أجرى الرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس، زيارة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، في الفترة من (4 حتى 9 أغسطس 2025)، وكان في استقباله رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيسة دروبادي مورمو، في القصر الرئاسي الهندي. وجاءت الزيارة بمناسبة مرور 75 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتمت مناقشة العديد من الملفات الثنائية والتباحث بشأن آفاق الشراكة بين البلدين.
أبعاد مُرتبطة:
تأتي الخطة الفلبينية تجاه التقارب مع الهند في ضوء تسارع عدد من التحولات الإقليمية، التي انعكست على توجهات السياسة الخارجية للفلبين وتحالفاتها المرنة، وهو ما يمكن إيجازه على النحو التالي:
1. تعاون فلبيني هندي مُسبق: تجدر الإشارة إلى أن التقارب العسكري بين الفلبين والهند ليس مُفاجئاً بل له جذور وتطورات حثيثة عبر السنوات، ولعل أبرز مؤشراتها هي المشتريات العسكرية؛ إذ تعد الفلبين أول مشترٍ أجنبي لصاروخ كروز براهموس الهندي الفرط صوتي في صفقة بقيمة 375 مليون دولار أمريكي، في 2022؛ وتُعد تلك الصفقة أول صفقة تصدير أسلحة كبرى للهند. وتم تسليم الدفعة الأولى في عام 2024.
كما دعمت الهند علناً الموقف القانوني للفلبين في بحر الصين الجنوبي. وفي عام 2023، دعت الهند الصين إلى الامتثال لحكم التحكيم الصادر عام 2016 في هذا الصدد؛ ومن ثم تأتي الزيارة الراهنة لتعميق آفاق التعاون المتحققة بالفعل وتجاوزها لما هو أبعد من ذلك.
2. مواصلة التعاون العسكري بين مانيلا وواشنطن: يجمع الفلبين والولايات المتحدة اتفاق دفاعي مُشترك؛ من شأنه تعزيز التعاون العسكري بينهما، وهو ما تجلى في انعقاد المناورات السنوية "باليكاتان" التي استضافتها الفلبين، في 21 إبريل 2025، بمشاركة الجيش الأمريكي والأسترالي والياباني، والتي انتهت في مايو 2025، وكان الهدف الرئيسي منها تعزيز قدرات الجيش الفلبيني وردع أي تهديد يواجه مانيلا وخاصة على صعيد الدفاع الجوي والصاروخي والبحري؛ وهو ما يعكس أيضاً الالتزام الأمريكي تجاه الفلبين دفاعياً.
كما عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في الفلبين من خلال الإعلان في يوليو 2025 عن مخططات تمويل وبناء قاعدة عسكرية أمريكية للقوارب السريعة والسفن غير المأهولة على الساحل الغربي لجزيرة بالاوان بالفلبين، والتي تقع على مقربة من المناطق المتنازع عليها بين الفلبين والصين في بحر الصين الجنوبي؛ بما يعكس محورية دور الفلبين في الاستراتيجية الأمريكية للمحيط الهندي الهادئ (الإندوباسيفيك). هذا فضلاً عن تزايد الوجود العسكري الأمريكي في جزيرة لوزون القريبة من تايوان لتصبح بمثابة مركز للعمليات الأمريكية بالمنطقة، وكذلك نشر أنظمة صواريخ بعيدة المدى، فضلاً عن تعزيز الخدمات اللوجستية العسكرية تأهباً لأي عمل عسكري صيني ضد تايوان.
3. استمرار التوترات في بحر الصين الجنوبي: لم تقتصر التوترات في بحر الصين الجنوبي على المناوشات العسكرية البحرية المتكررة بين قوات خفر السواحل الفلبينية وسفن الأبحاث الصينية التي تتوغل إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة المتنازع عليها؛ بل شمل ذلك أيضاً تحركات عسكرية مُشتركة بين الفلبين وبعض حلفائها مثل أستراليا، التي زودت قوات خفر السواحل بمسيرات في إبريل 2025؛ للقيام بمهام المراقبة والاستطلاع والتصدي للمخاطر الصينية المتزايدة، وذلك في إطار زيادة مُخصصات الدعم المالي المُوجَّه للتعاون العسكري البحري بين البلدين.
