تأتي القمة العربية – الصينية في الرياض، لترفع العلاقات بين الطرفين إلى ذروة مهمة، على العكس من القمة العربية ـ الأمريكية، التي عقدت في الرياض أيضا في شهر يوليو الماضي، التي ترافقت مع هبوط العلاقات بين الطرفين إلى نقطة دنيا، وسط خلافات على تقييم الأوضاع في سوق النفط، ورفض الدول العربية لفكرة تأسيس حلف عسكري إقليمي مع الولايات المتحدة. كذلك فإن القمة العربية – الصينية تأتي ضمن تغيرات جيوسياسية عميقة تجري على المستوى الإقليمي، تشير إلى تحولات في موازين القوى، وحالة من الخلل في التوازن بشكل عام، تغذي سباقا محموما على النفوذ.
الصين لم تعد بالنسبة للمنطقة مجرد شريك تجاري، فقد بدأت الدبلوماسية الصينية بالفعل تتحسس طريقها إلى مشاكل إقليمية شائكة، مستفيدة من علاقاتها مع أطراف متنازعة مثل، الفلسطينيين والإسرائيليين، وإيران والسعودية. وتميل الدبلوماسية الصينية في الوقت الراهن إلى التركيز على محورين أساسيين: أولا، توفير قوة الدفع الكافية لمشروعات «مبادرة الطوق والطريق» في ممراتها البرية والبحرية، التي تعبر المنطقة، وثانيا خلق حالة من التطابق في المواقف من أجل مقاومة الهيمنة الأمريكية، وسعي واشنطن إلى فرض النظام الذي تريده على العالم، بكل طرق الضغط الممكنة، بما فيها العقوبات الاقتصادية والاستفزازات العسكرية.
زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للرياض، تطرح أسئلة جوهرية بشأن مسار هذه الدبلوماسية في الشرق الأوسط، من أهمها طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في المنطقة المزدحمة بعوامل التوتر والصراعات، خصوصا مع زيادة حدة الصراع الخليجي- الإيراني، والصراع العربي الإسرائيلي. على سبيل المثال: هل يقتصر دور الدبلوماسية الصينية على رعاية المصالح الثنائية المتبادلة مع دول المنطقة دولة إلى دولة، أم يتوسع نطاقها إلى العلاقات المتعددة الأطراف؟ وهل يقتصر التعاون مع دول المنطقة على دبلوماسية النفط والغاز والتجارة بشكل عام؟ أم تنتقل الدبلوماسية إلى مرحلة أعلى من التشابك في مجالات متنوعة تشمل الأمن والسلاح والشراكة الاستراتيجية الكاملة؟ وكيف يمكن تطوير العلاقات مع الصين، مع تجنب إثارة قلق الولايات المتحدة؟
مقدمات أولية لفهم الرؤية السعودية
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين السعودية والصين قبل أسابيع من غزو صدام حسين للكويت عام 1990. واكتسبت قوة كبيرة بمرور السنين منذ أواخر القرن الماضي، وخلقت تجارة النفط والاستثمارات المشتركة والتجارة السلعية، أساسا قويا للمصالح المتبادلة بينهما، حتى أصبحت السعودية أكبر مورد للنفط إلى الصين، وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري للسعودية. وخلال الزيارة تستضيف الرياض بعد القمة الثنائية السعودية – الصينية قمة ثانية خليجية – صينية، وثالثة عربية – صينية. ونشير في ما يلي إلى عدد من المقدمات المهمة لفهم طبيعة الدور الإقليمي المتنامي للصين.
علاقات متوازنة وليست محورا جديدا
المقدمة الأولى، هي أن السعودية لا تسعى للانقلاب على التحالف مع الولايات المتحدة، ولا إقامة تحالف جديد مع الصين، ولكنها تبغي تكريس نزعة استقلالية جديدة في سياستها الخارجية. هذه النزعة تجلت في اتباع سياسة نفطية مستقلة، وفي اتباع سياسة دفاعية مستقلة، ورفض اقتراح الحلف العسكري الأمريكي – الإسرائيلي. والاتجاه إلى تنويع مصادر السلاح، وتوطين صناعات عسكرية دفاعية بدلا من الإفراط في الاعتماد على الأسلحة الأمريكية، ومن ثم فإن القمة السعودية – الصينية ستكون واحدة من تجليات هذه السياسة المستقلة.
المقدمة الثانية، تتعلق بالمنافسة على القيادة الإقليمية، حيث أن الرياض تعمل منذ أكثر من 20 عاما على ملء فراغ القيادة الإقليمية في المنطقة العربية، وأن تلعب دورا رئيسيا في إدارة دفة أحداثها، والفوز على منافسيها في الزعامة الإقليمية، وأهمهم تركيا وإسرائيل وإيران ومصر. وقد استطاعت الرياض خلق علاقة قوية تقوم على المصالح المتبادلة مع القاهرة، واستخدمت دبلوماسية المساعدات لتوطيد هذه العلاقة. وعلى الرغم من أن «شبه القطيعة» مع تركيا استمرت عدة سنوات، فإن القيادة السياسية في البلدين أدركت أن إقامة علاقات صحية من خلال التعاون، هو الطريق لتحقيق استقرار المنطقة. أما بالنسبة لإسرائيل فإن الرياض تجنبت السير في «الطريق الإماراتي» للتطبيع المجاني، وتتمسك بمبادئ وخطوط المبادرة العربية للسلام، التي أعلنها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في القمة العربية في بيروت عام 2002 عندما كان وليا للعهد. أما المشكلة المعقدة التي تعترض تطوير الدور السعودي لتحقيق الاستقرار الإقليمي، فإنها المشكلة الإيرانية. وفي هذا السياق فإن دولا بالمنطقة، مثل العراق وسلطنة عمان، تقوم بدور نشيط لتشجيع الطرفين على التوصل إلى صيغة سلمية للعلاقات، تقوم على الثقة، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وما تزال قنوات الحوار الدبلوماسي مفتوحة لتحقيق ذلك.
