التناقض بين الخطاب والواقع
التفجيرات في الأماكن العامة وقتل الأبرياء ليست سوى بعض ملامح السجل الدموي لهذه الجماعات. اللقاء الأخير في مجلس العلاقات الخارجية وبثته قناة CNN كشف بوضوح شديد حجم التناقض بين الخطاب الذي يحاول هؤلاء تسويقه، والواقع الذي يعيشه السوريون يومياً. فهؤلاء يرفضون من حيث المبدأ الديمقراطية الحقيقية، ويرفضون التعددية السياسية، ولا يعترفون بحقوق المواطنة أو بالانتخابات الحرة. حتى داخل التنظيمات نفسها يستخدمون التكفير والتصفية الداخلية ضد أي مخالف.
أما التمويل فغامض وملتبس، ويكشف الدور المشبوه – بل المكشوف – لأجهزة المخابرات البريطانية. فمثلاً، أدى جوناثان باول دور الوسيط السياسي والإعلامي الذي قدّم غطاءً للعلاقات غير المعلنة بين هذه الجماعات وبعض الدوائر الغربية، وهو ما أشار إليه ريتشارد مور الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني حين تحدّث قبل أيام عن وجودهم في دمشق بعد ساعات من وصول الجولاني، كما أن لقاء بيترايوس مع الجولاني في منصة كونكورديا كشفت العلاقة القديمة بين المعلم و تلميذه، ولغة الجسد بينت ذلك بوضوح.
سقوط الخطاب أمام الكاميرا
لم يكن الحوار الذي أجراه فريد زكريا مع وزير خارجية ما يسمى “الحكومة المؤقتة” في دمشق، أسعد الشيباني، مجرد لقاء عابر، بل كان مرآة كاشفة لسقوط كامل الخطاب الذي حاول هؤلاء تسويقه طوال سنوات. ظهر الشيباني مكشوفاً ومتناقضاً، يكذب ويزوّر بلا تردد، محاولاً إعادة إنتاج صورة “جبهة النصرة” الإرهابية ووريثتها “هيئة تحرير الشام” كحركة شعبية، في حين يعرف القاصي والداني أن هذه التشكيلات كانت امتداداً لداعش ثم القاعدة ثم النصرة، وأن سجلها مثقل بالتفجيرات والاغتيالات والدماء.
تهرّب الشيباني بشكل فاضح من كلمة “ديمقراطية” التي كان الغرب يتغنّى بها يوماً، متلعثماً حين سُئل عن شكل الحكم الذي يريدونه. والأخطر أنه بدا وكأنه يتسوّل علاقة مع إسرائيل، متحدثاً بسطحيةٍ مخجلة عن “السلام” و”التعاون”، متجاهلاً طبيعة الصراع التاريخي ودماء آلاف الشهداء تحت الاحتلال والعدوان. بدلاً من أن يقدّم رؤية فكرية أو مشروعاً وطنياً، كشف الشيباني ضحالة معرفية وفكرية، وبدت عباراته محفوظة على طريقة المتدرّبين في دورات العلاقات العامة التي تموّلها بعض العواصم. هؤلاء لا يمكن أن يمثلوا سورية و السوريين ، ولا أن يبنوا مشروع دولة؛ بل يثبتون لنا في كل يوم و مناسبة أنهم مجرد أدوات وظيفية تتقن تبديل الأقنعة وفق المزاج الدولي.
ان أي استعراض سريع لأسماء المفكرين ، وقادة الرأي لديهم تظهر أسماء دعاة فتنة و قتل وتخلف، منهم عبد الله المحيسني، وعبد الرحيم عطون،و من يتأمل المسار الفكري والسياسي، لهؤلاء يفهم كيف يتقلبون كالحرباء ، فعبد الله المحيسني “الشرعي” الذي أدرجته السعودية والإمارات على قوائم الإرهاب، جمع التبرعات وبارك القصف الصاروخي على أحياء حلب، ثم خرج في مقاطع مصوّرة يتحدث عن فكره المتخلف، والاقصائي، وأما عبد الرحيم عطّون، الشرعي العام لهيئة تحرير الشام، فيقدّم طالبان كنموذج في ندواته الداخلية ويجلس في قصر الشعب حارسا لقيم ابن تيمية وراعيا لفرض السلفية الجهادية في مؤسسات الدولة ، وأما الإرهابيون الأجانب الذين تدفقوا منذ 2012 – من القوقاز وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا – فهم الذين أسّسوا مع هؤلاء بنية العنف والإرهاب المعولم نفسها، وشاركوا في التفخيخ والانتحاريات والاغتيالات، وارتكبوا مذابح الساحل والسويداء، وفجروا الكنيسة في قلب دمشق. كل هذه الملفات غابت عن أسئلة فريد زكريا ضمن اللقاء المرتب والمدفوع الأجر سلفاً.
نفاق الغرب: تبديل اللباس لا يغيّر الفكر
هنا يظهر الدور الغربي. الإدارة الأمريكية والأوروبية التي تدّعي محاربة الإرهاب هي نفسها التي فتحت منابر إعلامية وسياسية لتسويق هذه الجماعات في صالونات “مراكز أبحاث” و”مجالس علاقات خارجية” على أنها “ثورية” و”معتدلة” و”خلعت التطرف”. يكفي أن يلبس المتحدث الطقم ويشذب لحيته، ويجلس أمام الكاميرا بلغة إنجليزية ركيكة حتى يُقدَّم للرأي العام الغربي على أنه “صوت جديد” أو “وجه معتدل”؛ وكأن اللباس هو الذي يعكس التخلي عن القتل والتكفير، لا الفكر ولا الممارسة.
هذا بالضبط ما حصل مع أسعد الشيباني: رجلٌ جاء من محيط فكري وتنظيمي واحد مع هذه الأسماء، ثم قُدّم فجأة على أنه “وزير خارجية حكومة مؤقتة” و”ممثل ثوري”، بينما الوثائق والملفات والذاكرة القريبة تقول إنهم جزء من سلسلة عنف أيديولوجي، وطائفي مقيت، بدأت بالفتاوى وانتهت بالمذابح.
لقاء بيترايوس مع الجولاني كشف بوضوح، ودون أي التباس العلاقة القديمة بين الطرفين، فيما استمر القتل، والتمييز الطائفي ضد المواطنين السوريين في الساحل والسويداء، ويتم العمل بشكل مكثف على فرض تفسير ديني صارم (سلفي–متخلّف) على الحياة اليومية. بالمناسبة، منذ وصول هؤلاء وثّق “المرصد السوري لحقوق الإنسان” في بريطانيا مقتل أكثر من عشرة آلاف مواطن سوري على يد ميليشيات وفزعات هذه السلطة.
الخلاصة: فضيحة موثقة لا نجاح دعائي
حاول الشيباني من خلال هذا الحوار أن يغطي على كل ذلك، لكن النتيجة كانت عكسية: أمام العالم كله ظهر الخطاب على حقيقته؛ خطاب جماعات متطرفة تُلبَس لبوس “الحكومة المؤقتة” وتتسوّل شرعية دولية لا تستحقها. ومهما حاول الغرب تلميع هذه الصور ببدلة وربطة عنق، تبقى حقيقتها مطبوعة في ذاكرة السوريين من خلال الإرهاب الذي مارسوه وما زالوا يمارسونه. إعادة تدوير هؤلاء ليست سوى ورقة جديدة في لعبة الأقنعة.