• اخر تحديث : 2025-10-18 16:38

هزمهم حين عانق الخلود، وتعالى في  الروح المطلق. لن يظفروا به وقد تدانوا في الهزيمة الروحية. ومتى كان الانتصار قذرا؟
 
ولأنه سيد المقاو.مة، كان لا بد أن يكون حدث الارتقاء استثنائيا لا نظير له. لقد تطلب الأمر انتهاك تاريخ من التحضر وقيم الإنسان للنيل منه، وحين تمكنوا رسموا لأنفسهم حاجزا عن دخول عالم الإنسان،  لقد اختاروا الهمجية وسياسة الخروج عن ماهية النوع.  
 
يبدو أن هناك تعالي فرط_ رمزي في ثنايا ما يبدو تاريخا حدثيا للصراع، وهو ناذر، لأنه متعذر القراءة بقواعد التاريخ الكرونولوجي. ثمة ذاكرة متخمة بالميتافورا، تضفي على تخارجات الزمن لونا حضوريا تندك فيه المسافات، فيغدو الحاضر المكثف هو الماضي وهو الحاضر وهو المستقبل في آن واحد. هي الشهادة حين تتعالى بحاملها ناحية الروج المطلق، هي الروح حين تسموا فتدفن عدوها المتمادي في خراب العمران البشري في مستنقع الرداءة والمروق. هذا السيد ارتقى، فأين مصير عدو سكر بالابادة الجماعية، مؤثرا قتل المدنيين في بيوتهم بدل مواجهة الفرسان في الميدان؟!
 
من أوقف الاحتلال ربع قرن على رجل ونصف، يرتقي شهيدا بمثقال من النار يضارع قنبلة نووية. الثمن الذي يفوق الانتصار المادي، انتصار الرمزي في سفر مهيب نحو الخلود في ذاكرة أجيال، سواء من عايش منها المشهد أو من سيتلقاه سردية مسطورة بماء الذهب. 
 
يجهل العدو آثار الرمزي في الشهادة، لأنه يتحرك في أفق مغلق، في تاريخ أجوف،  في وجود ضحل، في ماهية ممزقة، في متاهة اللامعنى الجمعي.
 
تشمخ الشهادة مبدأ وشرفا بحاملها، تتجاوز جغرافيا الحرب، لتمتد في الخافقين رمزا لا تبليه الأيام. إن القتل بات لهم عادة، والشهادة كانت لهم خيارا.
 
 وللشهادة أبعاد
من تتبع يومها، هذا التقوال المغرض، الذي شكك كيديا في نوايا الإسناد،  فأخرجت النفوس الضعيفة أثقالها من الضغينة، وبلغ التشويش مبلغا جعل الشهادة شاهدة على بؤس ما كان يحيط بالمقاومة من تقوال. لنستحضر ذلك اللغط الذي تفجر يوم كان الشهيد يوزن بين المبدأ والاقتدار، وكان المهرجون يستعجلون الملحمة الكبرى، في حين كان سيد المقاو.مة يضرب حسابا لتوازنات يفرضها الاستثناء اللبناني. فهناك تدافع داخلي، وهناك حسابات لا يمكن تجاوزها لتطلعات مغرضة من خارج الميدان. لكن في نهاية المطاف،  وبعد لغط اسطال على حساب الحقيقة، أهدى سيد المقاو.مة نفسه فداء للقدس وغزة، فبهت الذي كفر.
  
ولقد كانت شهادته على طريق القدس وانتصارا لشعب مضام في غزة، وسط صمت العالم وتلكؤ واضح من النظام الدولي. كان ذلك انتصارا بالدم على التقنية. فالحرب، لا شك،  غير متكافئة، ولكن إرادة الكفاح لا تقاس بقواعد الاشتباك، فهذه الأخيرة ليست قارة، بل هي متحركة. ويبقى الثابت هو إرادة التحرر  الوطني.
 
ستصدأ التقنية ويبقى الدم طاهرا زكيا يلف التاريخ ويرسم آفاق ملعونة لاحتلال سينفجر من شدة ما يرعى على دم الشعب الفلسطيني، كما تنفجر اليراعة من فرط امتصاصها لدم النيام.  ذلك مكر التاريخ إن كانوا يعلمون.
 
