أولًا فليكن واضحًا أن العملية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية طوفان الاقصى" كانت مفاجأة ولم يكن لدى المقاومة في لبنان، ولا ايران أي علم بها إلا فجر يوم التنفيذ، بمعنى أن ما كان يقال من سردية من الاعلام العربي والدولي كافة بأن ايران وحزب الله ورط المقاومة الفلسطينية في "طوفان الاقصى" كلام غير صحيح.
وعندما قررت المقاومة مساندة غزة واتخذت القرار في اليوم التالي 8 تشرين الاول، كانت هناك نصيحة من المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية في ايران السيد علي خامنئي للشهيد الاسمى السيد حسن نصرالله أن لا يدخل هذه الحرب، لأن توقيتها غير مناسب، ولكن الشهيد الاسمى السيد حسن نصرالله كان يحمل جبلين على أكتافه:
الأول ـ الارتباط الاخلاقي بالقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى.
الثاني ـ هم عدم جر الحرب الى لبنان، ونذكر حينها أن أمين عام حزب الله لم يخرج على الاعلام لمدة 27 يومًا من حادثة عملية "طوفان الاقصى"، لأنه كان حينها يدرس جيدًا الحرب مع اسرائيل وكلفتها، لذلك قامت المقاومة بداية 8 تشرين ببدء مساندة غزة في مزارع شبعا؛ إذ استهدفت دبابة ميركافا، ومزارع شبعا لا تخضع للقرار الرقم 1701، ومنطقة مزارع شبعا خارج نطاق هذا القرار ، وذلك التزامًا من المقاومة بعدم خرق هذا القرار؛ ولكن اسرائيل عندما ردت على استهداف الدبابة قصفت المناطق التي تخضع للقرار 1701 في القطاع الغربي الى الشرق، وكرت السبحة.
قامت اسرائيل باغتيال معظم قادة الصف الاول في المقاومة إلى أن اغتالت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وكان ذلك ناتجًا عن عوامل عدة مكّنت اسرائيل من الوصول إلى هؤلاء القادة:
ـ المعلومات التي وصلت إلى اسرائيل، وشكلت بنك اهداف لدى اسرائيل اعتبارًا من العام 2005 مع مجيء لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الشهيد رفيق الحريري، فقد أتت إلى لبنان واستباحت كل داتا لبنان، واستباحت شبكة الهاتف الارضية والخليوية، واستباحت المصارف، واستباحت المستشفيات، والجامعات، والمدارس، والاجهزة الامنية، يعني كل داتا لبنان اصبحت في حوزة اسرائيل جراء سيطرة لجنة التحقيق الدولية على هذه الداتا.
هذا أول بنك اهداف كان لدى اسرائيل وهو خطير جدًا، ما يعنى أن اسرائيل من العام 2005 لغاية العام 2024 تمكنت من أن تصل إلى محيط كل عناصر المقاومة، بمعنى إذا أنا كنت مسؤولًا في حزب الله لم يعد يكفي أن أرمي الهاتف الذكي من يدي كي أصبح بفي مأمن، لأن كل محيطي أصبح لدى اسرائيل.
ـ انكشاف معظم قادة المقاومة، وجميع العناصر الذين ذهبوا للقتال في سوريا، فعندما ذهبت المقاومة للقتال في سوريا استعملت الهاتف الذكي، فأصبح لدى اسرائيل معلومات دقيقة عن المقاتلين وعن جميع القادة من العام 2011 لغاية العام 2024، وهذا جعل اسرائيل تمتلك معلومات دقيقة جدًا عن معظم قادة الصف الاول في المقاومة والمقاتلين والعناصر، وصولًا إلى عملية البيجر التي كانت خطيرة جدًا؛ وقد اعترفت اسرائيل بأنها تحضر لهذه العملية منذ 10 سنوات تقريبًا، يعني عندما سلم البيحر للقادة والعناصر في المقاومة استطاعت اسرائيل أن تكوّن داتا جديدة عن أماكن وجود القادة في المقاومة بواسطة البيجر، وعندما لاحظت اسرائيل أن المقاومة اكتشفت وجود أمر ما مريب في أجهزة البيجر سرّعت تنفيذ عملية البيجر وتفجيرها كي لا تتمكن المقاومة من تجنب هذه الكارثة وهذه العملية الارهابية.
