ليس لدي أدنى شك في أنه تحت ظلال سلطة الأمر الواقع الحالية لا توجد إمكانية لوحدة سورية، بل ان الممارسات والتصريحات التي سمعناها طيلة ثمانية أشهر ونيف من عمر هذه السلطة تشكل وصفة جاهزة للتقسيم بدءاً من العقلية المريضة التي تتحدث عن حكم الغالبية المذهبية التي لا يمثلها هؤلاء أصلاً وصولاً للحديث عن الأقليات وليس المواطنين السوريين المتساوين بموجب الدستور والقانون، ثم تطبيق ذلك عبر مذابح إبادة جماعية في الساحل، ثم السويداء، مع تلويح للأكراد بنفس المصير، وممارسات يومية ضد المواطنين من سرقة، ونهب، وسلب، وخطف، وسبي، ما حول سورية إلى أدنى الدرجات في التصنيف العالمي في كل شيء، وضاق الناس ذرعاً بكل هذه الانتهاكات والجرائم، وهو أمر أكد أن هذه السلطة المؤقتة تفشل فشلاً ذريعاً في أن تشكل عامل جذب واستقطاب لغالبية السوريين وتتحول إلى مجرد بوق طائفي منفر ومقزز، لا يبني دولاً واوطاناً بل يدفع السوريين لطلب الحماية الخارجية بعد أن خذلتهم حكومتهم المؤقتة وحرضت السوريين على بعضهم البعض بعقلية الفزعة والنفير العام من المساجد واستحضار أحقاد التاريخ ما شكل مقدمة حتمية لما نراه الآن….
كل ذلك عرى هذه السلطة، وتحولت المظلة الدولية و الإقليمية التي غطتهم وما تزال إلى مظلة مثقوبة، وضعيفة ومتطايرة الأجزاء.
ضمن هذا الإطار أدعو الحكماء والعقلاء وكل الوطنيين السوريين إلى هبة لتأسيس تيار سياسي وطني سلمي واسع لمواجهة مخاطر التقسيم التي أصبحت على الأبواب من خلال رؤية تجمع ولا تفرق، تلئم الجراح ولا تعمقها، تفكر بالمستقبل ولا تنبش الماضي، تبتعد عن التحريض الديني و المذهبي، وتمثل هموم وآلام ومأسي كل السوريين….وفي نفس الوقت تبرز لهم مخاطر التقسيم الكارثية على الجميع ومنها:
١- تجزئة الموارد الطبيعية، والموانئ والمعابر، واضعاف السوق الوطنية لصالح أسواق صغيرة ومغلقة وغير قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب حجمها الصغير، وتضاعف تكاليف التجارة والنقل بسبب الحدود الجديدة ونقاط الجمارك المستحدثة ما سيرفع أسعار الغذاء والدواء والطاقة، مع ما يرافق كل ذلك من فقدان الثقة بالأسواق بسبب النزاعات، وابتعاد الاستثمارات، وتحول الإقتصاد إلى اقتصاد حرب يعتمد على التهريب والتحالفات الضيقة والدعم الخارجي ما سينعش شبكات الفساد واقتصاد الظل، وسيخسر كثير من السوريين أعمالهم نتيجة انهيار شبكات الإنتاج التقليدية (زراعة، صناعة، خدمات) ويزداد الفقر و ترتفع نسب البطالة، كما سترتفع الأسعار ونفتقد للأمن الغذائي ليتحول كل كيان إلى تابع لدولة اقليمية يعيش تحت الوصاية بدلا من السيادة…
٢- أما الآثار الاجتماعية فسوف تكون أيضا كارثية إذ سيؤدي إلى هجرات قسرية و تغييرات ديموغرافية كما ستتأكل الهوية الجامعة ليصبح تعريف السوري من خلال هويته الفرعية الطائفية، المذهبية، والاثنية ما سيعمق الانقسام النفسي والاجتماعي على مر الأجيال القادمة، ويرسخ خطاب الكراهية و العداء (الآخر هو عدوك) وفقدان الأمان والخوف من المستقبل، وتزايد معدلات الإكتئاب والاضطرابات النفسية، وسوف يؤدي كل ذلك إلى مزيد من انغلاق المجتمعات المحلية داخل فقاعة خاصة بها في التضاد مما يحدث في العالم من عولمة وانفتاح في ظل ثورة المعلومات..
