• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
تقدير موقف

كيف تواجه الولايات المتحدة المخاطر الاقتصادية في 2023؟


رغم الانتعاش الأوَّلي الذي حظي به الاقتصاد الأمريكي من تبعات جائحة كوفيد–19، خلال عام 2021؛ ما جعله الاقتصاد الأكثر تعافياً من بين غالبية اقتصادات العالم، فإن عام 2022 جاء مُحمَّلاً بالعديد من التحديات التي وضعت الاقتصاد الأمريكي في مأزق كبير. ولعل الحرب الروسية–الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية، والتوترات الجيوسياسية التي صاحبتها، مثَّلت العامل الأبرز في بزوغ تلك التحديات التي لا تزال مستمرة مع دخول العام الجديد 2023.

إذ يكابد الاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن، حالة من عدم اليقين في ظل التضخم الكبير، ورفع أسعار الفائدة، وتباطؤ سوق الإسكان، والإنفاق الحكومي المتزايد على البنية التحتية، والنمو الاقتصادي المتباطئ، وبلوغ سقف الدين المحدد من قِبل الكونجرس، والمخاوف المتفاقمة من عدم القدرة على السداد، وهي جميعها أوضاع تثير التساؤلات حول مدى صمود الاقتصاد الأمريكي في ظل الأوضاع الحالية.

بيد أنه عند تناول أزمات الاقتصاد الأمريكي يبرز اتجاهان متباينان؛ أحدهما يدفع إلى القول بخطورة موقف الاقتصاد الأمريكي؛ وذلك عبر استعراض المخاطر التي يواجهها خلال العام الجديد، والآخر يرد على تلك المخاطر ويتلمس الجانب الإيجابي منها.

مخاطر واسعة

ثمة مؤشرات سلبية ومخاطر لا يمكن التغاضي عنها يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي، نستعرض أبرزها فيما يأتي:

1تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي: ففي 26 يناير الماضي، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية أن الناتج المحلي الإجمالي ينمو بمعدل سنوي بلغ 2.9% في الربع الرابع من عام 2022، وهو بذلك قد انخفض من 3.2% في الربع الثالث؛ ما يعكس تباطؤاً، بل تراجعاً في مستوى النمو.

2تراجع الإنفاق الاستهلاكي: على اعتبار أن الإنفاق الاستهلاكي هو المحرك الرئيسي للاقتصاد الأمريكي، ومن ثم فإن تأثره بالمجريات الاقتصادية، له انعكاساته المباشرة على الاقتصاد الأمريكي؛ فإن نمو الإنفاق الاستهلاكي شهد انخفاضاً في الربع الأخير من العام الماضي مقارنةً بعام 2021؛ فعلى سبيل المثال، نما الإنفاق الاستهلاكي في الفترة بين يناير 2022 إلى يناير 2022 بنحو 223.817 مليار دولار، مقابل نمو في 2021 – وهو عام التعافي – بنحو 748.698 مليار دولار.

ولعل ما أسهم في إحداث ذلك الانخفاض في نمو الإنفاق الاستهلاكي، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة مما يقرب من الصفر إلى أكثر من 4%، وهو أعلى معدل منذ 15 عاماً؛ حيث شجعت تلك السياسة المستهلكين على الادخار أكثر والإنفاق أقل، على أمل أن يخفف ذلك الضغوط التي تدفع الأسعار نحو الارتفاع.

3تضاؤل مبيعات التجزئة: يرتبط ذلك المؤشر بالمؤشر السابق؛ نظراً إلى تأثير التوجه الادخاري لدى الأمريكيين وطبيعة الإنفاق الاستهلاكي المنخفض خلال الفترة الراهنة، على مبيعات التجزئة التي انخفضت لشهرين متتالين. ويشير التراكم الكبير للمخزونات في الربع الرابع إلى أن العديد من الشركات تبيع أقل خلال موسم العطلات. ويدلل على ذلك انخفاض مبيعات التجزئة بنسبة 1.1% في شهر ديسمبر عن شهر نوفمبر الماضي، وهو الشهر الذي يتميز عادةً بالإنفاق الكبير عند الأمريكيين.