ـ الشبكة الأرضية: إلى جانب هذه الاسباب التي مكّنت اسرائيل من كشف معظم قادة الصف الاول وصولًا الى الأمين العام لحزب الله هناك الشبكة الارضية التي على اساسها حصلت أحداث 7 أيار، وما سُمي غزوة بيروت وسلاح الاشارة للمقاومة، خلال هذه الحرب أيضًا استطاعت اسرائيل أن تخرق هذه الشبكة في مكان ما ووصلت فيها إلى قادة من حزب الله، كل هذا مكّن اسرائيل من الوصول إلى القادة واغتيالهم بهذا الشكل ومعهم الأمين العام.
طبعًا لا ننكر وجود خرق بشري في مكان ما، ولكن نسبة الخرق التقني الالكتروني التكنولوجي الاسرائيلي للمقاومة بحدود الـ 90% وليس اكثر من 10% للخرق البشري، ما ادى الى وصولنا الى مرحلة تمكّن إسرائيل من أن تغتال امين عام حزب الله ومعه معظم قادة الصف الاول وتنفيذ عملية البيجر.
إن أي جيش في العالم في حال تعرض لعملية كعملية البيجر التي حصلت مع المقاومة بشكل استطاعت معه اسرائيل أن تخرج 4000 عنصر تقريبًا من المقاومة في ظرف 4 ثواني من المعركة، وان تغتال معظم قادة الصف الأول، خاصة قادة القوات الخاصة للمقاومة، وهي قوة الرضوان، وصولًا إلى امين عام حزب الله والذي انتخب مكانه أيضًا، بمعنى المفروض أن أي جيش في العالم يتعرض لهذه الضربة القاسية أن يستسلم، لكن المقاومين الذين كانوا يرابطون على جبهة الجنوب، وعلى تخوم الحدود عندما علموا بأنه تم اغتيال معظم قادة الصف الاول وحتى الأمين العام لحزب الله، وهذا الدمار الذي بدأ عندما قررت اسرائيل تنفيذ العمل العسكري البري على جنوب لبنان مهدّت له بقصف عنيف لطول الجبهة والعمق اللبناني والبقاع بشكل مدمر، وأي مقاتل موجود على الجبهة ويعلم أن الامين العام لحزب الله قد استشهد، ومعظم قادة الصف الاول قد استشهدوا فالمفروض نظريًا أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم أمام أول دبابة يراها تعبر الاراضي اللبنانية؛ لكن الذي جرى هو خلاف ذلك بالكامل، وهذا ما صدم اسرائيل، فقد كان هدفها احتلال كامل منطقة جنوب الليطاني بدليل أنها طلبت من اليونفيل اخلاء مراكزها والتوجه شمالًا، لأنها كانت مقتنعة بأن المقاومة بعد هذه الضربات القاسية اصبحت آيلة الى السقوط، ما جعلها تطلب من اليونفيل اخلاء مراكزها تمهيدًا لاحتلال كامل لمنطقة جنوب الليطاني.
لكن ما حصل أن المقاومين تصدوا واستبسلوا في التصدي لأسباب عدة:
أولًا ـ العقيدة الراسخة والشجاعة التي يتحلون بها.
ثانيًا ـ التحضيرات التي كانت منذ العام 2006 وحتى هذه المعركة.
ثالثًا ـ المقاتل في حزب الله المرابض في جنوب لبنان عندما علم باستشهاد الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لم يعد لاي شيء له ثمن، واصبح كل شيء رخيصًا، حتى ارواحهم؛ فاستبسلوا في التصدي على درجة أن 5 فرق قوامها 70 الف جندي احتشدوا على طول الحدود لم يستطيعوا أن يخرقوا سوى منطقة شمع 4 كلم، و كان هناك3 فرق تساعد لاحتلال بلدة الخيام وفشلوا، لقد جرت أعمال بطولية على الرغم من تكرار اسرائيل محاولات الدخول عدة مرات بواسطة دبابات كانت المقاومة تستهدفها وتدمرها، خاصة في القطاع الغربي الناقورة، وفي مسكفعام أيضًا.
