جاءت زيارة كبير مستشاري وزارة الدفاع البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الفريق جوي مارتن سامبسون، إلى ليبيا في نهاية شهر سبتمبر الماضي، بالتزامن مع رسو السفينة الحربية “إتش إم إس ألبيون” التابعة للقوات البحرية الملكية البريطانية، بقاعدة أبو ستة البحرية في طرابلس لتدلل على الانخراط المتنامي من قبل بريطانيا في أزمات الشرق الأوسط خلال الشهور الأخيرة، وهو ما تجسد بشكل واضح في تبني العديد من التحركات فيما يتعلق بمساعي حلحلة الأزمة السياسية الليبية، وكذا التعاطي بشكل فاعل مع التهديدات المرتبطة ببحر العرب المتصلة بالأزمة اليمنية، فضلاً عن الرفض الكبير للمشروع النووي الإيراني وتبني إجراءات تصعيدية ضد إيران، وكذلك التوجه نحو نقل السفارة البريطانية إلى القدس، وهي تحركات عبرت عن “عودة بريطانيا” إلى المنطقة، والسعي إلى تعزيز نفوذها وخصوصاً في مرحلة ما بعد بريكست ومحاولة لندن تأكيد حضورها الدولي بعيداً عن المجال الأوروبي.
تحركات متنامية
تبنت بريطانيا في الأشهر الأخيرة العديد من التحركات النشطة في المنطقة، ويمكن تناول أبرز هذه التحركات على النحو التالي:
1- إعادة الانخراط في الأزمة الليبية: أعلنت السفيرة البريطانية في ليبيا كارولين هورندال، في يونيو الماضي، عن إعادة افتتاح سفارة بلادها في العاصمة الليبية طرابلس، مشيرةً إلى أن “إعادة افتتاح السفارة تؤكد التزامات المملكة المتحدة إزاء ليبيا”، وأكدت الدبلوماسية البريطانية أن بلادها ستواصل العمل مع الليبيين والأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية دائمة في ليبيا. وفي إطار التحركات البريطانية إزاء ليبيا، استقبل النائب بالمجلس الرئاسي “عبد الله اللافي”، في 21 أغسطس الماضي، سفيرة المملكة المتحدة لدى ليبيا، للتباحث حول التطورات السياسية في ليبيا. وقد ركزت هذه المباحثات على سبل تفعيل التوصل لاتفاق في المسار الدستوري بين مجلسي النواب والدولة والوصول إلى تحديد موعد لإجراء الاستحقاقات الانتخابية التي يتطلع إليها الشعب الليبي.
وعلى المستوى الأمني جددت المملكة المتحدة، دعمها لجهود توحيد المؤسسة العسكرية؛ لبسط الأمن والاستقرار على كامل التراب الليبي، لتمهيد الطريق لإجراء الانتخابات؛ وذلك خلال لقاء عضوي المجلس الرئاسي موسى الكوني وعبد الله اللافي، في 29 سبتمبر الماضي، بكبير مستشاري الدفاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الفريق جوي مارتن سامبسون؛ وذلك بالتزامن مع رسو السفينة الحربية “إتش إم إس ألبيون” التابعة للقوات البحرية الملكية البريطانية، بقاعدة أبو ستة البحرية في طرابلس لأول مرة منذ 8 سنوات. وفي 30 سبتمبر الماضي أجرى “سامبسون” مباحثات مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة الليبية “عبد الحميد الدبيبة”، للتباحث حول التعاون الفني بين وزارتي الدفاع في البلدين.
2- المشاركة في مهام مكافحة التهريب ببحر العرب: أعلنت البحرية الملكية البريطانية في 10 أكتوبر الجاري عن إحباط عملية تهريب مخدرات في بحر العرب تزيد قيمتها على 15 مليون جنيه إسترليني. وأفاد موقع بي بي سي عربي بأن القوات البريطانية عثرت على مئات الكيلوجرامات من مُخدر “كريستال ميثامفيتامين”. ونقلت البي بي سي عن قائد الفرقاطة إتش إم إس مونتروز الجنرال كلير طومسون، قوله إن “عملية التوقيف شكلت لطمة قوية للعصابات الإجرامية والإرهابيين الذين يستخدمون المخدرات لتمويل أنشطتهم”، مشيراً إلى أن “وقف عمليات التهريب، ومطاردة الإرهابيين والمجرمين في بحر العرب، ووقف خطط تمويلهم، أمر حيوي لأمن بريطانيا والعالم”. وقد كانت هذه العملية هي الخامسة من نوعها للقوات البحرية البريطانية في هذا الخصوص منذ بداية العام الحالي. وتأتي هذه العمليات في إطار مهام القوة المشتركة 150 التي تقودها المملكة العربية السعودية، وهي القوة التي يُشارك فيها 38 دولة وتستهدف حماية الأمن البحري في البحرين الأحمر والعربي.
