• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
تقدير موقف

ما ملامح التحركات الأوروبية في منطقة الهندو–باسيفيك؟


بنهاية شهر أغسطس الماضي، أعلنت ألمانيا اعتزامها توسيع وجودها العسكري في منطقة الهندو–باسيفيك، عن طريق إرسال مزيد من الطائرات الحربية للمشاركة في تدريبات عسكرية في أستراليا تحت مسمى Pitch Black 2022 تزامناً مع إعلان الأخيرة – لأول مرة – عن خطة تدريب لقواتها البحرية على استخدام الغواصات البريطانية، على خلفية الشراكة الأمنية التي تم الإعلان عنها العام الماضي بين واشنطن ولندن وكانبيرا، بهدف مواجهة التهديدات المتزايدة التي تتعرض لها المصالح الغربية في المنطقة، وسط قلق متزايد من تنامي الوجود الصيني هناك؛ لذا تشهد هذه المنطقة الساخنة من العالم استقطاباً عالمياً غير مسبوق، يهدف فيه كل طرف إلى تحقيق مصالحه على حساب الآخر، ولعل الاتحاد الأوروبي من أبرز الفاعلين في هذه المنطقة، خاصة بعد إعداده استراتيجية شاملة للتعاون مع منطقة الهندو–باسيفيك في عام 2021.

طبيعة التحركات الأوروبية

تتخذ القارة العجوز عدة مسارات للتوجه نحو منطقة الهندو–باسيفيك خلال الفترة الأخيرة، في ظل تنامي الوجود الصيني بالمنطقة، الذي يقابله تحالف “أمريكي–بريطاني–أسترالي” دون مشاركة من دول الاتحاد الأوروبي؛ لذا يمكن إيجاز أبرز المسارات الراهنة للتحرك الأوروبي في المنطقة على النحو التالي:

1- تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين أوروبا والمنطقة: في أبريل 2021، تم إعداد “استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون في منطقة الهندو–باسيفيك”؛ الأمر الذي يعد تطوراً كبيراً، وبدايةً لنهج أوروبي جديد للتعامل مع منطقة الهندو–باسيفيك بشكل شامل؛ حيث إن إصدار استراتيجية واحدة وجامعة للاتحاد الأوروبي من أجل تعزيز أطر التعاون بهذه المنطقة، يعكس اعترافاً قد يكون متأخراً من مجموعة “بروكسل” بالواقع الجيوسياسي المتطور للمنطقة، وتعبيراً عن مدى أهميتها بالنسبة إلى المصالح الأوروبية في المجالات كافة.

هذا وبالتزامن مع إعلان كل من واشنطن ولندن وكانبيرا تكوين تحالف ثلاثي، في 15 سبتمبر 2021، معروف باسم “أوكوس”، أعلن كل من الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، في 16 سبتمبر 2021، عن خطة عمل متكاملة لتنفيذ الاستراتيجية الأوروبية؛ لتعد بمنزلة خطوة للرد على الطريقة السرية التي تم بها التفاوض على تحالف “أوكوس”، الذي أكد مخاوف البعض في باريس بشأن موقف واشنطن ولندن من تلك الاستراتيجية، لا سيما مع موقف كانبيرا التي أقدمت على إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية لصالح غواصات نووية تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا.

2- دعم الأمن الإقليمي والردع العسكري بالمنطقة: لمواجهة التحديات الأوروبية المتنامية في منطقة الهندو–باسيفيك، تتمركز قوات عسكرية فرنسية بشكل دائم هناك، تقدر بنحو أكثر من 7000 جندي، بجانب 20 سفينة و40 طائرة حربية، ويتم تنظيمهم حول خمسة مراكز قيادة فرنسية بهدف الحفاظ على ضمان حرية وصول فرنسا إلى المحيطين الهندي والهادئ. وعلى الجانب الآخر، تسعى برلين إلى إيجاد موطئ قدم لها بالمنطقة، عن طريق إرسال المزيد من السفن الحربية والانضمام إلى المناورات البحرية المشتركة مع الحلفاء في تلك المنطقة، وسط قلق متزايد بشأن طموحات بكين الإقليمية وحشدها الهائل لقواتها المسلحة؛ الأمر الذي دفع برلين إلى الإعلان عن نيتها إرسال أسطول من عدة سفن أخرى إلى المنطقة في عام 2024، خاصة مع خطتها لزيادة حجم إنفاقها العسكري.

