مقدمة
على مدى عقود، مثّلت سوريا لاعباً مركزياً في الإقليم وكانت علاقتها بالولايات المتحدة معياراً لمكانتها. يكفي أن نستعيد كيف انتقل رؤساء أميركيون أو وزراء خارجيتهم إلى جنيف أو دمشق للقائها، وكيف كان وزير خارجية أميركا ينتظر ساعات للجلوس مع الرئيس حافظ الأسد. اليوم، بعد حربٍ استمرت 14 عاماً أرهقت الدولة والمجتمع، تأتي زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى نيويورك – المموّلة والمُرتّبة خليجياً وتركيّاً – في ظل وضع مختلف تماماً: دولة ممزقة تتقاطع فوقها أجهزة مخابرات دولية وقوى إقليمية، ومكانة دولية تبحث عن ترميم.
أولاً: سوريا في عهد البعث – مقومات الهيبة والوزن
خلال حقبة حافظ الأسد، كانت سوريا دولة مركزية ذات جهاز إداري وأمني متماسك، وحضور قوي في ملفات عربية وإقليمية حساسة (لبنان، فلسطين، الجولان). هذه العوامل منحتها قدرة تفاوضية مع واشنطن، كما شهدنا في لقاءات قمة مع رؤساء أميركيين: بيل كلينتون انتقل إلى جنيف عام 1994 للقاء الأسد، وقبله الرئيس ريتشارد نيكسون زار دمشق عام 1974 برفقة وزير خارجيته هنري كيسنجر بعد حرب تشرين؛ في تلك المرحلة بقي وزير خارجية أميركا وارن كريستوفر ينتظر ساعات لمقابلة الأسد أثناء عدوان «عناقيد الغضب» على لبنان عام 1996.
تقارير مراكز أبحاث مثل Chatham House وThe Washington Institute تشير إلى أن تلك القدرة لم تأتِ من مجرد خطاب سياسي، بل من عناصر قوة داخلية: جيش موحّد، مؤسسات مستقرة، سياسة خارجية منضبطة، وشبكة تحالفات متينة.
ثانياً: ما يمنح الدول وزناً حقيقياً في العلاقات الدولية
يُجمع خبراء العلاقات الدولية على أن «الوزن» لا يُشترى ولا يُمنح، بل يُبنى على مقومات واضحة:
-مؤسسات دولة قوية وقادرة على فرض القانون.
-استقرار سياسي واجتماعي يسمح بسياسات طويلة الأمد.
-شبكة تحالفات إقليمية ودولية تمنح الدولة عمقاً استراتيجياً.
-مصداقية في التزاماتها الدولية.
غياب هذه العناصر يجعل أي زيارة أو بروتوكول أو ترويج إعلامي أقرب إلى مسرح علاقات عامة منه إلى إنجاز سياسي.
ثالثاً: الدولة السورية بعد 14 عاماً من الحرب – واقع ممزق
اليوم، توصّف تقارير الأمم المتحدة ومراكز أبحاث الدولة السورية بأنها «دولة مُجزّأة» أو «هجين» بين سلطات محلية وفواعل خارجية. السيطرة على الأرض موزّعة بين سلطات انتقالية، جماعات مسلحة، قوات كردية، وجود عسكري أجنبي، وأجهزة مخابرات دولية وإقليمية. روسيا، إيران، تركيا، ودول خليجية لها أدوار مباشرة أو غير مباشرة في القرار الأمني والسياسي والاقتصادي.
الاقتصاد منهك والبنية التحتية مدمّرة، مع ملايين النازحين واللاجئين. هذه المعطيات تجعل أي سلطة جديدة – مثل سلطة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع – عاجزة عن تحويل زيارة إلى نيويورك إلى مكاسب استراتيجية سريعة.
