• اخر تحديث : 2025-10-22 15:43
news-details
إصدارات الأعضاء

المرجعية العليا وفلسفة الموقف من الانتخابات: بين الوعي الوطني والمسؤولية الأخلاقية


لم يكن موقف المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف يومًا موقفًا عابراً أو ظرفياً من العملية السياسية في العراق، بل جاء نابعاً من رؤية فكرية متكاملة تنطلق من ثوابت الدين والعقل والضمير الوطني.
 
فكل بيان أو توجيه يصدر عن مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، يعبّر عن فلسفة رصينة في فهم الدولة والمجتمع، ويدعو إلى بناء وعي سياسي قائم على الأخلاق والمسؤولية، لا على الانفعال والمصالح الضيقة.
 
أولاً: المشاركة مسؤولية وليست فرضاً
 
في آخر بيان صادر عن مكتب المرجعية، أُشير بوضوح إلى أن «إن وجد المواطن أن المشاركة أوفق بمصلحة العراق فليشارك بانتخاب المرشح الصالح الأمين».
هذا الموقف، على بساطته الظاهرية، يحمل عمقاً كبيراً من حيث الدلالة. 
 
فهو لا يجعل المشاركة واجباً مطلقاً ، ولا يقف ضدها موقفاً سلبياً ، بل يربطها بمعيار المصلحة العليا للوطن والأمانة في الاختيار. بمعنى أن المرجعية تريد من المواطن أن يكون شريكاً في الإصلاح، لا تابعاً للأحزاب أو الموجات الدعائية.
 
ثانيًا: المرجعية بين الدين والسياسة
منذ عام 2003، اختارت المرجعية العليا موقع الراصد والموجّه لا موقع الحاكم أو المتحكم. لم تنخرط في الصراعات الحزبية، ولم تدعم قائمة أو مرشحاً بعينه، لكنها تدخلت كلما اقتضت الضرورة لحماية كيان الدولة ومنع انزلاقها نحو الفوضى أو الفساد.
 
فهي تؤمن بأن السياسة إذا انفصلت عن القيم تتحول إلى سلطة عمياء، وأن إصلاح الحكم لا يتم بتغيير الأشخاص فقط، بل بتغيير ثقافة المجتمع السياسي بأسره.
 
ثالثًا: فلسفة “الاختيار الواعي”
تؤكد المرجعية أن صوت الناخب أمانة، وأن من يشارك في الانتخابات دون وعي يُسهم في تكريس الفساد لا في إصلاحه. 
 
لذا فهي تشدد على ضرورة اختيار “المرشح الصالح الأمين”، أي من تتوافر فيه صفات النزاهة والكفاءة والإخلاص للوطن، لا من يعتمد على المال السياسي أو الخطاب الطائفي.
 
بهذا الخطاب، تحوّل المرجعية عملية التصويت من سلوك انتخابي عابر إلى فعل ضميري يرتبط بالمصلحة العامة، لا بالمكاسب الشخصية أو العائلية أو المذهبية.
 
رابعًا: الحياد الواعي لا الحياد السلبي
قد يظن البعض أن عدم تدخل المرجعية في دعم جهة معينة هو نوع من الحياد السلبي، لكن الحقيقة أن موقفها حياد واعٍ ومسؤول. فهي ترفض أن تُستخدم كغطاء سياسي لأي طرف، وتصرّ على أن الشعب هو صاحب القرار النهائي.
 
هذا الموقف يمنحها مصداقية دائمة، ويجعلها المرجعية الأخلاقية العليا التي تراقب المشهد من زاوية المصلحة العامة لا المصلحة الفئوية.
 
خامساً : الإصلاح يبدأ من وعي المواطن
ترى المرجعية أن الإصلاح لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من القاعدة، من وعي الناس ومن قدرتهم على التمييز بين الصالح والطالح. ولذلك كانت دائمًا تخاطب العراقيين بضمائرهم لا بعواطفهم، وتدعوهم إلى أن يكونوا فاعلين في صنع القرار لا أدوات بيد الساسة.
 
إنها فلسفة إصلاحية عميقة تعتبر أن الوعي هو الشرط الأول لبناء الدولة، وأن كل عملية انتخابية يجب أن تكون خطوة في مسار تصحيح التجربة الديمقراطية لا مجرد تبديل في الوجوه.
 
إن موقف المرجعية العليا من الانتخابات هو دعوة مفتوحة إلى الوعي الوطني والمسؤولية الأخلاقية. 
 
فهو لا يُقاس بعدد المشاركين، بل بنوعية الاختيار وصدق النية في خدمة العراق.
 
وحين تربط المرجعية المشاركة بمصلحة الوطن وبصلاح المرشح، فإنها تؤكد أن الشرعية الحقيقية لا تُستمد من صناديق الاقتراع وحدها، بل من صدق النية في خدمة الناس وحماية الدولة.