و لذلك استبدلت اسرائيل دخولها البري بقوات راجلة تتسلل ليلًا لكن ليس بواسطة الدبابات، لأنها لم تعد تتجرأ على ارسال دبابات لدخول الاراضي اللبنانية كونها تعلم أن هناك كميات كبيرة من الصواريخ المضادة للدروع من كورنيت وما شابه تستهدف هذه الدبابات؛ فعمدت إلى إرسال قوى راجلة تتسلل، الى ان انتهت الحرب وتوقفت بعدما استعادت المقاومة المبادرة، وانتقلت من مرحلة استيعاب الصدمة عقب اغتيال القادة ثم بدأت بمرحلة الدفاع عندما قررت اسرائيل العمل العسكري البري ثم انتقلت الى مرحلة الهجوم بحيث وصلت صواريخ المقاومة الى حيفا وتل ابيب، ووصلت الطائرة المسيرة إلى منزل نتنياهو وقيادة اللواء غولاني، وأسقطت 100 بين قتيل وجريح.
عندما استعادت المقاومة المبادرة، وبدأت تستعمل الصواريخ الباليستية والاستراتيجية طلبت اسرائيل من اميركا وقف اطلاق النار الذي حصل في 27 تشرين الثاني 2024، وفرض فيه اسرائيل أمرًا واقعًا بحرية الحركة، بحيث أن ما لم تستطع تحقيقه أثناء الحرب حققته اثناء الهدنة، فقامت بجرف معظم القرى المتاخمة للحدود وسوتها بالأرض، عدا عن استمرار الخروقات والاعتداءات الاسرائيلية والاغتيالات حتى يومنا هذا.
هنا المقاومة لاتزال حتى الان ملتزمة وقف اطلاق النار، مفسحة المجال أمام السلطة السياسية الجديدة التي تكونت بعد وقف اطلاق النار بانتخاب رئيس جمهورية وعهد جديد على أساس أن الديبلوماسية تنفع، وأن القرارات الدولية تنفع، وأن الدول الراعية للاتفاق تنفع، واذ بإسرائيل تعربد في كامل المنطقة في لبنان، وفي غزة والضفة الغربية، وفي سوريا، وفي اليمن، ومؤخرًا في قطر، واعتدت على ايران، وهذا كله بضوء اخضر اميركي.
يبقى السؤال المطروح على الدوام: كيف يمكن تجنب الانكشاف الأمني والخروقات الأمنية الاسرائيلية في المرحلة المقبلة؟
أعتقد أن المقاومة أجرت وتجري تحقيقًا على موضوع الخروقات الامنية التكنولوجية، والتقنية، وتحدد ما إذا كانت بشرية كي تصل إلى نتائج موضوعية علمية، وتجنب ان يتكرر هذا الخرق بهذا الشكل، ولكن ما تبين هو وجود تفوق تكنولوجي ضخم جدًا لدى الإسرائيلي؛ ويجب ألا ننسى أن معظم دول العالم ـ لاسيما أميركا وبريطانيا ـ تساعد اسرائيل بالتكنولوجيا، وطائراتها التجسسية تجوب سماء المنطقة، وليس في لبنان فقط لتساعد اسرائيل بداتا المعلومات وبنك الأهداف، وهناك تطور تكنولوجي خطير جدًا مجهول حتى الان كي نعرف إلى أي مدى التكنولوجيا لدى اسرائيل متطورة وكيف تستطيع أن تخرق، ولكن المقاومة اعتبارًا من هذه الحرب وحتى اليوم بدأت اتخاذ تدابير علمية لمنع تكرار الخرق الامني التكنولوجي الذي وصلت اليه إسرائيل، وهذا الموضوع لا يمكن الدخول في تفاصيله، كما أن المقاومة بدأت تستعمل اسلوبًا جديدًا في التعاطي مع الاحداث، وعادة كانت تعترف فورًا بالاغتيالات وتسمي الاشخاص بأسمائهم، ولكن هذه المرة بدأت المقاومة تستعمل أسلوب الغموض وعدم الحديث عن أي معلومات تخص المقاومة سوى ما صرّح به الأمين العام الحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن أن المقاومة رممت نفسها وتعافت من كافة النواحي ، سواء ما خص العديد، أو العتاد، أو الأسلحة؛ وأعتقد أن المقاومة اتخذت تدابير مهمة جدًا لناحية الحرب الالكترونية، وحرب التكنولوجيا لتجنب الخرق الذي قامت به اسرائيل منذ العام 2005 حتى اليوم.
