تمثل بغداد في كل دورة انتخابية البوصلة السياسية للعراق، فهي ليست مجرد محافظة كبيرة أو مركز إداري للدولة، بل العاصمة التي تختصر المشهد العراقي بكل تناقضاته وتنوعاته وتوازناته. فيها تتقاطع المصالح الحزبية، والاصطفافات المذهبية، والانقسامات الطبقية، والتطلعات الشبابية، لتتحول إلى الميدان الأشد سخونة في معركة الاقتراع.
الانتخابات المقبلة تضع بغداد في قلب العاصفة مجدداً ، إذ يتنافس 2248 مرشحاً على 71 مقعداً فقط، ما يجعلها ساحة مزدحمة بصور المرشحين ووعودهم وشعاراتهم، في مشهد أقرب إلى سباق رمزي على هوية الدولة واتجاه بوصلتها السياسية المقبلة.
بغداد لها خصوصية وهي ليست كسائر المحافظات، فهي مرآة السياسة الوطنية، ومركز القرار الإداري والأمني، ومختبر المزاج الشعبي العام.
تتوزع فيها القوى السياسية الكبرى التي ترى في الفوز داخل العاصمة مؤشراً على شرعية تمثيلها الوطني، لأن من يفوز في بغداد يُحسب أنه نال ثقة “العراق الحقيقي” لا أطرافه.
لهذا السبب، كل كتلة سياسية تدفع برقمها (1) في بغداد، باعتبارها المعركة التي تختبر الوزن الجماهيري الحقيقي، وتمنح الزعيم السياسي شهادة حياة أو بداية أفول.
في بغداد صراع الرموز والأرقام فالميزة الأبرز لهذه الدورة أن الرقم (1) لقائد الحزب او الكتلة في بغداد أصبح عنواناً لصراع الرموز، حيث قادة الكتل يختارون العاصمة ساحةً لقياس حضورهم الشعبي، وإرسال رسائل سياسية داخلية وخارجية بأنهم ما زالوا أصحاب الكلمة الأعلى.
في المقابل، تخوض الأسماء الصاعدة والشبابية المعركة بشجاعة، مدفوعةً برغبة التغيير وكسر احتكار الزعامات التقليدية.
لكن الصراع في بغداد لا يُقاس بعدد اللافتات أو الحملات الدعائية، بل بموازين النفوذ والمال والقدرة التنظيمية، حيث تلعب الماكينات الحزبية دوراً حاسمًا في توجيه الأصوات واستثمار الخريطة الديموغرافية للمناطق.
تنقسم بغداد جغرافيا وسياسيا وانتخابياً إلى دائرتين كبيرتين (الكرخ والرصافة)، وفي كل واحدة منهما مزاج سياسي مختلف:
-الكرخ تميل غالباً نحو الأحزاب التقليدية ذات الثقل الديني والسياسي، وتبرز فيها المناطق ذات الولاء التاريخي للكتل الإسلامية.
-أما الرصافة فتشهد تنوعاً لافتاً ، حيث يتواجد التيار المدني والمستقلون بقوة، إلى جانب جمهور الأحزاب الكبرى.
هذا التوزيع يجعل بغداد خليطاً انتخابياً يصعب ضبطه، لأن المزاج الشعبي فيها متقلب ومتأثر بالعوامل الخدمية والمعيشية أكثر من الأيديولوجية.
المال السياسي والإعلام الانتخابي له تاثيراً في محافظة بغداد حيث أصبحت ميداناً لتنافس غير مسبوق في الإنفاق الانتخابي والإعلام الدعائي، إذ تتسابق الكتل في حجز الفضاءات الإعلانية، وتكثيف الظهور الإعلامي لمرشحيها.
ورغم محاولات مفوضية الانتخابات الحد من المال السياسي، إلا أن الواقع الميداني يكشف أن القوة المالية والتنظيمية ما تزالان العامل الحاسم في جذب الأصوات، خاصة في المناطق الفقيرة والمهمشة.
ومع ذلك، ثمة تحولات في وعي الناخب البغدادي، إذ بدأت فئة الشباب والمتعلمين تُظهر ميلاً أكبر نحو المرشحين المستقلين أو الذين يمتلكون خطاباً إصلاحياً واضحاً بعيداً عن الشعارات المستهلكة.
بغداد لها رمزية في نتائج الانتخابات فهي ليست فقط أكبر دائرة انتخابية، بل هي رمز الشرعية السياسية لأي مشروع وطني. من يفوز فيها يعلن نفسه لاعباً أساسياً في تشكيل الحكومة المقبلة، ومن يخسرها يخسر جزءاً من رمزيته أمام جمهوره وخصومه.
لذا، المعركة في بغداد ليست مجرد أرقام، بل رهان على الزعامة، وتنافس على من يمتلك مشروع الدولة الأقرب إلى تطلعات العراقيين.
*السيناريوهات المحتملة:*
-السيناريو الأول: استمرار سيطرة القوى التقليدية عبر تحالفاتها الراسخة، مع حصول تغييرات طفيفة في المقاعد.
-السيناريو الثاني: بروز قوى مستقلة أو مدنية جديدة قادرة على كسر الاحتكار التقليدي للمشهد.
-السيناريو الثالث: تشتت الأصوات داخل الكتل الكبيرة، ما يؤدي إلى خريطة معقدة وصعوبة في تشكيل الكتلة الأكبر داخل البرلمان المقبل.
بغداد اليوم ليست مجرد ساحة انتخابية، بل معادلة وطنية كبرى؛ من يقرأها جيداً ويدير معركتها بذكاء وهدوء، سيكون أمامه طريق واسع نحو قيادة المشهد العراقي في المرحلة المقبلة.
أما من يخطئ في فهمها، فسيكتشف أن بغداد — رغم ازدحامها بالصور والوعود — لا تمنح ثقتها إلا لمن يحترم وعيها وتاريخها وتنوعها.