• اخر تحديث : 2025-02-21 13:33
news-details
قراءات

هل تنجح محاولة تعزيز الاستقلالية الدفاعية الأوروبية بعد عودة ترامب؟


تعددت دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تطبيق فكرة "الشراء الأوروبي" أو "التفضيل الأوروبي" European Preference كما حصل في قمة القادة الأوربيين التي عُقدت في بلجيكا في 3 فبراير 2025، وفي اليوم الأول من قمة عمل الذكاء الاصطناعي التي عُقدت في باريس، الموافق 9 فبراير 2025، وخلال المقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز في 14 فبراير 2025. ويَعتبر ماكرون أن تعزيز القدرات الصناعية داخل الاتحاد يشكل ضرورة استراتيجية لمواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية المتزايدة، ويقلل التبعية للولايات المتحدة في المجال الدفاعي. رغم ذلك، فإن هذه المبادرة تواجه تحديات داخلية نتيجة الانقسامات بين الدول الأعضاء والمخاوف من تداعيات اقتصادية وسياسية محتملة.
 
استراتيجية ماكرون
يسعى ماكرون إلى تفضيل شراء المنتجات الأوروبية، خاصةً في مجالات الدفاع والتكنولوجيا؛ وذلك انطلاقاً من التوجهات التالية:
 
1– تعزيز السيادة الأوروبية: يرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "الشراء الأوروبي" هو أداة لتعزيز استقلالية الاتحاد الأوروبي وتقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين، لا سيما الولايات المتحدة، في مجال الدفاع والصناعات الاستراتيجية. وفي ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، وخاصةً مع الحرب في أوكرانيا، فإن فكرة تحقيق اكتفاء ذاتي أوروبي أصبحت أكثر إلحاحاً.
 
ويعتبر ماكرون أن تعزيز القدرات الصناعية الدفاعية للاتحاد الأوروبي ليس مجرد خيار اقتصادي، بل ضرورة استراتيجية تهدف إلى حماية أوروبا من التقلبات في السياسة الخارجية للقوى الكبرى، وأن الاعتماد المفرط على واشنطن في قطاع الدفاع قد يشكل تهديداً طويل الأمد للقدرة الأوروبية على اتخاذ قرارات مستقلة. كذلك، فإن تعزيز الإنتاج الصناعي العسكري الأوروبي يمكن أن يوفر للاتحاد الأوروبي ميزة تنافسية ويقلل من مخاطر انقطاع الإمدادات خلال الأزمات.
 
2– دعم الصناعة الأوروبية: من خلال تشجيع الدول الأعضاء على شراء المنتجات الأوروبية، يسعى ماكرون إلى تحفيز الابتكار وزيادة القدرة التنافسية للشركات الأوروبية؛ ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد والتوظيف؛ إذ ترى فرنسا أن تطوير صناعة دفاعية أوروبية متقدمة يمكن أن يعزز النمو الصناعي، ويوفر آلاف الوظائف في القارة، كما أن التوجه نحو "الشراء الأوروبي" يتماشى مع الجهود المستمرة لتعزيز الاستثمارات في البحث والتطوير داخل قطاع الدفاع الأوروبي، وهو ما سيؤدي إلى إنتاج تكنولوجيا أكثر تطوراً.
 
3– الحد من الهيمنة الأمريكية: يعكس هذا التوجه رغبة في تقليص النفوذ الأمريكي على الأسواق الأوروبية، خاصةً في قطاع الدفاع؛ حيث تعتمد العديد من الدول الأوروبية على المعدات العسكرية الأمريكية. ووفقاً لماكرون، فإن الاتحاد الأوروبي لا يجب أن يكون مجرد سوق للمعدات الأمريكية، بل يجب أن يصبح قادراً على إنتاج موارده الدفاعية الخاصة.
 
هذا الموقف يعكس مخاوف أوسع بشأن توجهات السياسة الأمريكية، خصوصاً مع عودة ترامب إلى السلطة، وما يمكن أن يترتب عليه من تغييرات في التزامات واشنطن الأمنية تجاه أوروبا، كما أن التبعية المفرطة للولايات المتحدة تفرض قيوداً على خيارات الاتحاد الأوروبي في الأزمات الكبرى؛ حيث قد تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى اتخاذ قرارات بناءً على المصالح الأمريكية بدلاً من مصالحها الخاصة.
 
