل" لأوروبا، كما صرح وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، بأن الفكرة وراء الخطة الأمريكية هي تشجيع ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى على وضع استثماراتها الخاصة في تطوير وشراء صواريخ طويلة المدى، وهي مظاهر تؤشر على انتعاشة متوسطة المدى في الصناعات العسكرية الأمريكية نتيجة ضمان عقود أوروبية جديدة لفترة 5 سنوات على أقل تقدير.
4– توقع مزيد من إشراك الحلفاء الآسيويين في سياسات الحلف: سبق أن أعلنت الولايات المتحدة واليابان قيام الأخيرة بإرسال شحنات من صواريخ باتريوت الاعتراضية لإعادة ملء المخزون الأمريكي منها، في تحرك غير مباشر لدعم جهود واشنطن الحربية في أوكرانيا. وقد تضمنت قمة الناتو كذلك اجتماعاً مع دول IP4 (اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلاندا) للدلالة على التداخل بين الأمن الأوروبي والآسيوي. وقياساً على ما سبق، قد تتجه واشنطن نحو دفع الحلفاء الآسيويين لنقل أو إعادة تصدير بعض القدرات الهجومية لها، على أن تقوم هي بنشر هذه المنظومات في دول الحلف.
5– توسيع روسيا لشراكاتها مع خصوم واشنطن: في مواجهة التصعيد الغربي، قد تعمد روسيا إلى تسريع وتيرة تعاونها مع دول خارج نطاق تحالفاتها التقليدية؛ لتمكينها هي الأخرى من تطوير قدراتها الصاروخية الهجومية، ولعل أهم هذه التحالفات كوريا الشمالية (وهي التي ارتبطت مؤخراً مع روسيا باتفاقية شراكة استراتيجية شاملة واتفاق دفاع مشترك)، وإيران التي رجَّحت التقديرات كونها المحطة القادمة من التحالفات الروسية المعززة. وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من بيونج يانج وطهران تمتلكان بالفعل قدرات صاروخية معتبرة، قد تشكل تهديداً حقيقياً على حلفاء الولايات المتحدة، سواء في منطقة الهندوباسيفيك، أو في الشرق الأوسط.
في الختام، فإن قرار الولايات المتحدة وألمانيا نشر صواريخ بعيدة المدى في ألمانيا يمثل خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية، وردع التهديدات المحتملة، والحفاظ على الاستقرار الجيوسياسي. ومع استمرار تطور ديناميكيات الأمن العالمي، يعكس هذا القرار موقفاً استباقياً لحماية المصالح الوطنية والإقليمية، وتعزيز التحالف عبر الأطلسي والمساهمة في خلق مشهد دولي أكثر أمناً من وجهة النظر الأمريكية، وهو ما يرتب بشكل تلقائي تصعيداً مماثلاً من جانب موسكو بآليات واستراتيجيات التوسع نفسها، في مشهد صفري ينبئ بعواقب وخيمة على الاستقرار الدولي.