كما تجدر الإشارة إلى أن 15 دولة على الأقل، منها فرنسا وألمانيا، تشارك خلال الفترة (19 أغسطس 2022 – 9 سبتمبر 2022)، في التدريب المتعدد الجنسيات للقوات الجوية الأسترالية Pitch Black 2022؛ إذ تعد هذه المرة الأولى التي يشارك فيها سلاح الجو الألماني (13 طائرة عسكرية) في هذا الحدث العسكري الذي يتم إجراؤه كل عامين، في حين وصفت فرنسا أن انتشار قواتها في هذا التدريب يعد انتشاراً غير مسبوق؛ فبينما تكافح أوروبا لإخراج روسيا من أوكرانيا، تقوم برلين وباريس بخطوات كبيرة على بعد آلاف الأميال، في منطقة تقع في وسط تحول جيوسياسي مقلق.

3- تشجيع الاستثمارات الأوروبية وتنفيذ المشروعات التنموية المشتركة: يعمل الاتحاد الأوروبي على تعزيز وجوده في منطقة الهندو–باسيفيك من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية معها؛ فقد كشف الاتحاد عن عزمه إنشاء صندوق بنية تحتية عالمي بقيمة استثمارية تبلغ 300 مليار يورو، بهدف زيادة حجم وأعداد المشروعات التنموية الجاري تنفيذها بالمنطقة بين عامي 2021 و2027؛ وذلك في إطار خطة عمل الاستراتيجية الأوروبية ومواجهة التحديات العالمية الأكثر إلحاحاً، ومن أهمها تغير المناخ وحماية البيئة، فضلاً عن تعزيز القدرة التنافسية وسلاسل التوريد العالمية.

4- اتخاذ مواقف سياسية تجاه قضية تايوان: إذ تبنت بعض الدول والمؤسسات الأوروبية خلال السنوات الأخيرة بعض المواقف الواضحة تجاه قضايا منطقة الهندو–باسيفيك، وفي مقدمتها قضية تايوان. صحيح أن الدول الأوروبية حاولت الحفاظ على درجة من التوازن في علاقاتها مع الصين، إلا أن هذا لم يمنعها من التقارب مع تايوان؛ فعلى سبيل المثال، أجرى وفد برلماني أوروبي رسمي زيارة إلى تايوان، في شهر نوفمبر 2021، وهي الزيارة التي عكست مساعي المؤسسة الأوروبية لتعزيز العلاقات مع تايوان التي يصفها البرلمان الأوروبي بأنها “شريك وحليف ديمقراطي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.”

دوافع رئيسية

ثمة أهداف متعددة قد وجهت تحركات الدول الأوروبية نحو إعطاء مزيد من الاهتمام بمنطقة الهندو–باسيفيك، نظراً إلى ما تتمتع به المنطقة من أهمية استراتيجية. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأهداف فيما يأتي:

1- الأهمية الجيو–استراتيجية للمنطقة: وفقاً لما تضمنته استراتيجية الاتحاد الأوروبي السابق ذكرها، فإن المنطقة تستحوذ على نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتسيطر على ثلثي النمو الاقتصادي العالمي، كما تمتلك 60% من سكان العالم والثروات العالمية، فضلاً عن أنها موطن لثلاثة من أكبر أربعة اقتصادات خارج الاتحاد الأوروبي (الصين، الهند، اليابان)، ويمر بها نحو 40% من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي، هذا بجانب أن الاتحاد الأوروبي يعتبر المستثمر الأول والشريك الرائد في التعاون الإنمائي، وواحداً من أكبر الشركاء التجاريين في هذه المنطقة؛ لكونها طليعة الاقتصاد الرقمي والتطورات التكنولوجية، ومركزاً لسلاسل القيمة العالمية.

