أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 2 أبريل، زيارة رسمية إلى باريس، التقى خلالها نظيره الفرنسي جان نويل بارو، وعدداً من المسؤولين الفرنسيين، في مؤشر مهم على التطور الحادث في علاقات البلدين. وركزت الزيارة على مناقشة عدد من القضايا الخلافية بين أنقرة وباريس. وقد عبَّر فيدان خلال زيارته عن تطلعه إلى إحراز تقدم مع نظيره الفرنسي حول عدد من الملفات الشائكة، وفي صدارتها، دفْع باريس إلى اتخاذ موقف حاسم ضد التيارات العنصرية والمتطرفة التي تستهدف المواطنين الأتراك المقيمين في فرنسا، كما تناولت الزيارة العلاقات الثنائية، والعلاقات التركية الأوروبية، وملفات إقليمية ودولية مثل أمن أوروبا والحرب الروسية الأوكرانية والتطورات في غزة وسوريا.
متغيرات جديدة
تأتي زيارة وزير الخارجية التركي إلى فرنسا في إطار جملة من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وهي التغيرات التي يمكن بيانها على النحو التالي:
1– تصاعد التوترات الأوروبية الأمريكية: جاءت زيارة فيدان إلى باريس في ظل خلافات عميقة وغير مسبوقة بين باريس وإدارة ترامب التي تسعى إلى تقليص دور الناتو، ودعم سيطرة موسكو على الأراضي الأوكرانية شرق البلاد، وهو ما أكده "بيت هيجسيت" وزير الدفاع الأمريكي في 13 فبراير 2025، عندما قال إن أوكرانيا عليها ألا تحلم باستعادة حدودها كما كانت في السابق. واتهم ترامب نفسه نظيره الأوكراني زيلينسكي بأنه "دكتاتور بلا انتخابات"، ومختلس لأموال المساعدات الأمريكية، كما تنامى الخلاف الفرنسي الأمريكي بعد قطع ترامب العُزلة الغربية المفروضة على الرئيس الروسي، من خلال إجراء اتصال معه دون إبلاغ قادة أوروبا، فضلاً عن مضي إدارة ترامب منفردة في إنهاء الأزمة الأوكرانية، ومن دون أخذ الاعتبارات والمصالح الأوروبية في الاعتبار.
2– استهداف اليمين الفرنسي المتطرف المصالح التركية: تأتي زيارة فيدان في ظل تصاعد استهداف اليمين الفرنسي للمصالح والجالية التركية في فرنسا، وهو ما دفع السلطات التركية إلى اتهام باريس بتعزيز مشاعر الإسلاموفوبيا في المجتمع الفرنسي لأهداف وغايات سياسية. وتجدر الإشارة إلى أن التيارات العنصرية والمتطرفة في فرنسا دأبت خلال الآونة الأخيرة على استهداف المواطنين الأتراك المقيمين في فرنسا.
3– الانتقادات الأوروبية لاعتقال رئيس بلدية إسطنبول: تزامنت زيارة فيدان إلى باريس مع استمرار حالة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي على خلفية اعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ودخول الاتحاد الأوروبي على خط الأزمة السياسية في البلاد، خصوصاً بعد دعوة الاتحاد الأوروبي في 20 مارس 2025 تركيا إلى تطبيق المعايير الديمقراطية، فيما يتعلق باعتقال إمام أوغلو، كما اعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" اعتقال رئيس بلدية إسطنبول "أمراً مقلقاً للغاية".
4– استمرار الدعم الفرنسي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد": جاءت زيارة وزير الخارجية التركي في ظل استمرار الدعم الفرنسي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تسيطر على ثلث الجغرافيا السورية، وتُصنِّفها أنقرة "إرهابية". وكان الرئيس ماكرون قد أكد بعد سقوط نظام الأسد، أن بلاده "لن تتخلى عن المقاتلين الكرد الذين كانوا شركاء في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي"، بالإضافة إلى تحركات عسكرية وسياسية فرنسية لدعم المكون الكردي السوري، وهو ما ظهر في تسريب وسائل إعلام كردية في يناير 2025 معلومات بشأن تسليم باريس لقوات "قسد" طائرات مُسيرة لتوظيفها في المعارك ضد الفصائل الموالية لتركيا، كما أكد الرئيس الفرنسي ماكرون عشية مؤتمر دعم سوريا الذي استضافته باريس في 12 فبراير 2025، أهمية إدماج "قسد" في الجيش الوطني السوري، كما شدد على تمسكه بالوقوف بجانب "قسد" التي تُعَد شريكاً رئيسياً في مواجهة التنظيمات الإرهابية. ويبدو أن التحركات الفرنسية تجاه الملف الكردي لا تروق لتركيا، وهو ما يفسر حرص أنقرة على تحييد التدخل الفرنسي في هذا الملف.