3- التوجه نحو نقل السفارة البريطانية إلى القدس: في إطار تحركات الحكومة البريطانية المتنامية إزاء منطقة الشرق الأوسط، أبلغت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، نظيرها الإسرائيلي يائير لابيد، أثناء لقائهما على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في شهر سبتمبر الماضي، أنها تدرس قرار نقل سفارة بلادها من تل أبيب إلى القدس. وكانت “تراس” قد قالت قبل أن تصبح رئيسة للوزراء، إنها ستراجع قرار المملكة المتحدة إبقاء سفارتها في تل أبيب إذا أصبحت رئيسة للحكومة، فيما يبدو أنه سير على خطى الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب الذي أعلن في 2018 عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كما قامت بهذه الخطوة كل من هندوراس وجواتيمالا وكوسوفو، لكن هذا الإعلان من رئيسة الوزراء البريطانية لاقى معارضة وانتقادات كبيرة من دوائر سياسية عربية وبريطانية وغربية عديدة.
4- دعم بريطاني للاحتجاجات الإيرانية: تعاطت المملكة المتحدة البريطانية بفاعلية مع التطورات التي يشهدها الداخل الإيراني، وهي التطورات التي ارتبطت بتصاعد الاحتجاجات في أعقاب "مقتل" الشابة الكردية مهسا أميني؛ ففي 21 سبتمبر الماضي دعت وزارة الخارجية البريطانية الحكومة الإيرانية إلى التحقيق بشفافية وحزم في "مقتل" أميني، وفي 10 أكتوبر الجاري أعلنت بريطانيا عن فرض عقوبات على مسؤولين أمنيين إيرانيين كبار.
وأوضحت بريطانيا أن “الشرطة الدينية” لجأت للتهديد بالاحتجاز والعنف للتحكم فيما ترتديه الإيرانيات وفرض الرقابة على سلوكهن في الأماكن العامة، مُعلنةً عن حظر سفر وتجميد أصول قائد قوات الباسيج غلام رضا سليماني، كما أُضيف 5 من قادة الشرطة والباسيج إلى قائمة العقوبات البريطانية. وأشارت الخارجية البريطانية إلى أن “منظمة الباسيج والوحدة الخاصة والشرطة الإيرانية على مستوى أوسع لعبت دوراً رئيسياً في قمع احتجاجات انتفاضة إيران المشتعلة منذ أسابيع، وكذلك الاحتجاجات المتعلقة بارتفاع سعر الوقود عام 2019”.
ورداً على هذه العقوبات استدعت الخارجية الإيرانية السفير البريطاني لدى طهران سيمون شركليف، وقالت الخارجية الإيرانية في بيان لها إنه “تم إبلاغ السفير البريطاني بمستوى الاحتجاج القوي للسلطات الإيرانية على المملكة المتحدة بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية الإيرانية، وتمت إدانة التدخل البريطاني بشدة”. وقال مسؤول شؤون الدول الأوروبية في الخارجية الإيرانية إن “العقوبات التعسفية التي أعلنتها بريطانيا مشوهة ولا قيمة لها بالنسبة للجمهورية الإيرانية”، مضيفاً أن “إيران تحتفظ بحقها في اتخاذ الإجراءات المضادة” وفق تعبيره.