2- تأكيد المكانة الأوروبية: لا تنفصل التحركات الأوروبية في منطقة الهندو–باسيفيك عن مساعي الدول الأوروبية للتكريس لمكانتها عالمياً، وخصوصاً مع التحولات التي شهدها النظام الدولي خلال السنوات الماضية والتنافس المتصاعد على قيادة هذا النظام. ويعزز من هذه الفرضية التوجهات الحاكمة للنخب الأوروبية، التي باتت ترى ضرورة صياغة موقف أوروبي منفصل عن الموقف الأمريكي تجاه القضايا العالمية؛ فعلى سبيل المثال، أكد الرئيس الفرنسي “ماكرون” خلال السنوات الماضية أفكاراً من قبيل السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي في السياسة الخارجية الأوروبية بعيداً عن مواقف الأطراف الدولية الأخرى.

3- ضمان تأمين المصالح الاقتصادية والتجارية: إن استعراض القوة وزيادة التوترات في النقاط الساخنة الإقليمية، مثل بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، على خلفية زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى تايوان، وما تلاها من تنفيذ بكين أكبر مناورة عسكرية على الإطلاق حول تايوان، في أغسطس الماضي، سيكون لها تأثيرات مباشرة على أمن وازدهار الأوروبيين؛ لكون تلك الممارسات تمثل تهديداً للتجارة الدولية وسلاسل التوريد العالمية بالمنطقة؛ خاصة أن نحو 80% من البضائع التي تدخل الاتحاد الأوروبي تمر عبر المحيط الهندي؛ لذا فإن أمن طرق العبور وحرية الملاحة من الأمور الضرورية لضمان الأمن الاقتصادي الأوروبي.

4- تكثيف مجالات التعاون بين الاتحاد الأوروبي والآسيان: تستهدف التحركات الأوروبية تجاه منطقة الهندو–باسيفيك تعميق العلاقات المشتركة بين الاتحاد الأوروبي ورابطة أمم جنوب شرق آسيا في عدة مجالات؛ منها تحقيق التكامل الاقتصادي، في ضوء وجود تطلعات قوية تربط بينهما، واعتماد نظم للتجارة الحرة والعادلة، بجانب التنسيق فيما يخص وضع حلول فعالة لمعالجة التوترات الجيوسياسية التي تتعرض لها منطقة الهندو–باسيفيك، من أجل حماية حرية الملاحة والتحليق، وصون استقرار وأمن المنطقة خلال هذه الفترة الحرجة.

5- مواجهة تهديدات تغير المناخ: إذ تعد منطقة الهندو–باسيفيك مصدراً مهماً للتحديات البيئية العالمية؛ فقد نمت حصة المنطقة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية من 37% عام 2000 إلى 57% عام 2021، وستشكل المنطقة أكثر من 70% من نمو الطلب العالمي على الطاقة بحلول عام 2030، كما أن من المتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة الضغط على التنوع البيولوجي البحري والموارد الطبيعية والأرصدة السمكية؛ حيث يمثل بحر الصين الجنوبي وحده نحو 12% من صيد الأسماك العالمي، ويستضيف أكثر من نصف سفن الصيد في العالم، ومن ثم تعد المنطقة مركزاً حيوياً للتخفيف من آثار تغير المناخ وحماية التوازن البيئي، وهو ما استحوذ على اهتمام محوري من قبل الاتحاد الأوروبي خلال الفترة الأخيرة، في ضوء ما تعرضت له دول القارة من آثار سلبية مدمرة ناجمة عن التغيرات المناخية.