5– اهتمام أوروبي مكثف بالتعاون الدفاعي مع تركيا: شهدت الأسابيع الأخيرة تصريحات أوروبية مكثفة بشأن أهمية تعزيز التعاون الدفاعي والأمني مع تركيا، خصوصاً مع مساعي الاتحاد الأوروبي إلى تأمين دفاعه بشكل مستقل عن المظلة الأمريكية، في ظل التغيرات الجيوسياسية التي شهدها العالم مع عودة ترامب إلى السلطة، وتبنيه مقاربة أمنية مغايرة للعقيدة العسكرية الأوروبية. وفي هذا السياق، حث الكتاب الأبيض للدفاع الخاص بالاتحاد الأوروبي، الدول الأعضاء على ضرورة الانفتاح والتعاون الدفاعي على دول مثل النرويج وتركيا وبريطانيا. ونظراً إلى النقص الحاصل في بعض أنواع العتاد العسكري الأوروبي، أكد الكتاب الأبيض الصادر في منتصف مارس 2025 أهمية الاستفادة من تقدم تركيا في صناعة بعض أنواع العتاد العسكري، لا سيما الطائرات المسيرة الهجومية، التي تمثل عنصراً حاسماً في الحروب الحديثة.
أهداف متعددة
تعكس زيارة وزير الخارجية التركي إلى فرنسا جملة من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1– تعزيز التعاون الدفاعي التركي الفرنسي: تسعى تركيا إلى تعزيز التعاون الدفاعي مع دول أوروبا، وخاصةً باريس؛ وذلك بعد تخصيص الاتحاد الأوروبي في مارس 2025، 800 مليار يورو للتسليح وتمويل الأبحاث العسكرية وتعزيز الشراكة الدفاعية مع الشركاء، ومنهم تركيا. وتستهدف تركيا جذب باريس لشراء المسيرات التركية، باعتبار أن ذلك يمكن أن يمثل نافذة لصفقات أوسع وأكبر مع باقي دول الاتحاد الأوروبي.
كما يكتسب التعاون الدفاعي بين تركيا وفرنسا زخماً جديداً في التوقيت الحالي، وهو ما تجلى في زيارة خمسة أعضاء من لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي إلى تركيا في فبراير 2025، وتأكيد ضرورة زيادة التعاون الاستراتيجي بين البلدين في مشاريع صناعة الدفاع. وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير قيام فيدان – خلال لقائه نظيره الفرنسي – بتأكيد أهمية التعاون في مجال الصناعات الدفاعية ورفع العقوبات الفرنسية المفروضة على القطاع الدفاعي التركي منذ عام 2020 بسبب تصرفاتها "غير القانونية والعدوانية" في البحر المتوسط، وعملياتها العسكرية في شمال سوريا.
2– طرح أنقرة وسيطاً في الأزمة الأوكرانية: أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 28 مارس 2025، بالدور الذي لعبته تركيا في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، لافتاً إلى أن بلاده تحترم تركيا، وهي دولة عظيمة، وأن أنقرة بحاجة إلى أوروبا، وكذلك أوروبا بحاجة إلى تركيا. وعلى ضوء ذلك، تسعى تركيا إلى حشد الدعم الأوروبي، وخاصةً الفرنسي، لتعزيز دور تركيا وسيطاً في المفاوضات الحالية لتفكيك الأزمة الأوكرانية، خصوصاً أن مقاربة أنقرة تجاه الصراع تتوافق مع الرؤية الأوروبية التي ترتكز على دعم استقلال أوكرانيا وانسحاب روسيا من كامل أراضيها. وتعي تركيا أن دورها وسيطاً يمكن أن يمثل ورقة رابحة؛ لتجاوز الملفات الخلافية مع أوروبا، وليس ذلك فقط، بل لتأمين جملة من المصالح السياسية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي.
3– حلحلة الموقف الفرنسي تجاه عضوية أنقرة في الاتحاد الأوروبي: تعي تركيا أن التوترات الجيوسياسية الأخيرة بين الولايات المتحدة وأوروبا قد ساعدت في تعزيز موقع تركيا داخل المنظومة الأوروبية. وظهر ذلك على سبيل المثال في تخفيف نبرة الانتقادات الفرنسية خلال الأيام الماضية لتركيا، على خلفية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول في 19 مارس 2025؛ حيث قالت الخارجية الفرنسية، في بيان لها، إن الأمر "يشكل مساساً خطراً بالديمقراطية"، كما يشار إلى أن عودة ترامب دفعت باريس والفضاء الأوروبي إلى تقليل الاعتماد الأمني على واشنطن مقابل إمكانية توظيف القدرات الأمنية لتركيا؛ إذ يحتل الجيش التركي المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الناتو.