4انكماش سوق الإسكان: تضررت سوق الإسكان بدرجة كبيرة من جراء الارتفاع السريع في أسعار الفائدة؛ لاعتبارها أكثر القطاعات حساسيةً تجاه ارتفاع تكاليف الإقراض؛ إذ انكمش نشاط البناء السكني بمعدل سنوي قدره 26.7% في الربع الرابع من عام 2022، ليصبح بذلك أسوأ عام له منذ أزمة الرهن العقاري قبل 15 عاماً، وهو الوضع الذي جاء مدفوعاً بالتراجع في بناء منازل جديدة، كما يمثل ذلك تناقضاً صارخاً مع ما حدث في وقت سابق خلال جائحة كوفيد–19؛ حين كانت سوق الإسكان مزدهرةً.

5تسريح آلاف العمال: أدى الارتفاع الجامح في التضخم وارتفاع تكاليف التشغيل ارتفاعاً صاروخياً، إلى اضطرار شركات وادي السيليكون إلى اللجوء لاتخاذ قرار جماعي موجه نحو تقليل العمالة؛ حيث قامت شركات التكنولوجيا بإلغاء أكثر من 330 ألف وظيفة على مدار الـ12 شهراً الماضية، وفقاً لإحصائيات صادرة عن منصة الأبحاث TrueUp، بما في ذلك ما يقرب من 90 ألف وظيفة مُلغاة منذ بداية العام الجديد 2023.

ومع استمرار التضخم عند مستوى مرتفع، وتباطؤ معدل النمو، فإن الكثيرين يتوقعون أن تنتشر مشاكل قطاع التكنولوجيا بسرعة إلى الاقتصاد الأمريكي، ليصبح تخفيض العمالة سمة رئيسية خلال المرحلة المقبلة.

6أزمة الديون الأمريكية: أعلنت الحكومة الأمريكية عن بلوغها سقف الدين الذي حدده الكونجرس، في يوم 19 يناير 2023، وهو الأمر الذي أجبر وزارة الخزانة الأمريكية على البدء في اتخاذ إجراءات غير عادية، تستهدف من خلالها تمكين الحكومة من دفع فواتيرها. وهو مؤشر في غاية الخطوة؛ فمع بلوغ حد الدين نحو 31 تريليون دولار، فإنه إذا تخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، فإن الأسواق المالية ومختلف الاستثمارات ستكون أول المتضررين. ومع عرقلة تدفق الأموال، ربما تضطر الشركات إلى الإغلاق أو تقليص حجم نشاطها، وخسارة الوظائف التي كان من الممكن أن تضيفها لولا ذلك.

7ارتفاع أسعار الفائدة بمعدلات قياسية: في العام الماضي، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة القياسي سبع مرات، من صفر إلى نطاق بين 4.25% و4.5%. وقد أصدر صانعو السياسة في الاحتياطي الفيدرالي، توقعات بأنهم سيواصلون رفع سعر الفائدة الرئيسي حتى يتجاوز 5%، وهو أعلى مستوى منذ 15 عاماً. ومع تضخم تكاليف الاقتراض، يمكن لعدد أقل من الأمريكيين تحمُّل قروض الرهن العقاري أو قروض سياراتهم، إلى جانب الأسعار المتضخمة؛ ما يدفع إلى حرمان الاقتصاد من مُحرِّكه الرئيسي المتمثل في الإنفاق الاستهلاكي الصحي.

وبرغم تباطؤ معدل رفع الفائدة الذي أعلن عنه الاحتياطي الفيدرالي في يوم الأربعاء الموافق 1 فبراير الجاري، فإن بعض المحللين يرون ذلك استمراراً في سياسات رفع الفائدة، حتى إن كان ذلك بمعدل أقل.

حجج المتفائلين

رغم ما ذُكر من تحديات ومخاطر تُحدِق بالاقتصاد الأمريكي، نجد على الجبهة المقابلة رداً وتفنيداً للمخاطر السالفة الذكر، وتوقعات بقدرة الاقتصاد الأمريكي على تجاوز كل ذلك، وهو ما نستعرضه فيما يأتي:

 

1استقرار معدل البطالة عند أدنى مستوى له: من أجل قياس إذا ما كانت عمليات التسريح تزيد من وضع العمال المُسرَّحين سوءاً، بما يدفعهم إلى تقديم طلبات إعانات بطالة، فإن بعض الاقتصاديين يهتمون بمراقبة عدد الذين يسعون للحصول على إعانات البطالة كل أسبوع. وقد لاحظ الاقتصاديون انخفاضاً في الطلبات الأسبوعية لدعم البطالة، وفق ما أفاد به مكتب إحصاءات العمل، الذي أشار إلى أن عدد المتقدمين للحصول على إعانات البطالة انخفض إلى أدنى مستوى له في تسعة أشهر عند 186 ألف طلب.

