زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلى دمشق ولقاؤه بالرئيس السوري، بشار الأسد، هي خطوة أخرى في استراتيجية النفس الطويل، استعدادًا للحظة خروج سوريا من عزلتها الدولية، فتحقق حينها ثلاثة أهداف رئيسية: الحصول على موقع قدم في الموانئ السورية المطلَّة على شرق المتوسط، وقد تتمدد منها إلى الموانئ اللبنانية، واحتواء تركيا بحزام جنوبي، والحصول على أكبر نصيب من كعكة الإعمار.
سلسة التقارب
زار وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، دمشق، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، والتقى الرئيس السوري، بشار الأسد، وأكد التزام بلاده بأمن ووحدة واستقرار سوريا. ومن جهته، أشاد بشار بمواقف الإمارات الموضوعية والصائبة، واتفق الطرفان على تطوير التعاون بينهما. ويعد عبد الله بن زايد أرفع مسؤول إماراتي يزور سوريا منذ 2011، لما قطعت بلاده علاقاتها مع النظام السوري، وانضمَّت إلى الجهود الدولية لإسقاطه. وتضاف زيارته لخطوات تقارب سابقة قطعتها الإمارات، فلقد سبق أن أعادت فتح سفارتها في دمشق، في ديسمبر/كانون الأول 2018، وأعلنت "الطيران الإماراتية"، في يونيو/حزيران 2019، استعدادها لاستئناف الرحلات نحو دمشق. ومن جانبها، استأنفت الخطوط الجوية السورية رحلاتها إلى الإمارات، في يونيو/حزيران 2021، وشاركت سوريا في معرض إكسبو 2020 دبي، واجتمع وزيرا تجارة البلدين على هامشه، وهاتف الرئيس الأسد ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
تشير مجمل تصريحات القيادات الإماراتية إلى أنها قادرة على مساعدة النظام السوري في أهم تحديين يواجهانه حاليًّا، وهما: فكُّ العزلة الدولية عنه، وإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي. توالي الإمارات الدعوة إلى إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، وتجدد استعداها للتعاون الاقتصادي معه.
هل تستطيع تحقيق الأمرين؟ وإذا كانت لا تستطيع، فلماذا تحث خطى التقارب مع النظام السوري؟ وما أهدافها من وراء ذلك؟
النَّفَس الطويل
علَّق نايد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأميركية، على هذه الزيارة، بأن بلاده لن تطبِّع علاقاتها مع النظام السوري، أو ترقِّي علاقتها الدبلوماسية معه، ولا تدعم تطبيع بقية الدول علاقتها معه أو ترقية تمثيلها الدبلوماسي، واشترط لتغيير موقف بلاده قبول النظام السوري بتسوية سياسية مع المعارضة، مستندة لقرار مجلس الأمن 2254. هذا الموقف الأميركي العلني والصريح يرفع تكلفة التقارب الثنائي، الإماراتي/السوري، ويحد من قدرة الإمارات على إقناع دول عربية أخرى بتطبيع علاقتها مع النظام السوري أو قبوله في الجامعة العربية، وقد أوردت صحيفة الغارديان أن واشنطن تضغط على السعودية ومصر لتأجيل إعادة النظام السوري إلى الجامعة. ويمكن للولايات المتحدة أن تستعمل عدة إجراءات لمعاقبة المخالفين، وَرَدَ بعضها في قانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في 17 يونيو/حزيران 2021، وهي عقوبات تحرم الأسد من الحصول على الموارد الاقتصادية التي ترسخ حكمه، وتشمل كل الدول والكيانات التي تريد توفير المساعدة الاقتصادية والمالية له. وليست الإمارات استثناء، وتضع في حسبانها بالتأكيد المضارَّ التي ستصيب علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية بالولايات المتحدة إذا ما تجاوزت الخطوط الحمراء التي وضعتها واشنطن.
تواجه الإمارات عقبة إقليمية إضافية في إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، وهي اعتراض دول عربية، مثل قطر والكويت، على عودته، ما لم يمتثل لقرار مجلس الأمن 2254، ومن المعلوم أن العضوية تحصل بإجماع بقية الدول. ومن المستبعد أن تتمكن الإمارات في الظروف الحالية من إقناع الدول الرافضة بموقفها لاعتبارات عديدة، وليس من المحتمل تغير هذا الوضع في الأجل القريب.
تضع الإمارات كل هذا الاعتبارات في حسابها، وتدري أنها لن تستطيع تحقيق مبتغاها قريبًا. إذن، لماذا هذا الإصرار والمثابرة على التقارب مع النظام السوري؟
التكتيكي والاستراتيجي
يبدو أن الإمارات تنشد تحقيق أهداف مرحلية تجعلها في وضع أحسن لتحقيق أهدافها النهائية. أولًا: تطبيع الإمارات علاقتها الدبلوماسية مع النظام السوري يخفف عزلته الخارجية وإن كان لا ينهيها بالكامل. ثانيًا: خلصت الإمارات إلى أن بشار الأسد باق وأنه سيكون الفاعل الرئيسي في مستقبل سوريا، وأنَّ من الأجدى سياسيًّا المبادرة إلى كسب ودِّه والوقوف إلى جانبه حتى يذكر للإمارات هذا الموقف مستقبلًا عندما يقارنها ببقية الدول التي تتمسك بمقاطعته. ثالثًا: يبدو أن الإمارات تراهن على أن عزلة النظام السوري مؤقتة ومرحلية وأن خروجه منها مؤكد في المستقبل، ومن الأفضل للإمارات أن تكون قريبة من النظام السوري حينها حتى تكون أسبق من غيرها لتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل التكاليف. تضع هذه الخطوات الإمارات في وضع أفضل لتحقيق أهدافها البعيدة.