في حين أن الصين من جانبها ترفض تلك المزاعم الفلبينية بشأن السيادة على بحر الصين الجنوبي، بل تتهمها بأنها من تنتهك السيادة الصينية وأنها تعمد إلى تضخيم قضية بحر الصين الجنوبي، وأن هذا الموقف ما هو إلا جزء من الجهود الأمريكية لاحتواء الصين.
وقبيل الزيارة، أدانت الفلبين إطلاق الصين صاروخاً تسبب في إسقاط حطام بالقرب من مناطق سكنية بالمقاطعات الغربية بالبلاد؛ مما تسبب في إثارة المخاوف الأمنية للسكان وتهديد أمن الملاحة البحرية، بالرغم من عدم التسبب في أضرار مباشرة أو خسائر بشرية.
شراكة ثنائية:
تُعد تلك الزيارة هي الأولى التي يجريها ماركوس للهند منذ توليه الرئاسة، في يونيو 2022، وتوجه بوفد يضم السيدة الأولى وعدداً من الوزراء ورجال الأعمال، ويمكن الإشارة فيما يلي لأبرز ما تضمنته تلك الزيارة وما خلصت إليه:
1. تعزيز الشراكة بين البلدين: أُعلن، خلال الزيارة، عن ترقية العلاقات إلى مستوى الشراكة بين البلدين للمرة الأولى، وقد تضمنت تلك الشراكة تعزيز مستوى التعاون في المجالات السياسية، والتجارية والاستثمارية، والتواصل، والدفاع والأمن، والمجال البحري، والعلوم والتكنولوجيا، وتغير المناخ، والفضاء، والصحة والأدوية، والزراعة، والتقنيات الرقمية، والتعاون الإنمائي، والثقافة، والسياحة، والتبادلات الشعبية، وفق خطة تمتد حتى عام 2029.
وفي سياق ذلك؛ تم إبرام 13 اتفاقية تعاون في مجالات الفضاء، والعلوم والتكنولوجيا، والدفاع والأمن، والثقافة، والسياحة. ومن جهته؛ أكد رئيس الوزراء الهندي مودي أنه يجري العمل حالياً على وضع خطة عمل شاملة لترجمة تلك الشراكة إلى سياسات ملموسة، فضلاً عن تأكيد أن الأولوية لتنمية التبادل التجاري بين البلدين من خلال استكمال مراجعة اتفاق التجارة الحرة بين الهند ورابطة الآسيان.
2. توطيد التعاون الاستثماري: عقدت الوفود التجارية وقادة الأعمال والمستثمرين من البلدين لقاءات مشتركة، أسفرت عن إبرام 18 اتفاقية أعمال؛ تشمل استثمارات مباشرة بقيمة 446 مليون دولار أمريكي، وتم الاتفاق على تأسيس فرص استثمارية تصل إلى 5.8 مليار دولار أمريكي بقطاعات رئيسية مثل البنية التحتية الرقمية، والطاقة المتجددة، والرعاية الصحية، والتصنيع، وتكنولوجيا المعلومات. ومن المتوقع أن ينتج عن هذه الاستثمارات المتوقعة أكثر من 4 آلاف فرصة عمل مُباشرة، إلى جانب التزامات بتطوير المهارات الرقمية، بقيمة إجمالية تبلغ 11 مليون دولار أمريكي، كما يُخطط لتدريب نحو 26120 فلبينياً بحلول عام 2026 في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية والأمن السيبراني.