رابعاً: زيارة أحمد الشرع إلى نيويورك – بين الترويج والأثر الفعلي
الزيارة التي أُعلن عنها إعلامياً بوصفها «عودة سوريا إلى المجتمع الدولي» رتّبتها وساطات خليجية وتركية بحسب تغطيات صحفية. لقاءات مع مسؤولين أميركيين حصلت، لكن على مستوى رمزي أكثر منه تفاوضي؛ أبرزها مصافحة محرجة مع الرئيس ترامب بحضور زوجته، ولقاء قصير لوزير الخارجية أسعد الشيباني مع وزير الخارجية ماركو روبيو رتّبه رجل الأعمال توماس براك.
على خلاف ما حدث في التسعينات حين كان كلينتون يذهب إلى جنيف للقاء الأسد، اليوم لم تؤدِّ زيارة نيويورك إلى رفع عقوبات أو توقيع اتفاقات أمنية ملزمة أو اعتراف سياسي واسع. السبب أن هذه النتائج تحتاج إلى بنية دولة مستقرة وقدرة تفاوضية وليس فقط إلى ترتيب إعلامي.
خامساً: وهم «النأي بالنفس» والحاجة لتعزيز الجبهة الداخلية
من الأفكار التي تحاول سلطة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تسويقها اليوم شعار «النأي بالنفس عن قضايا المنطقة الأساسية» لبناء الدولة وإعادة الإعمار. لكن خبراء العلاقات الدولية يرون أن هذا الشعار في حالة سوريا أقرب إلى الوهم؛ فالجغرافيا السياسية، تركيبة المجتمع، وموقع سوريا في قلب الشرق الأوسط تجعلها دائماً في قلب التفاعلات الإقليمية، لا على هامشها.
الحل الواقعي ليس في الانسحاب من قضايا الإقليم بل في تعزيز الجبهة الداخلية: بناء مؤسسات، استعادة الشرعية الداخلية، إصلاح اقتصادي وإداري، توحيد الأجهزة، وتحسين شروط التفاوض مع الخارج من موقع قوة واستقرار.
سادساً: متى نقيم موضوعياً؟ شروط التقييم العلمي بعيداً عن الحقد والثنائيات
لكي ننتقل من سجالات الحقد والثنائيات القاتلة إلى تقييم موضوعي يساعد على الانطلاق للأمام، لا بد من معايير واضحة:
-استقرار أمني ملموس وتراجع دور الجماعات المسلحة.
-استعادة وظائف الدولة الأساسية وخدماتها في معظم المناطق.
-استقلال القرار السياسي عن الإملاءات الخارجية القهرية.
-تقدّم في مساءلة وشفافية وعدالة انتقالية.
-برامج دمج وتوحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية.
-مؤشرات اقتصادية واجتماعية قابلة للقياس (بطالة، إنتاج، استثمارات).
-فسح المجال للباحثين والصحافيين المستقلين للوصول إلى المعلومات.
-التخلي عن الاستعلاء والفوقية والفكر الطائفي المريض، والانتقال نحو دولة المواطنة المتساوية؛ لأن هذا وحده يمنح الدولة شرعية داخلية واستقراراً طويل الأمد ويعيد لها قدرتها على التفاوض من موقع احترام.
خاتمة
زيارة نيويورك قد تفتح قنوات، تمنح شرعية رمزية، وتخفّف عزلة مؤقتة، لكنها لا تُعيد تلقائياً مكانة دولة اكتسبت هيبتها عبر قوة مؤسسية واستقرار داخلي وتحالفات راسخة.
أما شعار «النأي بالنفس» فيبدو أقرب إلى مسكّن إعلامي منه إلى إستراتيجية قابلة للتطبيق في حالة سوريا. السبيل الوحيد لاستعادة الوزن الدولي هو تعزيز الجبهة الداخلية وبناء دولة متماسكة، والتخلي عن الفكر الطائفي والاستعلاء لصالح دولة المواطنة، ثم الانخراط الإيجابي في محيطها الإقليمي من موقع قوة، وإطار تقييم علمي بعيداً عن الحقد والثنائيات، حتى يمكن إطلاق مسار واقعي نحو المستقبل.