أضف إلى ذلكأن تسريح الآلاف من العاملين في شركات التكنولوجيا، قابلَهاستمرارٌ في فتح العديد من الوظائف الأخرى التي وصلت إلى نحو 10.5 مليون فرصة عمل؛ وذلك بفضل سوق الوظائف النشطة، التي تركت أرباب العمل في العديد من القطاعات يكافحون لملء الوظائف الشاغرة؛ ما تسبب في انخفاض معدل البطالة في ديسمبر الماضي من 3.7% إلى 3.5%، وهو أدنى مستوى خلال نصف قرن.

2تراجع احتمالات حدوث الركود: يرى بعض المحللين أن الركود شبه مستحيل، رافضين كافة التوقعات التي تؤكد أن الركود واقع لا محالة، ويدللون على ذلك بارتفاع الإنفاق الاستهلاكي بمعدل 2.1%، وهو معدل إن بدا بطيئاً أو متراجعاً، لكنه عند النظرة الكلية إلى الوضع الاقتصادي في الدولة، نجده يمثل انخفاضاً طفيفاً فقط عن وتيرة الربع الثالث. ويبرهن المحللون على ذلك بأن الأمريكيين أثبتوا استعدادهم لقضاء الإجازات وشراء وجبات المطاعم، وغير ذلك من الخدمات، كما ظل الإنفاق على الرفاهيات قوياً، رغم ما يواجهونه من ارتفاع جامح في الأسعار. وقد جاء ذلك مدعوماً بالإنفاق الواسع من قبل المستهلكين ذوي الدخل المرتفع الذين هم أقل تأثراً بالتضخم.

3نمو الناتج المحلي أعلى مما كان متوقعاً: مع ارتفاع تكاليف الاقتراض وارتفاع تكلفة المعيشة، كانت التوقعات تتجه نحو القول بأن النمو في الناتج المحلي الإجمالي سيتراجع بدرجة كبيرة، غير أن ارتفاع مستوى النمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.9% في الربع الرابع من عام 2022، بدا لدى كثيرين نهايةً قويةً لعام مُتقلِّب وغير مستقر؛ حيث انكمش فيه الاقتصاد الأمريكي خلال الأشهر الستة الأولى، وهو ما دفع حينها إلى الحديث عن ركود، غير أنه عاود الانتعاش في النصف الثاني من العام الماضي؛ ما يعني أن أداء الاقتصاد الأمريكي كان أفضل مما كان متوقعاً في نهاية العام الماضي.

4امتلاك الحكومة فرصاً لتجنب التخلف عن السداد: رغم الإعلان عن بلوغ سقف الدين الذي حدده الكونجرس، فإن الحكومة الأمريكية لا يزال أمامها الوقت لاتخاذ تدابير من شأنها تجنب التخلف عن السداد. ووفق محللين، فإن وزارة الخزانة الأمريكية قد تلجأ إلى اتخاذ إجراءات استثنائية من أجل تحقيق ذلك، وربما يمرر الكونجرس خلال الأشهر القادمة مشروع قانون يرفع سقف الدين. يدلل على ذلك إعلان الكونجرس عن استعداده لتمرير مشروعات قوانين الإنفاق التي من شأنها أن تنظم الإنفاق العام وتعمل على تخفيضه.

سياسات محتملة

من المتوقع أن تعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز الاقتصاد الأمريكي ودعمه للدرجة القصوى نحو التعافي، وقد يكون ذلك من خلال ما يأتي:

1تعزيز المرونة في التعامل مع اختناقات سلسلة توريد الطاقة: أدت الحرب الأوكرانية إلى تقويض الإمدادات العالمية من الغاز الطبيعي والنفط؛ الأمر الذي أدى إلى زيادة الضغط على أسعار الطاقة، حتى في الولايات المتحدة. ولمواجهة ذلك الوضع، أصدرت إدارة بايدن أكثر من 180 مليون برميل من النفط من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، وهي الجهود التي ساهمت في تقليل التداعيات القصيرة المدى لارتفاع أسعار الغاز على الأمريكيين.