هذا فضلاً عن الإعلان عن التسهيل المتبادل في مجال السياحة والسفر عبر تيسير الحصول على التأشيرة السياحية الإلكترونية مجاناً، واستئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين بداية من أكتوبر المقبل.
3. الارتقاء بالعلاقات العسكرية: تأتي هذه الزيارة في محاولة من قِبل مانيلا لتنويع تحالفاتها الاستراتيجية للتخفيف من الاعتماد على واشنطن في مجالات الدفاع والأمن، عبر الانفتاح على قوى آسيوية صاعدة، مثل الهند، إلى جانب الاستفادة من قدرات الأخيرة في مجالات الدفاع والتكنولوجيا لتعزيز موقفها بمواجهة الضغوط الصينية في بحر الصين الجنوبي؛ وهو ما أشار إليه الرئيس الفلبيني خلال الخطاب السنوي عن حالة الأمة، في يوليو 2025.
وعليه؛ فقد أكّد الرئيس ماركوس، خلال الزيارة، اهتمام كل من مانيلا ونيودلهي بالتعاون الدفاعي والعسكري، كما نوه إلى التوافق بشأن أمن منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ وحرية الملاحة ومكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية.
وبالتزامن مع تلك الزيارة؛ أُجريت للمرة الأولى مناورات بحرية مُشتركة بين الفلبين والهند في بحر الصين الجنوبي، واستمرت لمدة يوميْن ووصفها رئيس أركان القوات المسلحة الفلبينية الجنرال روميو براونر بالناجحة، وأعرب عن أمله في أن تتمكن القوات الفلبينية من إشراك الجيش الهندي في المزيد من المناورات المشتركة في المستقبل.
واتصالاً بالتعاون العسكري البحري، رحَّب مودي بقرار الفلبين الانضمام إلى مركز الاندماج الدولي - والذي يتتبع حركة السفن في منطقة المحيط الهندي ومقره الهند- مُشيراً إلى أن الهند تعتبر الفلبين جزءاً أساسياً من استراتيجياتها الإقليمية في منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ وجنوب شرق آسيا.
تداعيات مُحتملة:
من شأن تلك الزيارة وما تضمنته من فعاليات ومُخرجات أن تحمل العديد من الدلالات فضلاً عما تُثيره من ردود الفعل، وهو ما يمكن إيجازه على النحو التالي:
1. اعتراض صيني: أعلن الجيش الصيني حالة التأهب القصوى بفعل المناورات المُشتركة التي أجرتها الفلبين مع الهند في بحر الصين الجنوبي، وأشارت تقييمات الجيش إلى هجمات واضطرابات مُحتملة قد تترتب على ذلك النشاط العسكري غير المسبوق، وأن هذا من شأنه أن يزيد العلاقات الصينية بكل من البلدين (الفلبين والهند) تعقيداً.
وقالت القوات المسلحة الفلبينية إن سفينتين تابعتين للبحرية الصينية، بينهما مدمرة مزودة بصواريخ موجهة، تم رصدهما على مقربة من إحدى الفرقاطتين التابعتين للبحرية الفلبينية اللتين شاركتا في المناورات مع الهند. بينما قالت القيادة الجنوبية الصينية إنها أجرت دوريات روتينية في بحر الصين الجنوبي في نفس توقيت تلك المناورات، مُؤكدة الموقف الحازم بشأن الدفاع عن المصالح والأمن البحري الصيني.
وقد اتهمت القيادة الجنوبية الصينية الفلبين باستدراج دول خارجية عبر تنظيم دوريات مُشتركة - دون تسمية الهند- واصفة ذلك بأنه يقوض السلم الإقليمي، بينما قالت وزارة الخارجية الصينية إن النزاعات الإقليمية ينبغي حلها من قبل الأطراف المعنية بشكل مباشر دون تدخل أي طرف ثالث، في إشارة إلى الهند أيضاً.