ومع ذلك وبمقياس المقاو.مة يدرك العدو أن حبل العودة إلى قواعد الاشتباك الكلاسيكية ولى بلا رجعة، ولهذا السبب ازداد تأثير  فوبيا المقاو.مة في لاشعور العدو السياسي، وبات المطلب هو سلاح المقاومة بوسائل المناورة بعد عجزه في الميدان. ففي لبنان تحديدا، كانت ساحة المعركة المفترضة خارج المجال السكني، احتكاك على الأرض عجز الاحتلال أن يتقدم فيه خطوات معتبرة في ميزان الحرب، تشهد على ذلك معارك مارون الراس والخيام، وباقي التخوم، حيث أعلن العدو عن إفلاس في التقدم. لقد عجز عن بلوغ مكامن السلاح والقوة، وهو إذ يدفع باتجاه حرب أهلية لإكمال عملية الإبادة، يؤكد عن عجزه التام، لأنه لو علم بمكامن السلاح لما انتظر  تحريك أدواته السياسوية. ولقد انتصرت المقاو.مة مرة أخرى حين جنبت البلد تحقيق رغبة الاحتلال في إذكاء حرب أهلية، وأمام كل الاستفزازات الممنهجة، كانت عين المقاو.مة على العدو، وعلى من أملى الخطط ورحم الأوراق. كانت المقاومة تنازله عند التخوم وهو ينازلها عند المدنيين الآمنين، عبر أسلوب الاغتيال والحرب القذرة. فالذي نقل المعركة داخل الناس هو احتلال اخفى جبن الملاقاة وراء عنف النار ضد المدنيين. كانت معركة ضغط من قبل العدو وأدواته السياسية. شيء لم تكن المقاومة قد أدركته في الجملة وإن كانت تحتمله بالجملة، أعني مدى صلافة نظام دولي وصمته المخزي تجاه ما يجري خارج الجبهات من استهداف ممنهج للمدنيين. 
 
لقد استهدف سيد المقاومة وصفيها وسائر القادة في حالة مدنية وليس في وضعية عسكرية، لم يكن قتالا بل اغتيالا إرهابيا. وكان الاحتلال ينتظر أن تتفكك المقاومة بعد ارتقاء قادتها شهداء تباعا. لكن البنية العميقة للمقاومة ظلت تعمل قبل اتفاق الهدنة، بل ازدادت شراسة بفعل هذا الاستهداف الجبان. فالذين قضوا كانوا على كامل الجهوزية لهذا الارتقاء، بل هو ارتقاء في ثقافتهم يرسم ملامح الانتصار. الشهادة عرس لطالما تطلع له سيد المقاو.مة، لكن لماذا تصبح الشهادة إشكالية عند عدو يدرك أن الشهداء خالدون بقوة الرمزي والتاريخي.
 
ومن المؤكد أن  الاحتلال بعد ارتقاء سيد المقاو.مة، قد تجاوز الوقوف على رجل ونصف، لأنه دخل مرحلة الهذيان التي تسبق حالة "بسيكوز" جماعية.  يدرك الاحتلال أن لحظة ارتقاء سيد شهداء المقاو.مة هو منعطف كبير في معادلة الصراع. وبأن الحرب القذرة التي خطط لها ردحا من الزمن لم تنه المقاو.مة، بل سرعان ما احتوت هذه الأخيرة الأزمة  وسيطرت على الوضع. لعله من المفارقة أن المقاومة دخلة مرحلة اللامقاو.مة، بالمعنى الطاوي للعبارة، بمعنى التكيف مع عنف الضربة الجبانة والغادرة، وعنف المؤامرة الدولية والإقليمية. مقاومة تستند إلى عنصر التكيف مع شروط الأزمة، لإنتاج مخرجات انتصار يكون الاحتلال المأزوم  والفاقد للتوازن، شريكا في الإطاحة بنفسه؛ شكل آخر من المقاومة، يجهله من كل امريء تلعابة لا عهد له بالحرب،  من شأنه أن ينهك الاحتلال ويحاصره بجبروته ويفكك خيوط مؤامرته. فالزمن الذي بات فرصة للمقاومة لم يعد يسمح للاحتلال بمزيد من المناورة، لا سيما وقد استنفذ اغراضه، وبات عنفه المفرط روتينا خاليا من أي إنجاز سياسي، بل بات اكثر ارتداد على حاضره ومستقبله.
 
 لقد خاض الاحتلال حربا استثنائية خارقة للقانون الدولي الإنساني، حربا انتهت بنزع الثقة داخل غرب أظهر نفاقا غير مسبوق، إذ هناك شرط واحد للتعايش مع هذه الهمجية في المستقبل، ألا وهو انهيار النظام العالمي.
 