4– الاستجابة للتحديات الجيوسياسية: في ظل تصاعد التهديدات الأمنية، مثل الحرب في أوكرانيا، يرى ماكرون أن الشراء الأوروبي ضروري لتعزيز القدرة الدفاعية المشتركة، خصوصاً مع احتمال تغير أولويات الولايات المتحدة تجاه أوروبا. وتدرك فرنسا أن أي تغير في موقف الولايات المتحدة قد يترك الاتحاد الأوروبي في موقف ضعيف أمام تهديدات دول مثل روسيا والصين؛ ولذلك فإن تطوير قاعدة صناعية أوروبية متينة يعد أمراً ضرورياً.
 
من جانب آخر، فإن تفضيل الإنتاج الأوروبي يساهم في زيادة التنسيق الدفاعي بين الدول الأعضاء؛ ما يعزز جاهزية أوروبا لمواجهة الأزمات المستقبلية. في هذا السياق، يشير ماكرون إلى أن أوروبا يجب أن تكون قادرة على التصرف بمرونة في أوقات الأزمات، من دون الحاجة إلى انتظار قرارات تأتي من وراء المحيط الأطلسي.
 
تأثير ترامب
لعودة ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة تأثيرات مباشرة على توازنات الدفاع الأوروبي وعلى الجدل حول سياسة الشراء الأوروبي داخل الاتحاد الأوروبي:
 
1– تصاعد الضغوط على الحكومات الأوروبية لمواصلة استيراد الأسلحة الأمريكية: مع عودة ترامب، تواجه العديد من العواصم الأوروبية ضغوطاً من واشنطن للحفاظ على استيراد الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية. وتعمل الإدارة الأمريكية على إقناع بعض الدول الأعضاء بأن زيادة الاعتماد على القدرات الأوروبية قد يضعف مظلة الحماية التي توفرها الولايات المتحدة عبر الناتو. علاوةً على ذلك، فإن بعض الدول، خاصةً في أوروبا الشرقية، ترى في الحفاظ على العلاقات الدفاعية مع واشنطن ضمانة ضرورية لأمنها في مواجهة التهديدات الروسية.
 
2– تزايد المخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا: مع تصريحات ترامب المتكررة حول تقليل الالتزام الأمريكي تجاه الناتو، بدأت العديد من الدول الأوروبية تعيد النظر في مدى اعتمادها على الحماية الأمريكية. ويرى بعض القادة الأوروبيين أن الاعتماد المفرط على المساعدات الدفاعية الأمريكية قد يصبح غير مستدام، خاصةً إذا قررت واشنطن تقليص دورها العسكري في القارة. نتيجةً لذلك، بدأت بعض الدول تدعم فكرة تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية بشكل أكبر من خلال سياسة الشراء الأوروبي. هذا الاتجاه لا يهدف فقط إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل أيضاً إلى بناء قدرة ردع مستقلة في مواجهة التهديدات الخارجية.
 
3– تعميق الانقسامات بين الدول الأوروبية: عودة ترامب أدت إلى انقسام الدول الأوروبية بين من يؤيد تعزيز استقلالية الدفاع الأوروبي، ومن يفضل الإبقاء على التنسيق العسكري القوي مع الولايات المتحدة. وتدفع الدول الغربية الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا، باتجاه تبني سياسة أكثر استقلاليةً، فيما تفضل دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق الحفاظ على الشراكة الدفاعية مع الولايات المتحدة. هذه الانقسامات تعرقل الجهود الرامية إلى توحيد سياسات الدفاع الأوروبية؛ ما يجعل تحقيق توافق بشأن الشراء الأوروبي أكثر صعوبةً.
 
4– إعادة النظر في مشاريع الدفاع المشترك: مع تزايد الضغوط الخارجية، بدأت بعض الدول الأوروبية تكثف جهودها لتعزيز برامج الدفاع المشترك، مثل مشروع التعاون الدفاعي الدائم PESCO. ويهدف هذا المشروع إلى زيادة التنسيق العسكري بين الدول الأعضاء وتطوير أنظمة تسليح مشتركة لتقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج. في الوقت نفسه، تواجه هذه الجهود تحديات سياسية واقتصادية بسبب عدم توافق بعض الدول الأعضاء حول تمويل وإدارة هذه المشاريع. رغم ذلك، فإن التوجه نحو تكثيف التعاون الدفاعي الأوروبي أصبح أكثر أهميةً مع تصاعد عدم اليقين بشأن الدعم الأمريكي في المستقبل. هذا التطور قد يؤدي إلى إعادة هيكلة أولويات الاتحاد الأوروبي في مجال الدفاع، بما يضمن تقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين وتعزيز الاستقلالية الاستراتيجية.
 