5- تشدد بريطاني إزاء البرنامج النووي الإيراني: قدم مسؤولون في الحكومة البريطانية في يوليو الماضي تحذيرات من أن الاتفاق النووي الإيراني الذي تخطط المملكة المتحدة للتوقيع عليه، قد يزعزع استقرار الشرق الأوسط، وقدم المسؤولون مقترحات تشمل تطبيق نظام أكثر صرامة لمراقبة النشاط النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات وتشديد الخناق الاقتصادي على طهران حتى تصبح مستعدة لقبول مقترحات جادة، وأن تحظر بريطانيا الحرس الثوري الإيراني وتصنفه منظمة إرهابية كما فعلت الولايات المتحدة. وفي 10 سبتمبر الماضي قالت بريطانيا إلى جانب ألمانيا وفرنسا، إن مواقف إيران الأخيرة لا تتوافق مع التزاماتها الدولية، وتثير شكوكاً جدية بشأن نيتها العودة للاتفاق النووي، في حين رأت طهران أن بيان الدول الثلاث غير بناء ويتعارض مع حديثها عن حسن نيتها بشأن المفاوضات.
6- مواصلة التحركات في الملف اليمني: لا تزال بريطانيا أحد الأطراف الدولية الحاضرة في الملف اليمني، وبالرغم من دعمها للحكومة "الشرعية" في اليمن منذ اندلاع الأزمة؛ حيث لعبت هي وواشنطن دوراً رئيسياً في استصدار قرار مجلس الأمن رقم 2216 للعام 2015 الذي أكد "شرعية" الحكومة اليمنية، حرصت أيضاً على الانفتاح على الحوثي على النحو الذي يمنحها أدوات للتأثير في مسار الصراع، ولعل هذا ما أكده السفير البريطاني لدى اليمن ريتشارد أوبنهايم، في شهر مايو الماضي، حينما ذكر أن هناك “مشروع قرار بريطانياً بديلاً عن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 الخاص باليمن”، وأن “مجلس الأمن سيكون جاهزاً لإصدار القرار الجديد عندما تكون هناك توافقات حقيقية حول تسوية سياسية بين الأطراف في اليمن”. كما أن بريطانيا جزء من المجموعة الرباعية، التي تضم السعودية والإمارات والولايات المتحدة، التي تستهدف التنسيق في المواقف بشأن الملف اليمني.
دوافع متعددة
تستهدف التحركات البريطانية المتنامية إزاء أزمات المنطقة، بشكل عام استعادة الحضور البريطاني الفاعل في أزمات المنطقة. ويمكن إجمال أبرز الدوافع التي تقف خلف هذا التوجه على النحو التالي:
1- استغلال الواقع السياسي المأزوم لبعض الدول: أحد الاعتبارات الرئيسية التي تقف خلف التوجه البريطاني نحو زيادة الانخراط في أزمات المنطقة، يتمثل في السعي لاستغلال الواقع السياسي المأزوم لبعض الدول بما يخدم فكرة استعادة النفوذ في الإقليم، في ظل حالة تنافس استراتيجي وجيوسياسي كبير بين القوى الدولية المختلفة. ويتجسد هذا الاعتبار في الحالة الليبية؛ إذ تُركز المقاربة البريطانية في ليبيا على الحفاظ على قنوات اتصال بكافة الفرقاء الليبيين، بعيداً عن فكرة “الانحياز”، التي قد تُهدد المصالح البريطانية في ليبيا، والسعي بالتزامن مع ذلك إلى تحقيق أكبر قد ممكن من المكاسب سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
2- إعادة صياغة الدور الدولي في مرحلة ما بعد بريكست: منذ الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، سعت المملكة المتحدة إلى تطوير القوة البريطانية الشاملة وتوسيع نطاق النفوذ الدولي، بما يضمن المصالح الاستراتيجية للندن ويؤمنها، وقد عبرت بريطانيا عن هذا التوجه بشكل واضح فيما عُرف بـ”الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للأمن والدفاع”. وفي هذا السياق ترى بريطانيا أن انخراطها المتزايد في أزمات الشرق الأوسط سوف يكون أحد ركائز استراتيجيتها لتعزيز علاقاتها وحضورها في مناطق استراتيجية أخرى مثل الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط.