تقع سوريا في تقاطع ثلاثة أهداف استراتيجية إماراتية: الهدف الأول: نسج شبكة من الموانئ تمتد من منطقة الخليج والمحيط الهندي إلى شرق إفريقيا وشرق المتوسط، وقد تمتد إلى شرق المحيط الأطلسي بعد فتح الإمارات تمثيلية دبلوماسية في الصحراء الغربية. الهدف من استراتيجية الموانئ هو التموقع في المسالك البحرية للاستفادة من التبادل التجاري الدولي والتحكم في المضائق المهمة في تسهيل أو إعاقة تحركات القوات البحرية لمختلف الدول خلال الحروب. يمنح هذا الوضع الإمارات تأثيرًا استثنائيًّا ويجعلها قوة لا يمكن الاستغناء عنها. ومن هذا المنظور، تبرز أهمية موقع سوريا في شرق المتوسط، فهو قريب من عدد من المواقع المهمة للإمارات: شواطئ شرق ليبيا التي تتطلع إلى الوجود فيها، وقريب من قناة السويس، ومن قبرص الجنوبية التي تستثمر في حقولها النفطية البحرية، ومن اليونان، حليفتها في مواجهة تركيا، وفرصتها في الاستفادة من احتياطاتها الطاقوية البحرية. وليس مستبعدًا أن النظام السوري قد يتوسط لدى حليفه، حزب الله، كي يسهِّل حصول الإمارات على مواقع في الموانئ اللبنانية. وفي المقابل، تقترب الإمارات أكثر من النظام الإيراني، لأن لهما مصلحة مشتركة في الحفاظ على الوضع في سوريا ولبنان. وتبدو دعوة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، لزيارة طهران مؤشرًا على هذا التطور، فلقد أتت عقب زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، دمشق. وإجمالًا، لم تكن الإمارات في قطيعة مع إيران، بل كانت -حسب المسؤولين الإيرانيين- ثاني أهم شريك تجاري، وساعدتها على تجاوز العقوبات المفروضة عليها.
ثانيًا: تواجه الإمارات تركيا في أغلب مناطق نفوذها: في ليبيا تدعم حفتر وشرق ليبيا بينما تدعم تركيا الحكومة الشرعية وغرب ليبيا، وفي الصومال تدعم الإمارات صوماليلاند وبونتلاند بينما تدعم تركيا الحكومة الشرعية في مقديشو، وفي النزاع بشرق المتوسط تدعم الإمارات اليونان في مواجهة تركيا، ونشطت في جامعة الدول العربية لنزع الشرعية عن النفوذ التركي في إدلب بشمال سوريا. يمنح موقع سوريا الإمارات ميزات استثنائية في مواجهتها مع تركيا؛ حيث تخوض قوات النظام السوري والفصائل المسلحة الرديفة لها حرب استنزاف للقوات التركية والقوات السورية الرديفة لها. وإذا ظلت هذه الجبهة مفتوحة في جنوب تركيا فإنها ستشغل تركيا عن بقية الجبهات الموجودة بها، وتستنزف مواردها الاقتصادية، وتكون سياجًا يمنع تمددها نحو المناطق العربية، فتظل تركيا حبيسة في شمال سوريا. إضافة إلى أن هذا الحزام بشمال سوريا، قد يفجِّر الوضع داخل تركيا نفسها؛ لأنه موطن غالبية أكراد سوريا، ويرتبط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، أهم قوة سياسية مسلحة بالمنطقة، بحزب العمال الكردستاني الذي يشن هجمات على القوات التركية لنحو أربعين سنة. قد تسعى الإمارات لرعاية اتفاق بين النظام السوري والقادة الأكراد لتشكيل جبهة مناوئة لتركيا، وإن كانت حظوظ نجاح هذا المسعى ليست كبيرة في الوقت الحالي.
ثالثًا: الإمارات شريك سوريا التجاري الأول عربيًّا والثالث عالميًّا، وتحوز 14 بالمئة من تجارة سوريا الخارجية. ومن الممكن أن مكاسب الإمارات الاقتصادية من سوريا سترتفع بمقدار نصيبها من كعكة إعادة الإعمار المقدَّرة، حسب الرئيس الأسد، بنحو 400 مليار دولار، وهو ذات المبلغ الذي خلصت إليه الأمم المتحدة.
مخاطر عالية
تعترض هذا الاستراتيجية عدة عقبات، فقد تتفق الولايات المتحدة وتركيا على صيغة لتسوية الملف الكردي في سوريا في مقابل القبول بتوسيع النفوذ التركي ليوازن النفوذ الإيراني والروسي. وقد تمتعض السعودية من التقارب الإماراتي/الإيراني في سوريا ولبنان فتضغط على الإمارات إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد تعترض الولايات المتحدة على الاستراتيجية الإماراتية في سوريا؛ لأنها تخدم خصميها، إيران وروسيا.
هذه استراتيجية عالية المخاطر؛ لأنها تقع في الحد الفاصل بين الاصطفافات على المستوى الدولي، روسيا في مواجهة الولايات المتحدة، والإقليمي، إيران في مواجهة أميركا من جانب ومواجهة تركيا من جانب آخر، وسيكون صعبًا على أية استراتيجية مهما كانت مرنة الحفاظ على توازنها في هذه المنطقة الزلزالية.