• اخر تحديث : 2025-10-22 15:43
news-details
تقدير موقف

الانتخابات العراقية.. على الصفيح الدولي الاقليمي المحلي


جعجعة السلاح تشغل نصف الكرة الأرضية، بين تداعيات طوفان الأقصى في غرب آسيا وأوكرانيا شرق أوربا، ومقدمات انهيار الهيمنة الأميركية العالمية قبالة ندية وقدرة قوى دولية صاعدة وناشئة في العالم، باتت تفرض إرادتها على المشهد العالمي، وتقود مسارات تشكل نظام دولي جديد على أنقاض نظام المنتصرين في الحرب العالمية الثانية (1945)، والتفرد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة  (1989-1990).
 
وفي شرق الأرض المتحفز لنقطة تحول تعيد التوازن مع الغرب الاستعماري، تتكور قوة كامنة ومتحركة عاملة، لتصنع اصطلاحها الحضاري التأريخي المسمى (عالم الشرق). وتزيح الاصطلاح المفروض غربياً (عالم الجنوب).
 
إن هذا الغطاء العالمي للصراع لا ينفك عن الجزئيات الجغرافية التي تشكل العالمين الغربي والشرقي، ويلقي بظلاله على دول العالم، ولا سيّما في دولنا الشرقية. ويتشبث الغرب بذيلية الدول التي احتلها واستعمرها في الشرق.
 
في هذا الشرق ووسط هذا اللهب العالمي تأتي الانتخابات العراقية السادسة، والتي تعد نتاجاً وأنموذجاً لنظام سياسي ديمقراطي ارست دعائمه الولايات المتحدة الأميركية بعد احتلاله عام 2003، ويفترض أن يجري إعمام هذا (أنموذج) في دول المنطقة، ولا سيّما في الدول المناهضة للكيان الإسرائيلي وسياسات الولايات المتحدة، ألا أن المنتج الحكومي وعمقه الاجتماعي الشعبي، لم يدجن بالشكل الذي تريده الولايات المتحدة وإسرائيل وعموم الغرب، بل ظل فيه صوت وفعل واضح لا يغادر ثوابت الدولة العراقية في رفض الاحتلال، وتأكيد القضايا المبدئية المصيرية وفي مقدمها الموقف من القضية الفلسطينية، وهو موقف لطالما عبر عنه العراق في المحافل الدولية الرسمية، والمستند طبعاً إلى إرادة شعبية فاعلة.
 
إن المشهد النهائي بالحتم لا يروق للولايات المتحدة وحلفاءها ولا يمكن ان يكون محط رضا بأيّ شكل كان، وعليها أن تذهب إلى إجراءات أخرى من سياقها التأريخي المتدخل في شؤون الدول الأخرى لتعديل معادلة النظام الحاكم للعراق، وبدأت مبكرةً للتدخل في أنتاج الحكومات اللاحقة، التي تأتي عبر صناديق الاقتراع، فكانت تدعو للشكل الديمقراطي وتمظهره الانتخابي، والإمساك بالمخرجات والنتائج  التي تسمح بفرض معادلة حكومية منسجمة مع سياساتها. 
 
وينقل الصحفي الأميركي الاستقصائي المخضرم سيمور هيرش، بأن بلاده قد تدخلت منذ الانتخابات الأولى التي جرت عام 2006 عندما كانت قواتها العسكرية التي عديدها (150- 160) ألف عسكري، مقدمة الدعم المتعدد لكتل سياسية موصوفة ومحددة ومشخصة، على خلفية دعمها لأول حكومة للدكتور أياد علاوي (2004-2005) بوجه كتلة التحالف الوطني الشيعي، الذي يشكل الأغلبية الوطنية السكانية في العراق. وهذا يعني أنها وظفت جميع ألياتها ووسائلها وطرقها المعروفة للتدخل في الانتخابات لصالح هذا الطرف وذاك من مشايعي هيمنتها وسيطرتها على أوضاع العراق.
 
إساسيات التدخل الأميركي
ومن المعروف أن للولايات المتحدة الأميركية طرق كثيرة للتدخل في انتخابات أيّ دول أخرى ضمن أهدافها، وربما أن بعض الأساليب التقليدية قد اصبحت ضعيفة ومكشوفة بخاصة أبان إدارة الرئيس ترامب، لتحل محلها أساليب التلاعب الرقمي من خلال تكنولوجيا المعلومات، بينما ظلت الآليات المؤسساتية الأهم عاملة ومستمرة وبقوة. ويمكن ايجاز أشكال التدخل الأميركي بالآتي:
 
1-الجهد الاستخباري الذي تنظمه وكالة المخابرات الأميركية (CIA) في العراق، عبر اختراق وزرع أحزاب ومؤسسات معنوية قانونية، وكذلك وكلاء محليون داخل أحزاب، كذلك إدارة الاستهدافات المتعددة الأنواع (استهداف لمرشحين أمنياً، استهداف قانوني، تسويق بدائل، تضليل.. الخ)، وكذلك أثارة الذعر والخوف من جهات عراقية معينة لا ترتبط بعلاقة وظيفية مع الولايات المتحدة.
والتعقيد في هذا الجانب يأتي من كونه أصبح مزية للخطاب السياسي عند بعض المرشحين والأحزاب، بغية التفاخر بالحصول على بالرضا الأميركي (كمشتغل أو تقديم أوراق اعتماد) عنه دون غيره، وهذا النوع من التدخل يبقى أساسياً وجوهرياً مستمراً في المدى المنظور.
 