3- انعكاسات التقارب الكبير بين حزب المحافظين وإسرائيل: يرتبط إعلان رئيسة الوزراء البريطانية عن التوجه نحو نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس، وكذا الموقف المتشدد إزاء الاتفاق النووي المزمع توقيعه مع إيران، بالتقارب الشديد بين حزب المحافظين البريطاني وإسرائيل؛ حيث كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ وصول حزب المحافظين إلى الحكم، تتنافس فيما يتعلق بمدى التقارب مع إسرائيل، حتى إن “تراس” قالت في أحد تجمعات الحزب إنها “صهيونية وصديقة قوية لإسرائيل”، وهو اعتبار يُمكن في ضوئه فهم الموقف الخاص بنقل السفارة، وكذا الاتفاق النووي مع إيران؛ إذ تُراعي بريطانيا التخوفات الإسرائيلية بهذا الخصوص، وخطورة البرنامج النووي الإيراني على الأمن القومي الإسرائيلي وكذا المصالح البريطانية في الشرق الأوسط.
4- تأمين المصالح الاستراتيجية البريطانية في المنطقة: ترتبط بريطانيا بمصالح استراتيجية أمنية واقتصادية كبيرة بالمنطقة؛ حيث تحصل بريطانيا على 90% تقريباً من وارداتها النفطية من منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن أن البحر الأحمر يمثل بوابة رئيسية بالنسبة للسفن التجارية البريطانية، بالإضافة إلى المصالح الاستثمارية العديدة لبريطانيا في دول المنطقة، ومن ثم فإن الانخراط المتزايد في أزمات المنطقة سياسياً وأمنياً، يُعد ركيزة أساسية لتأمين هذه المصالح الحيوية، خصوصاً في ظل التهديدات التي تواجه هذه المصالح، سواء تلك التهديدات المرتبطة بالخلافات مع روسيا، أو تلك التهديدات المرتبطة بالفاعلين المسلحين من دون الدول وتهديدهم للأمن البحري.
5- ديناميات التنافس مع القوى الأوروبية الأخرى: لا تنفصل التحركات البريطانية في منطقة الشرق الأوسط عن معطيات التنافس مع القوى الأوروبية الأخرى، وخصوصاً فرنسا؛ إذ تتصاعد الخلافات بين الدولتين حول عدد من القضايا مثل الهجرة غير الشرعية في القنال الإنجليزي وحقوق صيد الأسماك في المياه المشتركة بين الدولتين، وربما كانت اتفاقية أوكوس بين بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا هي المؤشر الأهم على تصاعد الخلافات بين فرنسا وبريطانيا. ولا يمكن إغفال أن هذا الطابع التنافسي للعلاقات الفرنسية البريطانية يتم استدعاؤه في منطقة الشرق الأوسط، بشكل أو بآخر؛ لأن بريطانيا تحاول تقويض وتحجيم التحركات الفرنسية، وربما الألمانية أيضاً، بهدف تعزيز دورها في المنطقة.
تحديات جوهرية
في الختام، يمكن القول إن الانخراط البريطاني المتزايد في أزمات دول المنطقة، يرتبط بشكل رئيسي بالاستراتيجية البريطانية الرامية إلى إعادة التحالفات البريطانية مع دول المنطقة، في إطار تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي، بما يضمن الحفاظ على المصالح الحيوية لبريطانيا خصوصاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً. ومع ذلك فإن هذه الاستراتيجية قد تواجه تحديات جوهرية في مقدمتها أن الكثير من دول المنطقة قد لا تثق كثيراً بإمكانية اضطلاع بريطانيا بدور جوهري في المنطقة وملفاتها المعقدة.
علاوة على ذلك، فإن الإرث التاريخي لبريطانيا في المنطقة ربما يقيد تحركات لندن. وظهرت هذه الإشكالية مثلاً في حالة السودان؛ حيث طلب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبد الفتاح البرهان، من بريطانيا، يوم 6 سبتمبر الماضي، تقديم اعتذار رسمي عما أطلق عليها “جريمة المستعمر”، إبان الحكم البريطاني للسودان. وبموازاة هذه المعطيات القائمة في المنطقة، يحتمل أيضاً أن تمثل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا وحالة عدم الاستقرار السياسي ومطالبة بعض أطراف الكومنولث بالانفصال عن التاج البريطاني، قيداً على حدود تحركات بريطانيا في الشرق الأوسط.