2. تقارب مُتزايد بين الهند والفلبين: وفقاً لبعض التقديرات، فإن توجهات السياسة الخارجية للفلبين تعكس التقارب بين البلدين خاصة على الصعيد الأمني والدفاعي بفضل تقارب المصالح خاصة بشأن الأمن البحري، في ضوء تنامي التهديدات الصينية، وتصف بعض التقديرات ذلك النهج من قبل ماركوس بأنه يعكس إعادة تقييم أوسع للسياسة الخارجية عبر تعميق العلاقات مع القوى المتوسطة، التي تشترك في المخاوف بشأن الأمن الإقليمي؛ ولكنها تتجنب التنافس بين القوى العظمى.
كما يُنظر للشراكة المعلنة باعتبارها نتاج وحصاد جهود ممتدة لسنوات من أجل تقريب وجهات النظر وإدراك المصالح المشتركة بين البلدين، وأن تلك الشراكة تعكس مساعي ماركوس نحو مأسسة وتعميق التعاون الثنائي واستدامته خاصة في مجالات الأمن والدفاع. فضلاً عن التلميح بشأن التقارب في القيم السياسية بين البلدين - في مواجهة الصين- حيث تتشارك الفلبين والهند في قيم الديمقراطية، فالأولى هي أقدم ديمقراطية دستورية بآسيا، بينما الثانية هي أكبر ديمقراطية بالعالم؛ مما يعزز التوافق في المصالح والرؤى بشأن القضايا الدولية والإقليمية والتصدي للمخاطر المشتركة. وترى بعض التقديرات أن للبلدين مكاسب من ذلك التقارب في ظل تطلعهما لتوسيع نفوذهما الإقليمي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة نفوذ الصين.
3. مخاوف من توجهات واشنطن إزاء حلفائها في آسيا: تعكس تحركات مُختلف القوى الآسيوية الحليفة للولايات المتحدة، بما في ذلك الهند والفلبين لتعزيز التنسيق الثنائي على الصعيد الإقليمي فيما يخص مجالات الأمن والدفاع؛ وجود قدر من التخوف لدى تلك الدول بشأن حدود الدور الأمريكي ومدى الالتزام بتقديم الدعم للحلفاء، في ضوء اتسام سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالغموض والتقلب، فضلاً عن سياساته الدفاعية الراهنة إزاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بما يُثير التخوف في آسيا بشأن حدود التعويل على الدور الأمريكي في المنطقة وحدود دور مجموعات أمنية مثل كواد (التي تضم الولايات المتحدة واليابان والهند وكوريا الجنوبية) وأوكوس (التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا)، فضلاً عن التوتر الراهن بين الولايات المتحدة والعديد من الحلفاء الآسيويين بشأن الرسوم الجمركية على نحو قد يعكِّر صفو العلاقات فيما بينهما.
وفي التقدير، يعكس التحرك الفلبيني تجاه التقارب مع الهند، وما به من تحولات غير مسبوقة ما يشهده إقليم المحيط الهندي الهادئ (الإندوباسيفيك) من تحالفات تتسم بالمرونة والبراغماتية والتحول السريع بناءً على التقديرات بشأن المصالح والتهديدات. فبالرغم من بلورة شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين؛ فإن ذلك لا يعني تأسيس تحالف صلب أو قطيعة مطلقة مع الصين؛ فالهند تتطلع للتقارب مع الصين في ظل الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء الهندي مودي على هامش قمة شنغهاي.
ويبقى المشهد العسكري والسياسي في الإقليم مُتسماً بالغموض وصعوبة التنبؤ في ظل سرعة وتيرة التحول في المواقف ما بين الخصوم والحلفاء، وإن كانت حالة المخاطر والتوتر تتزايد في ظل الاستقطاب بين مُختلف القوى الإقليمية مع صعوبة التنبؤ بفرص التحول نحو مواجهة عسكرية مباشرة وحرب إقليمية شاملة.