2-الخارجية الأميركية- مؤسسات دمقرطة العالم، ويأتي هذا في سياق (السياسة الإبداعية) في الوزارة، وهو يمثل الدبلوماسية الشعبية في البلدان الأخرى، وقد بلغ هذا التدخل ذروته في العراق بعد عام 2018، وانخفض منسوبه بعد عام 2022، ووصل أدنى منسوب له بعد عام 2024، وبمجيء إدارة الرئيس ترامب التي أوقفت مؤسسات الدعم الخارجي، ومن أهم مؤسساتها (على الأطلاق) هي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) التي جرى أغلاقها، والتي اضطلعت بدور المنظم والممول للثورات الملونة والاضطرابات في العديد من دول العالم.
 
3-التلويح بالعقوبات الاقتصادية أو فرضها أو تسريب تقارير مضللة عن الوضع الاقتصادي، لا سيّما وإن العراق يعاني من ارتباط (أو وصاية) الفيدرالي الأميركي على عملياته النقدية والمالية، كما أن موازنة العراق في معظمها (تشغيلية) تدفع رواتب وأجور، وبذلك فأن أيّ اجراء سلبي من الفيدرالي الأميركي ينعكس مباشرة بشكل تذمر في الشارع العراقي، لكونه يمس ويتعلق بالمعيشة والسوق المالي وبخاصة فيما يخص السيولة النقدية (عرض النقد).
 
ونعتقد أن طبيعة العلاقة المالية والنقدية التابعة هي الأكثر تأثيراً في أوضاع العراق، وهذا دائماً تترافق معه جملة تصريحات وتسريبات موحيةً بتحركات عسكرية لفرض إصلاحات اقتصادية بالقوة، وبموازاتها تنشط حملات العلاقات العامة والدعاية والأثارة والشائعات، وقرارات عقوبات من الخزانة الأميركية تستهدف قوائم قريبة من المقاومة في ذروة الدعاية الانتخابية.
 
4-توظيف الدول الأخرى الدائرة في الفلك الأميركي من دول الجوار القريب والمتوسط، ممن ترتبط بعلاقات دبلوماسية جيدة داخل العراق، لا سيّما أن العراق يعمل جاهداً لتوسعة التعاون مع محيطه الخارجي، فتقوم هذه الدول ببناء جماعات ضغط إعلامي ومال سياسي،  لتغذية التشظي في التنوع العراقي، بما يزيد التوتر والاحباط ويدفع بعضها لطرح مشاريع أخرى تعد منسجمة (أو مفيدة) للاستراتيجية الأميركية.
 
5-الاستخدامات والاستثمارات الواسعة في (المعلوماتية) والذكاء الاصطناعي والعمليات السيبرانية، كون هذا العنصر يدخل في كافة المجالات والأنشطة والفعاليات التي مرت سابقاً، وبذلك فهو الأخطر من بينها جميعاً. وفي الحسبان أنه يستخدم مسارين: الأول يمثل الاستخدام الدعائي والإعلامي بتفاصيله، والثاني هو التأثير في العملية الانتخابية نفسها، من حيث، مسار العمل الانتخابي أو نتائجه، وأن ربط العنصرين معاً من شأنه ان يرفع ويعظم مستوى التأثير.
 
التنافس الإقليمي:
هذا التنافس ليس جديداً، ولكنه أتخذ أشكالاً متعددة ومختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية بخاصة بعد الانتصار العراقي على الارهاب العالمي (داعش) عام 2017. ولازال العراق دولة اغراء بكر من حيث الفرصة الاقتصادية السانحة، وأخرى كامنة يمكن العمل عليها، كما أن لموقعه الجغرافي مع موارده من الممكن أن يشكل حلاً لطموحات دول أخرى، بغية أن تصبح قطباً تجارياً وطاقوياً رائداً في المنطقة، وكما هو الحال في البحث التركي عن احتكار فرصة تصدير الغاز العالمي، بعد انكفاء روسيا بجانب العقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهكذا بالنسبة للدول الأخرى في محيط الخليج والأردن، والكيان الإسرائيلي الذي يتوارى مع جماعات أميركية وأوربية ويعززها بدعاية (قافزة للواقع). 
 
التزاحم المحلي:
يمكن أن يأخذ التزاحم المحلي شكل الصراع والتنافس الدولي الإقليمي حول العراق، وتدخل في توزيعات حزبية، بعنوان قربها من هذه الدولة أو تلك، ولكن هذه التقسيمات لا تنسجم مع المصلحة الوطنية العراقية ومحددات الدستور العراقي، كذلك تعمق الانقسام الداخلي، ألا أننا نضع مقارنة رقمية في حجم الأحزاب والمرشحين في هذه الانتخابات بقياس سابقاتها، وتقييم إداء عضو البرلمان المنتخب.
 