 تحولات المشهد وثبوت الشهادة
 
من المؤكد أن المقاومة أدرى بتحولات  الزمن واحتمالاته. فأصل المقاومة ومبدؤها الأساسي هو قدرتها على التكيف مع التحولات والاحتمالات، وأن لا تسمح للتوتر العالي في عملية الصراع أن يبلغ أهدافه. لكن تحول المشهد لا ينفي ثبات الشهادة، والتي هي لحظة فيض رمزي، وشحن روحاني يضفي معنى على فكرة الصمود. حينما تتحقق الشهادة كحدث فوق_تاريخي، يولد المعنى التاريخي للاستمرارية، باعتبار أن الفوق_تاريخي حاكم على التاريخي. ثمة حوليات روحانية يتعين أن لا يخطئها الرصد التاريخي، فالشهادة هنا هي رافد أنطولوجي لمسيرة التاريخ ، حينما تحاصر الحقيقة والعدالة بوسائل لا تاريخية. الشهادة بهذا المعنى انتصار، فلا تنتظر من عدو فاقد لامتياز الروحانية، والرمزية، والتاريخية أن يقدم شهادة  لمعنى الشهيد، لا يمكن للمتداني أن يدرك مغزى المتعالي.
 
تحجب عظمة الشهادة التشويش التحت_ التاريخي، ركوب موجات السياسوية القصيرة لإيقاف زحف المقاومة المكللة بمكر التاريخ. لا يرقى بالشهادة حاملها فحسب، بل أمته أيضا. فمن كان يظن أن الشهادة تورث أهلها ذلا، فهو خارج كل سنن التاريخ وطبائع النوع. 
 
تاريخ المرحلة الإنتقالية التي تسبق الاستئناف المضاعف، يغري خلايا الهزيمة النائمة، مع أن زحف التاريخ هو أقوى من حراس الهزيمة. فمن عجز عن حراسة الانتصار هو حتما أعجز عن حراسة الهزيمة.
 
ثمة استنزاف منهجي لتحويل قيمة الشهادة إلى هزيمة، يتولى هذه الحملة طابور مجهز بكل وسائل الضخ والتضليل الإعلامي، وهو في هذا لا يقارع مكر التاريخ فحسب، بل يعمل على تدبير المستقبل على قاعدة قوة لبنان في ضعفه، أي تحويل مشتل الشهادة ونبل الفرسان والوفاء الوطني إلى محمية فاجرة للرجعية. انقلاب المفاهيم والقيم في هذا المربع الجغرافي المنكوب، يعكس مفارقة العقل السياسي العربي، بل الأخطر من ذلك، أن اللعبة القذرة لا زالت رغم لهاثها، تصر على الصمود: صمود الهزيمة والعمالة، الظاهر منها والباطن.
 
 ماذا بعد؟
 
وها قد بلغت الرسالة محلها،  وأغلقت بابا من أبواب المغالطة، بكلفة الشهادة التي لا راد لحجيتها في منطق الصراع. ماذا عن المرحلة التي تقتضي صمود الوعي أمام محاولات الزيف متعدد الأبعاد؟
 
ليس في وسع الاحتلال أن يفعل أكثر من فعلته تلك. لقد أطلق كل رصاصاته، ولم يدخر أهزعا في كنانته. بينما لم تقل المقاومة كلمتها الأخيرة بعد. وهذا مصدر اضطراب موقف الاحتلال، بعد أن لم يعد يدرك كيف يفكر فرسان المقاومة، وفي ماذا يفكرون. فلا شك في أن المقاومة استطاعت أن تبني لها بنية عميقة لم تعد قابلة للأجيال الجديد من الاختراق السيبراني، تمت السيطرة على الأمن السيراميك في وقت قياسي بعد مؤامرة البيجر التي تعتبر سابقة في الاقتصاد السياسي العالمي وتهديدا للتجارة العالمية. فلقد فشل الاحتلال في تكرار ما قام به من قبل واعتبره انتصارا في انتشاء سرعان ما خبا وهجه . ثمة مقاومة سيبرانية فائقة، جعلت المقاومة تدخل معادلة حرب سيبرانية، تعتمد آخر أشكال التقنية الفائقة. ثمة محاولات فشلت،  وهذه في حد ذاتها واحدة من انتصارات المقاومة. 
 
سيبقى دم سيد المقاومة وديعة في قلوب قادة المقاومة و بيئتها المكافحة، وسيبقى سلاحها بكلفة الشهادة والدم الزكي لمن كافح ووفى، حيث سيبقى أيقونة نضال تحرري في ذاكرة كل جيل.