وعلى ضوء ذلك، يمكن في رؤية أنقرة توظيف هذه المتغيرات في دفع باريس نحو التخلي عن موقفها الخشن تجاه عضوية تركيا داخل الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تحريك الحوار بشأن فصول المفاوضات، التي تصل إلى 14 فصلًا ما زالت مجمدة بسبب اعتراضات بعض الدول الأوروبية، ومنها فرنسا واليونان وقبرص. وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير دعوة وزير الخارجية التركي من باريس إلى ضرورة التعامل مع ملف العضوية التركية من منظور استراتيجي، بعيداً عن المصالح السياسية الداخلية لبعض دول الاتحاد الأوروبي، وضرورة إزالة العقبات المصطنعة التي تعرقل لحاق تركيا بالاتحاد.
4– دعم العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وباريس: وهو ما يُعد من أبرز المجالات التي تحتل اهتمام الطرفين؛ فعلى مستوى التجارة البينية، تُعد باريس من الشركاء التجاريين الرئيسيين لتركيا. ويدلل على ذلك حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي زاد من 21 مليار دولار عام 2023 إلى 22.5 مليار دولار بنهاية عام 2024. وتُعوِّل تركيا على تنشيط العلاقات الاقتصادية مع باريس خلال المرحلة المقبلة من خلال توظيف إمكانات هائلة غير مستغلة بفعل الملفات الخلافية بين البلدين حول بعض القضايا السياسية.
5– تحييد الدعم الفرنسي لـقوات "قسد": لا تنفصل زيارة فيدان إلى باريس عن رغبة بلاده في تحييد الدعم الفرنسي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" من خلال تشويه الصورة الذهنية للمكون الكردي السوري، خصوصاً بعد رفضه تشكيلة الحكومة السورية الجديدة، وإعلان الإدارة الذاتية الكردية، في بيان لها في 30 مارس 2025، أنها "لن تكون معنية بتطبيق وتنفيذ القرارات الصادرة عن الحكومة السورية الجديدة" التي حظيت بدعم باريس.
6– تعزيز دعم باريس للسلطة السورية الجديدة: تراهن تركيا على توظيف الدور الفرنسي الداعم لعملية الانتقال السياسي في سوريا بعد إسقاط نظام الأسد. وهنا، يمكن تفسير تأكيد وزير الخارجية التركي، خلال لقائه نظيره الفرنسي، أهمية زيادة الانخراط الفرنسي مع الإدارة الجديدة في سوريا، وأهمية رفع العقوبات الأوروبية بالكامل عن دمشق بغية ضمان استقرار البلاد؛ حيث استضافت باريس، في فبراير 2025، مؤتمراً دولياً لدعم دمشق، كما استضافت في 28 مارس 2025 قمة مصغرة جمعت اليونان وقبرص ولبنان وسوريا، كما أكد الرئيس الفرنسي، في 1 أبريل 2025، أن دعوة الشرع لزيارة باريس ليست مستبعَدة، ويمكن أن تتم في الأسابيع القادمة، لكنه رهن حصولها بتوافر بعض الشروط والمعطيات الخاصة بتطور الأوضاع في سوريا نفسها.
بالتوازي، أعلنت باريس، في مطلع أبريل 2025، عن الترحيب بتشكيل الحكومة السورية الجديدة، مؤكدةً دعمها عملية انتقال سياسي تضمن وحدة البلاد، كما أكدت الخارجية الفرنسية، في بيان لها، أن الاتحاد الأوروبي على استعداد لتقديم الدعم للسلطات السورية في تحقيق انتقال سياسي سلمي، يعزز التعددية، ويكفل حقوق جميع السوريين، مع ضمان وحدة سوريا وسيادتها.
تطور مشروط
ختاماً، يمكن القول إن زيارة وزير الخارجية التركي إلى باريس نجحت في تنشيط العلاقات الثنائية على مستويات متعددة بين البلدين، بالإضافة إلى أن التطور الحاصل في العلاقات التركية–الفرنسية في التوقيت الحالي، قد يحمل تداعيات عميقة على النظام العالمي؛ حيث يمكن أن يساعد تعاونهما في تعزيز الأمن العالمي، وموازنة التحركات الأمريكية المغايرة التي بدأها ترامب، والتي تحمل في طياتها انعكاسات مباشرة على مصالح تركيا وفرنسا، بيد أن مستقبل العلاقة بين البلدين يتوقف على مدى الدعم الفرنسي لتحريك مفاوضات لحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، وكذلك مدى تراجع باريس عن دعم قوات "قسد" شمال شرق سوريا.