اتجاه معارض
تعود العوامل الأوروبية المعرقلة لتطبيق هذه المبادرة إلى الأسباب التالية:
 
1– مواصلة الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية: تفضل بعض الدول الأوروبية، لا سيما دول البلطيق وبولندا، الاستمرار في شراء المعدات العسكرية الأمريكية لضمان التزام واشنطن بأمنها، خاصةً في مواجهة روسيا. تَعتبر هذه الدول أن العلاقة العسكرية مع الولايات المتحدة تمنحها ضمانات أمنية موثوقة لا تستطيع الصناعة الدفاعية الأوروبية تأمينها على المدى القصير، كما أن العديد من أنظمتها العسكرية متكاملة مع التكنولوجيا الأمريكية؛ ما يجعل من الصعب التحول إلى شراء معدات أوروبية دون تكلفة مالية وتقنية كبيرة. في ظل استمرار التوترات مع موسكو، ترى هذه الدول أن الاعتماد على الأسلحة الأوروبية وحدها قد يعرضها لمخاطر كبيرة.
 
2– قصور الإنتاج الدفاعي الأوروبي: تعاني الصناعة الدفاعية الأوروبية من بطء في الإنتاج مقارنةً بالموردين الأمريكيين؛ ما يجعل بعض الدول ترى أن "الشراء الأوروبي" قد يعرقل قدراتها الدفاعية العاجلة. ونظراً إلى ضعف البنية التحتية للصناعات العسكرية في بعض الدول الأوروبية، فإن إنتاج وتوريد المعدات العسكرية يستغرق وقتاً أطول؛ ما قد يؤدي إلى فجوات في القدرات الدفاعية. تعتمد العديد من الدول الأوروبية على عمليات شراء سريعة عند اندلاع الأزمات، وهو أمر يصعب تحقيقه مع الموردين الأوروبيين؛ بسبب طول فترات التصنيع والموافقة على العقود.
 
3– التكلفة المرتفعة للمنتجات الأوروبية: تعتبر المنتجات الأوروبية أحياناً أكثر كلفةً من نظيراتها الأمريكية؛ ما يجعل بعض الحكومات تتردد في تبني سياسة الشراء الأوروبي، خاصةً في ظل قيود الميزانية. يعد هذا العامل حاسماً بالنسبة إلى الدول ذات الإنفاق الدفاعي المحدود، التي تسعى للحصول على أعلى مستوى من الكفاءة مقابل التكلفة. عادةً ما تقدم الشركات الأمريكية صفقات ميسرة تشمل حزم دعم وصيانة طويلة الأمد؛ ما يجعل العروض الأوروبية أقل جاذبية من الناحية الاقتصادية.
 
4– تعرض بعض الحكومات الأوروبية لضغوط سياسية واقتصادية: تتعرض بعض الحكومات الأوروبية لضغوط من الشركات الأمريكية ومن التحالفات السياسية التي تعزز التعاون العسكري العابر للأطلسي؛ ما يجعلها مترددة في تفضيل المنتج الأوروبي. وتعتمد بعض الدول الأوروبية على الاستثمارات الأمريكية في قطاعها الدفاعي؛ ما يخلق ضغوطاً من الصناعات المحلية للحفاظ على العلاقات التجارية مع واشنطن، كما أن للولايات المتحدة نفوذاً سياسياً قوياً داخل حلف الناتو؛ حيث تضغط على الحلفاء الأوروبيين لشراء معداتها كجزء من التزاماتهم الدفاعية المشتركة.
 
5– اعتبار مبادرة الشراء الأوروبي مخالفة لقواعد السوق الحرة: يعتبر الليبراليون الاقتصاديون أن هذا النهج قد يكون مخالفاً لقواعد السوق الحرة داخل الاتحاد الأوروبي؛ ما قد يفتح الباب أمام سياسات انتقامية من الشركاء التجاريين. يرى هؤلاء أن فرض تفضيل المنتجات الأوروبية في قطاع الدفاع قد يؤدي إلى سياسات حمائية قد تضر بتنافسية السوق الأوروبية على المستوى العالمي، كما أن الدول التي تعتمد على تصدير الأسلحة إلى خارج أوروبا قد تواجه قيوداً من الدول المتضررة من هذه السياسة؛ ما قد يؤثر سلباً على اقتصاداتها.
 
