لم تنته بعد جهود الإنقاذ للبحث عن ناجين في المناطق التركية والسورية التي تعرضت للزلزال المدمر الذي وقع في 6 فبراير الجاري (2023)، بقوة 7.8 درجة على مقياس ريختر. وقد وصلت حصيلة الخسائر في سوريا وحدها - حتى كتابة هذه السطور- إلى وفاة ما يقرب من 3550 شخصاً وإصابة أكثر من 5000 شخص.
وقد وقعت أغلب الوفيات والإصابات في مناطق شمال غرب سوريا وخصوصاً إدلب وريف حلب، وهي المناطق التي تقع تحت سيطرة العديد من التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة، حيث تضم تلك المناطق ما يقرب من 27 تنظيماً إرهابياً، منها ما هو محسوب على تنظيم القاعدة، وما وهو محسوب على تنظيمات منشقة عن تنظيم داعش، بالإضافة لأكبر التنظيمات الإرهابية ذات النفوذ والسيطرة بشمال غرب سوريا، وهو تنظيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، فضلاً عن تنظيم داعش نفسه الذي يتمركز على مقربة من الشمال الشرقي مع تواجد بعض خلاياه في شمال غرب سوريا، وهو ما يطرح تساؤلات حول كيف تعاملت هذه التنظيمات الإرهابية المتمركزة في شمال غرب سوريا مع الزلزال وتداعياته؟.
مسارات ثلاثة
يمكن القول إن ثمة مسارات رئيسية ثلاثة اتجهت إليها تلك التنظيمات في التعامل مع الزلزال، تتمثل في:
1. الهدوء المؤقت: منذ أن ضرب الزلزال سوريا يوم الإثنين 6 فبراير وحتى يوم الخميس 9 فبراير، توقفت العمليات الإرهابية لتنظيم داعش في الداخل السوري، حيث كانت آخر عملية إرهابية أعلن التنظيم عن تنفيذها يوم الجمعة 3 فبراير بمحافظة دير الزور شمال شرق سوريا ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
ومع وقوع الزلزال، بدأ التنظيم الإرهابي من خلال منصاته المختلفة في استغلال الحدث عبر مسارين: الأول، توجيه خطابات ورسائل بأن "شدة الكارثة كانت نتيجة تعاون المواطنين في مواجهة التنظيم"، وأن ما حدث هو "عقاب إلهي" لهجرة المواطنين ما يطلق عليه التنظيم "الخلافة".
والثاني، دعوة المواطنين في شمال غرب سوريا إلى الانتقال لمناطق ارتكاز التنظيم والانضمام إليه، مع التأكيد على خلو مناطق "البادية"- وهي إحدى أهم مناطق ارتكاز التنظيم في سوريا- من أضرار الزلزال وتوابعه.
2. تصفية الحسابات: تضم مناطق إدلب وريف حلب العديد من التنظيمات الإرهابية التابعة للقاعدة وأبرزها (حراس الدين – أنصار الدين – أنصار الإسلام- كتيبة أبو بكر). وقد اتهمت التنظيمات القاعدية تنظيم هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة سابقاً" بالمسئولية عن ارتفاع أعداد الوفيات والإصابات، لكون الأخير المسيطر على مجمل مناطق إدلب، حيث وجهت هذه التنظيمات القاعدية انتقادات لأبي محمد الجولاني زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام، واعتبرت أنه "اهتم بجمع الأموال عبر السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق شمال شرق سوريا ومع تركيا في مقابل عدم تقديم خدمات بالمناطق المسيطر عليها من الفصيل الإرهابي ما أفرغ إدلب وريفها من المعدات والأدوات الخاصة بعمليات الإنقاذ"، وهو ما يتوازى مع محاولة تلك التنظيمات القاعدية توجيه العديد من الرسائل الدينية استغلالاً للوضع ولتعزيز قدرتها على الاستقطاب والتجنيد.
3. المقايضة والابتزاز: سعى تنظيم هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني إلى استغلال زلزال 6 فبراير بشمال غرب سوريا لتحقيق العديد من الأهداف التي تخدم مشروعه الإرهابي، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
أ- تسويق سياسي: بعد ثلاثة أيام من وقوع الزلزال وارتفاع أعداد الوفيات والمصابين في شمال غرب سوريا، خرج الإرهابي أبو محمد الجولاني زعيم التنظيم في مؤتمر صحفي عقدة بإدلب مساء يوم الأربعاء 8 فبراير، للحديث عن "جهود" التنظيم الإرهابي في عمليات الإنقاذ والمطالبة بالمساعدات الدولية، وهو استمرار للنهج نفسه الذي يحاول الجولاني تصديره للرأى العام الدولي، ويتمثل -وفقاً لمزاعمه- في كونه فصيلاً مسلحاً وليس إرهابياً.