ولكي تعمل الإدارة الأمريكية على تجنب الوقوع في ذلك النوع من المشكلات، ربما تلجأ إلى تعزيز مرونة الموانئ الأمريكية وقدرتها على التعامل مع اختناقات سلاسل التوريد الواردة الحدوث، وهو ما يُمكِّن من إنشاء مناطق لوجستية جديدة، والانتقال السريع والعاجل إلى اقتصاد الطاقة النظيفة، باعتبار ذلك حلاً طويل الأجل.

2الاستمرار في تفعيل قانون الحد من التضخم: يُعَد قانون خفض التضخم الذي خصصت له الإدارة الأمريكية نحو 430 مليار دولار، سياسة صناعية خضراء قادرة على خلق ملايين الوظائف في مجال الطاقة النظيفة الجيدة؛ حيث يقوم بالأساس على تقديم إعانات للصناعات الخضراء، كالشركات المُصنِّعة لبطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، كما يشمل ذلك القانون مئات المليارات من إعانات الدعم الفيدرالية للتكنولوجيات الخضراء ومصادر الطاقة المتجددة.

ومن المرجح أن تستمر الإدارة الأمريكية في تطبيق قانون الحد من التضخم؛ لما لذلك من دور من زيادة فرص العمل، ودعم الانتقال الأخضر للطاقة، فضلاً عن المساهمة في خفض التضخم. ولا يمكن إغفال أن هذا الأمر سيؤدي إلى تنامي الأزمات في العلاقات بين واشنطن والدول الأوروبية التي ترى أن السياسة التي تتبناها الولايات المتحدة تؤثر بالسلب على عدد من القطاعات الصناعية في أوروبا.

3تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار: قد يلجأ الرئيس الأمريكي إلى تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار وتعزيز جهود التصنيع المحلي، وإلى الاستفادة منه في خلق المزيد من فرص العمل. وقد ساعدت بالفعل الأجندة الاقتصادية لإدارة بايدن – وأبرزها قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف وقانون CHIPS – في تحفيز استثمارات القطاع الخاص في مجموعة من المجالات، بما في ذلك شحن المركبات الكهربائية وأشباه الموصلات.

لذا من المرجح أن تتوسع الإدارة الأمريكية في إصدار قوانين جديدة على شاكلة القوانين السابقة، يكون من شأنها دعم القطاع الخاص وتحفيزه على الاستثمار، بما يدعم في المقام الأول مصلحة المواطن الأمريكي.

4الانخفاض التدريجي في رفع أسعار الفائدة: من المحتمل أن تلجأ الإدارة الأمريكية إلى خفض معدلات الرفع في أسعار الفائدة نسبياً خلال الفترة المقبلة. ولعل ما يشير إلى ذلك، قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأخير رفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في يوم الأربعاء الموافق 1 فبراير الجاري، مقارنةً برفعه بمقدار 50 نقطة أساس في ديسمبر من عام 2022، والتعهد بالاستمرار في رفع تكاليف الاقتراض باعتبار ذلك جزءاً من معركة الفيدرالي المستمرة ضد التضخم الذي إن تراجع نسبياً، فإنه لا يزال مرتفعاً.

وهو التحرك الذي أثار الجدل بشكل موسع حول إذا ما كانت تلك الخطوة ستتسبَّب في رفع معدل التضخم مرة أخرى، باعتباره تراجعاً عن الوتيرة القوية لرفع أسعار الفائدة في العام الماضي، بيد أن معدل التضخم الذي يقدر بـ6.5% حالياً، لا يزال أعلى بكثير من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي الطويل الأجل البالغ 2%، إلا أن تلك السياسة تعني أن التباطؤ في رفع سعر الفائدة، خطوة جاءت – في رأي البعض – استجابةً للمخاوف من وقوع ركود محتمل في الولايات المتحدة، بغض النظر عما يحتاج إليه الاقتصاد الأمريكي بالفعل في التعامل مع أزماته.