تأثيرات محتملة
تعزيز "الشراء الأوروبي" له إسهامات وتحديات متعددة على الصعيد الأوروبي، يمكن الإشارة إليها فيما يأتي:
 
1– دعم الاستقلالية الدفاعية الأوروبية: يسهم الشراء الأوروبي في الحد من الاعتماد على الموردين الخارجيين؛ ما يمنح أوروبا قدرةً أكبر على اتخاذ قرارات دفاعية مستقلة. في ظل تصاعد المخاطر الأمنية، فإن تطوير قاعدة صناعية عسكرية محلية يقلل المخاوف المتعلقة بالقيود التي قد تفرضها دول غير أوروبية على صادراتها الدفاعية، كما يتيح ذلك للاتحاد الأوروبي تطوير استراتيجيات دفاعية أكثر تكيفاً مع احتياجاته، بعيداً عن التوجيهات الخارجية. في حالات الأزمات، مثل الحرب في أوكرانيا، يصبح من الضروري امتلاك موارد ذاتية يمكن الاستفادة منها بسرعة ومن دون الحاجة إلى موافقات خارجية.
 
2– تعزيز التنسيق الدفاعي بين الدول الأوروبية: يمكن لسياسة الشراء الأوروبي أن تدفع الدول الأعضاء نحو تعزيز التعاون العسكري المشترك؛ ما يؤدي إلى تكاملٍ أفضل في مجال التصنيع الدفاعي. يؤدي هذا إلى توحيد المواصفات التقنية للمعدات العسكرية؛ ما يسهل عمليات الصيانة واللوجستيات بين مختلف الجيوش الأوروبية. إضافةً إلى ذلك، يعزز الشراء الأوروبي إمكانية تطوير مشاريع مشتركة، مثل أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الباليستية؛ ما يقلل التكاليف ويزيد الكفاءة التشغيلية، كما أن التعاون الدفاعي الأعمق يسمح بإنشاء وحدات عسكرية مشتركة قادرة على الاستجابة السريعة في الأزمات.
 
3– تحقيق مكاسب اقتصادية لصناعة الدفاع الأوروبية: يؤدي تفضيل المنتجات الأوروبية إلى تعزيز النمو الاقتصادي داخل الاتحاد؛ حيث تستفيد الشركات المصنعة من عقود طويلة الأجل. ويؤدي ذلك إلى تحفيز الابتكار التكنولوجي داخل القطاع الدفاعي؛ ما يعزز تنافسية أوروبا في سوق الأسلحة العالمية. علاوةً على ذلك، فإن دعم الإنتاج المحلي يخلق فرص عمل جديدة، ويساعد على تطوير مهارات تقنية عالية داخل القارة. هذا الدعم المالي للصناعات الدفاعية يضمن استمرار البحث والتطوير في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات السيبرانية؛ ما يعزز الأمن الأوروبي ضد التهديدات الحديثة.
 
4– تحسين القدرة على مواجهة التهديدات غير التقليدية: يسهم الشراء الأوروبي، في حال تطبيقه بشكل واسع، في تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على التصدي للتهديدات الحديثة، مثل الهجمات السيبرانية والإرهاب العابر للحدود. من خلال دعم الصناعات الدفاعية المحلية، يمكن لأوروبا تطوير تقنيات متقدمة في مجال الأمن السيبراني وأنظمة المراقبة. يساعد هذا النهج في تعزيز البنية التحتية الدفاعية للدول الأعضاء ضد التهديدات غير التقليدية التي قد لا تتطلب تدخلاً عسكرياً مباشراً، كما يتيح تعزيزُ قطاع الأمن الإلكتروني الأوروبي تقليلَ الاعتماد على الشركات الأجنبية؛ ما يحمي البيانات والمعلومات الحساسة للدول الأوروبية.
 
ختاماً، رغم محاولات ماكرون الدفع بهذه المبادرة، فإن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي والمخاوف من ردود الفعل الأمريكية تعيق تطبيقها بشكل كامل. ومع ذلك، فإن المتغيرات الجيوسياسية، خاصةً مع احتمال تراجع الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا، قد تجعل الشراء الأوروبي خياراً ضرورياً لدى بعض الدول؛ ما قد يسرِّع تبنِّيه على نحوٍ تدريجي، ولو جزئياً.