من المهم جدًا الاستفادة والاتعاظ من الملاحظات التي حصلت خلال الحرب منذ عامين لغاية اليوم، على سبيل المثال ضرورة أن يتحلى كل مواطن بالمسؤولية بمعنى التصوير واستعمال الهواتف الذكية لنقل الاحداث بشكل التسابق على نشر المشاهد للقصف الإسرائيلي، أو الاغتيالات، أو التعريف عن من اغتيل، أو نوع السيارة، لأن نشر كل هذا عبر وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى نقل المعلومات بطريقة أو بأخرى إلى الاسرائيلي الذي يتتبع ويراقب وسائل التواصل الاجتماعي، وعندما تعلن اسرائيل أنها تحذر المبنى الفلاني بإخلائه والابتعاد عنه 500 متر تكون في هذه الحالة تراقب خروج المواطنين من الاحياء المجاورة والسيارات التي تخرج وارقام الهاتف التي تخرج من الابنية وتراقب التواصل ما بين هذه الهواتف من المنطقة المستهدفة كي تكوّن معلومات، لذا على المواطن أن يكون واعيًا، وأن يكون مسؤولًا لهذه الناحية، وان نقطع موضوع تحديد الاهداف ومن يسكن هناك والهدف المستهدف... كل هذه المعلومات تستفيد منها اسرائيل.
أما على الصعيد العسكري التقني والتكنولوجيا العسكرية، فإسرائيل حتى الان تستعمل تقنيات حديثة جدًا مجهولة حتى الان ولكن بالتأكيد أن بنك الاهداف الذي تملكه في لبنان هو واسع وشاسع ودقيق جدًا تصل اليه.
وما خصّ الجانب العسكري المتعلق بالمقاومة هو موضوع لا يمكن مناقشته، أو تعميمه؛ ولكن أؤكد أن المقاومة واعتبارًا من عمليات الاغتيال وعمليات البيجر بدأت تأخذ اجراءات للحد من الانكشاف الامني و الخرق التكنولوجي، على شاكلة الابتعاد عن استعمال التكنولوجيا في تواصلها.
الهواتف الذكية ونتنياهو عندما يقول "هواتفنا في كل بيت"، هو أمر صحيح، فالهاتف الذكي هو أخطر جهاز في حياة الانسان، فكل هاتف ذكي في يد أي مواطن تكون ملفاته كلها مخترقة من الموساد الإسرائيلي، ومن الامن الإسرائيلي؛ وبالتالي فكل المعلومات الموجودة على الهاتف تنتقل بسهولة الى الامن الاسرائيلي، فإما يجب ان نعود الى الهواتف القديمة التي لا تعد ذكية وحتى هذه المخترقة، وإما أن نستغني عن وسائل الاتصال نهائيًا، وهذا غير قابل للتنفيذ ، ولم يعد في استطاعتنا الاستغناء عن الهواتف النقالة بشكل عام، وأي شيء فيه كهرباء تليفون ثابت، أو هاتف ذكي أو غير ذكي فهو مخترق، اي وسيلة اتصال مهما كان نوعها مخترقة، ان نعود الى الحمام الزاجل نكون بذلك نبالغ؛ لذلك يجب أخذ اجراءات للحد من نشر المعلومات.