٣- لا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل ان هناك اثاراً ثقافية ستظهر من خلال سعي كل طرف لبناء سردية ثقافية خاصة به، وتنافس وتضاد الهويات بدل تكاملها، كما سيفقد السوريون ارثهم الثقافي الذي تميز بأنه مركزاً لتلاقي الثقافات، والاديان وسيصيب كل ذلك حتى التراث غير المادي (الموسيقى، العادات، وحتى الطعام وفن الطبخ)، وسيعمل كل كيان لفرض مناهج تعليمية خاصة به، وأدب وفن واعلام، ويتحول كل ذلك لأدوات لترسيخ الانقسام بدلا من الحوار، وتصبح مناطق الآثار والمتاحف مجالا للتنازع و الاستثمار السياسي ويتراجع التبادل الثقافي والمهرجانات الوطنية، لتضعف لاحقا العلاقات الإجتماعية ويتحول كل طرف إلى العزلة الثقافية، ونفقد الذاكرة الجمعية….
ان التقسيم لا يهدد وحدة الأرض والسياسة والاقتصاد فقط بل يضرب جوهر الثقافة السورية الذي يقوم على التنوع و العيش المشترك، وما من شك أن سلطة الأمر الواقع ضربت ودمرت كل ذلك خلال شهور قليلة، ما يطرح سؤالا ملحاً: هل يمكن تفادي التقسيم في ظل هذه السلطة المؤقتة؟؟؟؟
جوابي بوضوح شديد: ان أحد شروط إحتمال نجاة سورية من التقسيم هو زوال هذه السلطة المؤقتة الطائفية، والمذهبية، والمشبعة بممارسات حاقدة، و غير المؤهلة لقيادة بلد كسورية، باتجاه إنتاج سلطة وطنية عابرة للطوائف والمذاهب تطرح مشروعا حضاريا لدولة علمانية، ديمقراطية وعصرية، ويطبق فيها نظام اللامركزية الادارية الموسعة، الذي يعطي الدور التنموي للقيادات المحلية…. وهناك مئات الشخصيات الدمشقية والحلبية، والحمصية، القادرة والمؤهلة، والجاذبة للسوريين.....
أما النداء فهو موجه أيضآ لمئات الشخصيات المعارضة الوطنية التي لعلعت أصواتها أيام بشار الأسد مطالبة بالحرية، والكرامة، والديمقراطية، والعدالة، بينما تعيش الآن صمت القبور أمام ما يحدث في سورية من جرائم وانتهاكات يندى لها جبين البشرية، فصمت هؤلاء الآن يظهر أنهم كانوا منافقين في مطالبهم، وكانوا مجرد أدوات بيد الآخرين، بينما علينا أن نحيي جهود أولئك الأفراد المعدودين الذين استمروا في اعلاء صوتهم من أجل سورية سواء اتفقنا معهم أم اختلفنا مثل السادة: كمال اللبواني، سمير متيني، خطيب بدلة، عماد النجار، ونضال معلوف، وكذلك كل التيارات والحركات السياسية، والمدنية داخل سورية و خارجها.
ما كتبته قد يبدو مجرد صرخة في واد عميق، ولكنها وجدانية وصادقة علها تحرك شيئا ما في زمن الزواريب، والتقسيم والتفتيت، وعلها تكون شهادة للتاريخ….. فلغة الاستئثار، والغلبة، والاستعلاء لن تبني شيئا بل ستدمر ما بقي من وطن كان اسمه سورية لمصلحة غيلان الإرهاب في الداخل و داعميهم في الخارج…..