توقفت حركة الطيران في الولايات المتحدة لساعات ممتدة يوم 11 يناير الجاري، بعد إعلان إدارة الطيران الفيدرالي إيقاف الرحلات الجوية في البلاد؛ بسبب عطل أصاب نظام (NOTAM) الذي يعمل على تحذير الطيارين من المخاطر المحتملة طوال مسار الرحلة؛ حيث تم تأجيل أكثر من 10 آلاف رحلة، وتم إلغاء أكثر من 1300 رحلة، وفقاً لـ FlightAware وبالرغم من الطابع الفني لهذا الحادث، فإنه استدعى أيضاً تشابكات السياسة الأمريكية، وحالة الصدام القائمة بين الجمهوريين والديمقراطيين، ناهيك عن الإشكاليات المتعلقة بالبنية التحتية الأمريكية.
دلالات رئيسية
يثير حادث توقف حركة الطيران في الولايات المتحدة، يوم 11 يناير الجاري، الذي وصف بكونه أكبر تعطل للملاحة الجوية في الولايات المتحدة خلال قرابة 20 عاماً، عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– الترويج الأولي لسردية الهجوم السيبراني: عقب إعلان إدارة الطيران الفيدرالي إيقاف الرحلات الجوية في البلاد، تم طرح عدد من التفسيرات حول أسباب الحادث، وكانت سردية الهجوم السيبراني حاضرة بصورة رئيسية؛ فقد ساد اعتقاد في البداية أن الأمر ناجم عن هجوم سيبراني، حتى إن مسؤولاً عسكريا أمريكياً كبيراً قال إنه لو ثبت أن العطل في نظام الطيران هجوم، فإنه سيعد “عملاً حربياً”. وساعد على ذيوع هذا التفسير أن وسائل إعلام كندية أفادت بتعرض نظام الطيران الكندي، لفترة وجيزة، لانقطاع في أجهزة الكمبيوتر بعد ساعات فقط من حادث الانقطاع في الولايات المتحدة، ومع ذلك يقول المسؤولون الكنديون إنهم لا يعتقدون أن سبب الانقطاع مرتبط بهجوم سيبراني.
اللافت أن الإدارة الأمريكية سارعت إلى إبعاد فرضية الهجوم السيبراني؛ حيث قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير، في بيان لها يوم 11 يناير الجاري، إنه "لا دليل على هجوم إلكتروني في هذه المرحلة".
2– التفسير السائد للحادث بوصفه خطأ بشرياً: بالرغم من ترويج البعض للهجوم بكونه هجوماً سيبرانياً، فإن التفسير السائد للحادث، الذي ظهر في العديد من وسائل الإعلام الأمريكية يوم 12 يناير الجاري، أكد أنه ناجم عن خطأ بشري؛ فقد أكدت وسائل إعلام أمريكية أن الحادث مجرد خلل فني – وفقاً للتصريحات التي أدلى بها المسؤولون الأمريكيون حتى الآن – وقالت شبكة “إي بي سي نيوز” إن الخلل الفني كان ناجماً عن خطأ غير مقصود وقع أثناء عملية صيانة مقررة سلفاً، في حين ذكرت شبكة “سي إن إن” أن مهندسًا عمل على استبدال ملف بآخر كان يتضمن قاعدة بيانات تالفة داخل نظام (NOTAM)، وهو النظام الذي يوفر معلومات للطواقم الجوية حول الأخطار والتطورات في المطارات وغيرها من المعلومات الحيوية.
3– تسبب الحادث بخسائر تقدر بملايين الدولارات: وصلت الطائرات المتأثرة إلى 21400، بحسب بيانات شركة “Cirium” للتحليل الجوي. وأفاد سؤول في إدارة الطيران الأمريكية الفيدرالية، مطلع على المراجعة الداخلية للحادث، بأن الخسائر تقدر بالملايين؛ حيث لا توجد حتى الآن تقديرات نهائية للخسائر التي منيت بها الولايات المتحدة، في حين يمكن أن يعطي حادث مشابه مؤشراً على الخسائر المتوقعة؛ فقد انهارت عمليات التشغيل الخاصة بشركة Southwest Airlines الأمريكية خلال فترة أعياد الميلاد؛ ما أدى إلى خسائر قدرت بنحو 825 مليون دولار، نتيجة إلغاء 17 ألف رحلة.
4– انتقاد نواب بالكونجرس الأمريكي وزارة النقل: إذ اعتبر السيناتور الجمهوري تيد كروز أن ذلك أحدث مثال على الخلل الوظيفي داخل وزارة النقل، وأضاف أنه “غير مقبول بالمرة”، في حين قالت ماريا كانتويل رئيسة لجنة التجارة بمجلس الشيوخ الأمريكي، إن اللجنة ستحقق في الحادث، مشددة على أن الشعب الأمريكي يحتاج إلى “منظومة متينة للنقل الجوي”. ومن جانبها وصفت رابطة السفر الأمريكية، التي تمثل صناعة السفر، بما في ذلك شركات الطيران، فشل نظام إدارة الطيران الفيدرالية بأنه "كارثي".