المقدمة الثالثة، هي أن فائض القوة الاقتصادية والدبلوماسية السعودية، يحتاج إلى تفعيل بالقدر الكافي لملء فراغ القوة الإقليمي؛ فوجود فائض في القوة من دون سياسة لتفعيله لا قيمة له، وإنما تتحدد قيمة فائض القوة بتفعيله، أي بتحويله إلى قوة محركة لإحداث تغييرات إقليمية في الاتجاه الصحيح، الذي يساعد على تحقيق الاستقرار ويخفف من حدة التوتر. هذا يتحقق بإقامة تحالفات وشراكات إقليمية ودولية، تساعد على التهدئة وتحقيق الاستقرار، وليس لصب المزيد من الزيت على النار. وربما تكون العلاقات السعودية – الصينية هي المنصة للانطلاق على هذا الطريق. خصوصا أن الصين تتمتع بعلاقات استراتيجية قوية مع إيران، وعلاقات اقتصادية وعلمية مع إسرائيل، كما أن مصالحها مع السعودية، يمكن تطويرها في مجالات أرحب مثل صناعات السلاح والفضاء والطاقة المتجددة، والطاقة النووية، وهو ما يؤهلها لإقامة جسر للتهدئة الإقليمية، خصوصا أن الموقف الصيني الثابت في تأييد الحقوق الفلسطينية يتوافق مع مبادرة السلام العربية. وأن معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران يمنحها مركزا متميزا في التواصل مع طهران. ومع ذلك يجب أن نعلم أن الدبلوماسية الصينية تعتمد على المداخل غير المباشرة طويلة الأجل، بما لا يتناقض مع أحد المقومات الرئيسية لسياستها الخارجية، ألا وهو مبدأ عدم التدخل.
مقدمات على الجانب الصيني
المقدمة الأولى، هي أن الصين تلتزم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتطلب من الدول الأخرى عدم التدخل في شؤونها الداخلية. وتعتبر قضية المسلمين «الإيغور» في إقليم شينجيانغ، الذي يتمتع بالحكم الذاتي، واحدة من القضايا المثارة على جدول أعمال العلاقات الصينية مع بعض الدول الإسلامية مثل تركيا. ومع أن الصين تعترف بالطبيعة الخاصة للإقليم، إلا إنها ترفض غلبة هويته الدينية على الهوية السياسية للمواطنين الصينيين، وتعتبر ذلك شأنا داخليا لا يجوز لدولة أخرى التدخل فيه.
المقدمة الثانية، هي أن الصين، بفائض القوة الاقتصادية الذي تملكه، قد دخلت فعلا إلى نطاق المنافسة على النفوذ الخارجي، وتبنت منذ أكثر من عشر سنوات مبادرة طموحة للتمدد في العالم، هي مبادرة «الطوق والطريق». ويقدر خبراء البنك الدولي أن حجم التجارة في الاقتصادات الواقعة على امتداد ممرات المبادرة يقل بنسبة 30% عن إمكاناته، وأن الاستثمار الأجنبي المباشر يقل بنسبة 70% عن قدراته الكامنة. وتقع منطقة الشرق الأوسط جيوسياسيا في مفترق ممرات مبادرة «الطوق والطريق»، بريا وبحريا وأمنيا، كما تقع في قلب محور الصراع على النفوذ العالمي، الممتد من بحر البلطيق في الشمال إلى المحيطين الهندي والهادئ في الجنوب، وهو الصراع الذي أفرز استقطابا حادا بين الدول الصناعية المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة، والقوى النامية الصاعدة، وعلى رأسها الصين. وتعتبر الولايات المتحدة أن أي موطئ قدم للصين على امتداد محور الصراع، يمثل انتقاصا من نفوذها. ومن ثم فلا يمكن أبدا استبعاد حدوث ردود فعل أمريكية على زيادة النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، يجب التحوط لها.
المقدمة الثالثة، تتمثل في أن سرعة دورة التجديد التكنولوجي في الصين، يجعلها أقرب إلى المستقبل. لقد بدأت الصين تجربتها التنموية الحديثة في عام 1978، واستطاعت خلال أربعة عقود أن تنتقل من مصاف الدول الفقيرة، إلى ثاني أكبر قوة على كوكب الأرض، وأن تخترق الفضاء الخارجي، وتبني لنفسها محطة فضائية مستقلة، وأن تتفوق في ميادين المنافسة التكنولوجية والتطبيقات الصناعية الأحدث في كل المجالات، بما في ذلك الصناعات العسكرية. وهي تتحول تدريجيا من قوة عسكرية برية إلى قوة متكاملة، بحرية وبرية وفضائية، بفضل كفاءة القيادة، وسرعة دورة التجديد التكنولوجي في الصناعات العسكرية، حيث دخلت مبكرا إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة، بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ونظام الإنتاج بالطابعات الثلاثية الأبعاد، والأسلحة الفرط صوتية والكهرومغناطيسية. هذا من شأنه أن يجعل الطريق للمستقبل أقصر أيضا للدول التي تتعاون مع الصين، سواء من زاوية احتياجات التنمية، أو من زاوية حماية الأمن القومي.