في انتخابات 2021 كان عدد المرشحين (3250) مرشحاً، بينما المرشحون للانتخابات الحالية التي تجري في 11/11/2025 قد بلغ حوالي الثمانية الآف مرشح (7769).
 
وبالوقت الذي كانت فيه انتخابات 2021، قد شهدت تشكل أكثر من 40 تحالفاً. فأن التحالفات الانتخابية في 2025 لم تعلن من المفوضية بعد، ألا أنها ستصل إلى الرقم السابق أو أكثر قليلاً.
    إن ارتفاع عدد المرشحين لهذا الرقم بزيادة تعادل (246%)، فأنه يشير بديهياً إلى زيادة الأقبال على العملية السياسية والانتخابات، ولكل أسبابه الخاصة، وسيؤثر حتماً في زيادة حضور عدد الناخبين الذين يحق لهم التصويت، بالرغم من أن 25% من العراقيين الذين يحق لهم التصويت، لم يحدثوا بطاقاتهم البارومترية.
 
إن هذا الأقبال على الترشح للانتخابات، له دلائل ايجابية وسلبية في آن واحد، فهو أما يمثل اندفاع للمشاركة في البناء السياسي والتغيير عبر صناديق الاقتراع، والتخفيف من هيمنة أحزاب العملية السياسية الكبيرة التقليدية، أو ربما قيام الأحزاب والتحالفات التقليدية باستقطاب شباب ومستقلين وأخرين من أحزاب صغيرة ناشئة. من جانب أخر، وقد تكون اجراءات وقوانين ومعايير الترشح بسيطة، وتسمح بمرور مرشحين غير مؤهلين للعمل النيابي، وما يتطلبه من أفق سياسي واقتصادي وقانوني لتشريع القوانين ومراقبة إداء الحكومة، وربما يشير إلى وفرة المال بكل الطرق للدخول للبرلمان ومنه المال السياسي.
 
ومن تجربة البرلمان السابق في 2021، وبحسب المرصد النيابي العراقي فأن (66%) من اعضاء البرلمان لم يشاركوا بأي فاعلية تشريعية أو رقابية، ومنهم (23%) لم يتحدث ولو بكلمة واحدة طيلة الدورة الانتخابية. بينما النواب الذين كانوا أكثر فاعلية ونشاط في التشريع والرقابة والاستجواب، يمثلون ما نسبته (6%) من البرلمان فقط بعدد عشرين نائب. فضلاً عن أن الغياب في الدورة الانتخابية كمعدل كان بواقع (156) نائب في كل جلسة، من اجمالي عدد اعضاء مجلس النواب البالغ عددهم (329) نائب، وهو ما يمثل نسبة 47% من عدد الأعضاء الكلي. 
 
وهذه تعد مؤشرات خطرة جداً، لأن النائب يتمتع بأمتيازات يدفعها الشعب العراقي من ثروته، بعقد اجتماعي لتمثيل صوته وحاجاته وخياراته. وهذا النائب يبددها لنفسه من دون مقابل يذكر.
وبالرغم من وجود قوانين تحاسب النائب على الغياب، وتصل إلى إقالته من مجلس النواب، ألا أن هذه القوانين لم تفعل مطلقاً بحق أيّ نائب كان!!، وهذا مؤشر ربما يكون اسوأ من الأول، وهو ما يأخذنا إلى تفسير مختلف في سبب زيادة عدد المرشحين.
 
وعلى وفق ذلك تبدو تجربة النظام الديمقراطي وتمظهرها الانتخابي في العراق، مازالت في مهدها أو صباها ولم تنضج بعد، وربما هذا حال الشرق عموماً وليس العراق استثناءاً، وما زالت العناصر الأكثر تأثيراً وجذباً للناخب هي عناصر ولاء (مشخصن)، أكثر منه عقلائي يسمو نحو بناء دولة ونظام سياسي يراعي مصالح الشعب. 
 
كما أن العمل الحزبي لازال ضعيفاً اجتماعياً، في تجسير الثقة مع المواطن، من دون حسابات ضيقة متعلقة بإفرازات الانتخابات أو المنافع المادية في سياقها العام الطبيعي، وبدون حدث قاهر، فأن متعلق الحكومة (حكومة تنفيذية، برلمان، رئاسة) لا يتأثر كثيراً وسيبسطها العرف السياسي، وأن اختلفت الأوزان السياسية الحزبية البرلمانية، لأن الأوزان المكوناتية لا تتأثر كثيراً.
 
يسعى الشعب العراقي بقوة للدفاع عن تجربته الجديدة في إرساء نظام ديمقراطي سليم، ويمارس حقه في جلد الأحزاب والسياسيين بالطرق السلمية، والدعوة إلى محاسبة الفاسدين، وإصلاح العملية السياسية، لاسيّما في ترصين القانون الانتخابي وقانون الأحزاب، وقوانين الاستحقلق الشعبي في حفظ ثروات الأجيال. ولا زال يتلمس خطواته لكي يضمن وقوفه على أرض صلبة لا موارة.