ولا يمكن إغفال أن الانتقادات التي وجهها الجمهوريون لوزارة النقل، تستبطن محاولة من جانبهم لتوظيف الحادث في صراعهم السياسي مع إدارة بايدن ومحاولة إضعاف صورة الإدارة بوصفها إدارة تفتقر إلى الكفاءة اللازمة لتشغيل المرافق الحيوية في الدولة.
5– تصاعد الجدل حول مسألة تعويض المسافرين: طبقاً لإرشادات وزارة النقل الأمريكية فإن أي شخص تم إلغاء رحلته يحق له استرداد كامل المبلغ. وفي سياق متصل، قالت شركات الطيران المحلية الكبرى مثل “أمريكان إيرلاينز ” و”يونايتد إيرلاينز “و”دلتا” إنها ستتنازل عن رسوم المسافرين الذين يريدون إعادة حجز الرحلات، ولكن في المقابل، رفض وزير النقل بيت بوتيجيج الاقتراح بأن تقوم إدارة الطيران الفيدرالية بتعويض المسافرين عن التأخير الناجم عن انقطاع التيار الكهربائي.
6– إعادة تأكيد مأزق البنية التحتية: أعقب الحادث توجيه انتقادات لشبكة النقل الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال، قال جيف فريمان المدير التنفيذي لجمعية السفر الأمريكية، إن فشل نظام إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) علامة واضحة على أن شبكة النقل الأمريكية بحاجة إلى تحسينات كبيرة، كما اعتبر تيم كامبل نائب الرئيس الأول للعمليات الجوية في شركة أمريكان إيرلاينز أنه يوجد قلق منذ فترة طويلة بشأن تكنولوجيا إدارة الطيران الفيدرالية، وأضاف أن العديد من حواسيب وأنظمة الإدارة قديمة.
لا يمكن إغفال أن الحادث أعاد مأزق البنية التحتية الأمريكية إلى الواجهة مجدداً؛ فخلال السنوات الماضية تفاقمت مشكلات البنية التحتية الأمريكية، حتى إن “الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين” أشارت، في عام 2013، إلى أن جودة البنية التحتية للولايات المتحدة تشهد تراجعاً؛ حيث تراجع الاستثمار المحلي في البنية التحتية بفعل الركود عام 2008، وسوف يتطلب الأمر ضخ ما لا يقل على 3.6 تريليون دولار أمريكي لإعادة بناء البنية التحتية للولايات المتحدة الأمريكية، كما استمر ذلك التراجع ليسجل مستويات قياسية بحلول عام 2016. وهذه الإشكاليات دفعت الرئيس بايدن إلى طرح مشروع قانون شامل للبنية التحتية بقيمة تريليون دولار، تم إقراره في مجلس الشيوخ الأمريكي، في 10 أغسطس 2021. وتضمن القانون تخصيص 550 مليار دولار، كمرحلة أولى، للإنفاق الفيدرالي الجديد على مدى السنوات الخمس المقبلة.
إحراج الإدارة
ختاماً، يعتبر الحادث أول إيقاف وطني للرحلات الجوية منذ نحو عقدين من الزمن؛ ما دفع العديد من مسؤولي صناعة الطيران في البلاد إلى المقارنة بين الواقعة وبين ما حدث بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001. وفي سياق كهذا، يبدو أن الحادث قد يسبب إحراجاً للإدارة الأمريكية، وخصوصاً في ظل الصدام القائم بين الجمهوريين والديمقراطيين، ومحاولة الجمهوريين إضعاف فرص الرئيس بايدن في الانتخابات القادمة، ومن ثم قد يشكل الحادث فرصة للجمهوريين من أجل التأثير سلباً على صورة بايدن وإدارته لملفات الدولة المختلفة.
ما يضاعف الضغوط على الإدارة الأمريكية أن بعض التقارير تحدثت عن حدوث حالة من الارتباك لدى الأجهزة الرسمية في توصيف سبب الحادث، سواء كان ناجماً عن مشكلة تقنية أو هجوم سيبراني. ولعل هذا ما يفسر اهتمام الرئيس بايدن بمتابعة تطورات الحادث، وإصداره أوامر بإجراء تحقيق بعد أن أطلعه وزير النقل بوتيجيج عليه، كما أعلن بوتيجيج أن إدارة النقل وإدارة الطيران الفيدرالية “ستتحملان” المسؤولية عن إخفاقاتهما.