تحديات رئيسية

قد يتمخض عن إصرار الدول الأوروبية على تنفيذ استراتيجيتها لتعزيز أطر التعاون مع منطقة الهندو–باسيفيك بعض التحديات المحتملة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، ومنها:

1- معضلة الإجماع الأوروبي حول أولوية المنطقة: بالرغم مما أوضحته الاستراتيجية الأوروبية من أهمية للمنطقة، فإن العديد من الدول الأعضاء لا تزال غير مهتمة إلى حد كبير بتطوراتها؛ فمثلاً اقتصر الانخراط الأوروبي السابق بالمنطقة على تحركات فردية من جانب ثلاثة دول محددة هي: فرنسا منذ عام 2018، ثم ألمانيا وهولندا منذ عام 2020؛ حيث كان لهذه الدول مبادئ توجيهية واستراتيجيات وطنية خاصة للتعامل مع المنطقة، وباعتبارها أهم ثلاث دول بالاتحاد الأوروبي، استطاعت الضغط على بقية الدول لإعداد استراتيجية واحدة للاتحاد، إلا أن العمل على تطبيق الاستراتيجية على أرض الواقع، سيتطلب مزيداً من الجهد من باريس وبرلين لإقناع الدول الأعضاء بأن تلك المنطقة الحيوية ذات أهمية بالغة لسيادة أوروبا وازدهارها، من خلال مشاريع وتحالفات أوسع، بما يضمن تنفيذ الاستراتيجية بفاعلية، خاصة في ضوء الأزمات الاقتصادية العنيفة التي تتطلب تركيزاً أكبر من الدول الأوروبية على أوضاعها الداخلية، على خلفية التداعيات السلبية للأزمة الروسية–الأوكرانية.

2- إشكالية الموازنة بين مصالح الدول المختلفة: إن محاولات الحفاظ على توازن جيد داخل الاستراتيجية الأوروبية بين الوقوف في وجه الصين وتعزيز التعاون الاقتصادي معها، باعتبارها الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي، تشكل تحدياً رئيسياً أمام التحركات الأوروبية في المنطقة، خاصة في ظل تباين مصالح دول الاتحاد وعلاقاتها مع الصين. على الجانب الآخر، تثار عدة تخوفات من أن تؤدي الاستراتيجية الأوروبية إلى إحداث تعارض مع مصالح الولايات المتحدة وتحركاتها في الهندو–باسيفيك، بما سيؤدي إلى صعوبة تنفيذها بالشكل المطلوب، خاصة في ظل التحركات الفردية غير المنسقة بين الجانبين في ذات الشأن.

3- تزايد قيود الأزمات الداخلية: ربما تشكل الأزمات الداخلية (السياسية والاقتصادية) التي تواجهها الدول الأوروبية قيداً على التحركات الأوروبية الخارجية في منطقة الهندو–باسيفيك، فالكثير من القادة الأوروبيين، وخاصة في بريطانيا وألمانيا وفرنسا، منشغلون بالتعامل مع التحديات الداخلية وكذلك تأثيرات الحرب الأوروبية، ومن ثم قد لا تشهد السياسة الأوروبية في الهندو–باسيفيك تطوراً كبيراً على أقل تقدير في المدى القصير.

خلاصة القول: على الرغم من أن أوروبا لا تزال حذرة بشأن كيفية تعاملها مع الصين وعدم الصدام معها، في ضوء خطتها لتنفيذ الاستراتيجية الأوروبية نحو تعزيز أطر التعاون مع منطقة الهندو–باسيفيك، فإنه على الأرجح سيستمر الاتحاد الأوروبي في العمل على تكثيف مشاركته مع المنطقة، نظراً إلى ما تتمتع به المنطقة من ثقل اقتصادي وديموغرافي وسياسي متزايد؛ حيث إنه ثمة مؤشرات عديدة تؤكد اعتراف بروكسل بالأهمية المحورية والمشكلات الأمنية التي تواجهها المنطقة، لا سيما وسط الإقرار الأوروبي بشأن عواقب صعود الصين وكيفية معالجتها، وكذلك النهج الفردي الذي يتبعه اتحاد “أوكوس” دون إشراك الاتحاد الأوروبي معه، ومن ثم لا يزال هناك مسافة يجب قطعها قبل أن تتلاقى جميع الاستراتيجيات والسياسات بين الدول المتنافسة على المنطقة، لتنتج نهجاً متماسكاً يحقق مصالح الأطراف المختلفة.