هذه المقاربة تحديداً يسعى الجولاني إلى إضفاء وجاهة خاصة عليها منذ عام 2019، عندما ألقى كلمة بعنوان "حرب تحرر واستقلال"، اعتبر فيها أن "الانتصار قد تحقق، وأن القتال في سوريا دخل مرحلة جديدة هي مرحلة الحكم وإدارة المناطق المسيطر عليها في شمال غرب سوريا".
وقد أعقب ذلك إدلاء الجولاني بتصريحات خلال إجراء "مجموعة الأزمات الدولية"، حواراً معه، في يناير 2020، وهي المرة الأولى التي تسعى مجموعة عمل غربية قريبة من الولايات المتحدة الأمريكية للتواصل المباشر مع الجولاني وتوفير مساحة لشرح سياسة التنظيم الجديدة، حيث أكد الجولاني في المقابلة على "تخليه" عن طموحاته "الجهادية العابرة للحدود"، زاعماً أنه يركز فقط على حكم المنطقة الواقعة تحت سيطرته.
وجاءت الرسالة التي بثها تنظيم هيئة تحرير الشام، في 7 أكتوبر 2020، والتي تضمنت دعوة لإعادة تشكيل المستويات العسكرية للتنظيم لتدل على أن الهيئة بدأت في تنفيذ تصور الجولاني حول انتهاء "المسار الجهادي" للتنظيم والتحول لقوة مسلحة محلية معارضة.
ب- ابتزاز النظام السوري: سعى الجولاني وتنظيم هيئة تحرير الشام إلى تحميل الحكومة المركزية في دمشق المسئولية عن ارتفاع أعداد الضحايا، في الوقت نفسه الذي يرفض التنظيم الإرهابي فتح المعابر مع النظام ومع قوات سوريا الديمقراطية لإدخال المساعدات، حيث يسيطر التنظيم الإرهابي - بالتنسيق مع تنظيم أحرار الشام - على مجمل المعابر، سواء مع تركيا في الشمال أو مع قوات سوريا الديمقراطية في الشرق أو مع الحكومة المركزية في الجنوب.
ج- مقايضة التنظيمات الإرهابية الأخرى: قبل وقوع الزلزال بيومين، حاولت هيئة تحرير الشام إعادة رسم خريطة التنظيمات الإرهابية الفاعلة في شمال غرب سوريا، لا سيما مع توتر العلاقات مع تركيا بعد اجتماع وزراء دفاع سوريا وروسيا وتركيا في العاصمة الروسية موسكو في 28 ديسمبر الماضي، والذي اعتبرته الهيئة مساراً جديداً تسعى أنقرة إلى تبنيه، ما يشكل تهديداً لنفوذ وسيطرة التنظيم في شمال غرب سوريا.
ومن هنا، اتجه التنظيم إلى إعلان تجمع أطلق عليه "تجمع الشهباء"، والذي ضم بعض الفصائل المدعومة من تركيا مثل تنظيم نور الدين زنكي، وأحرار الشام - القطاع الشرقي، وأحرار التوحيد، وهو الإعلان الذي فشل بعد ساعات، لا سيما بعد إصدار تنظيم نور الدين زنكي وتنظيم أحرار الشام والفيلق الثالث الذي يسيطر على تنظيم أحرار التوحيد، بياناً أعلنوا فيه "تبرؤهم" من التشكيل ومن العناصر التي أعلنت التجمع، بعد الضغوط التي تعرضت لها القيادة المركزية للفصائل الثلاثة، وهو ما دفع هيئة تحرير الشام لتصعيد الأمر ضد التنظيمات الثلاثة مستغلة وقوع الزلزال برفض قيام أي فصيل بالانخراط في عمليات الإغاثة، بالإضافة إلى تعطيل عمل معبر باب الهوى وباب السلامة على الحدود التركية كنوع من المقايضة والضغط على التنظيمات الإرهابية لقبول تصور الهيئة في إعادة إنشاء غرفة عمليات مشتركة تحت قيادة الجولاني.
في المجمل، سعت التنظيمات الإرهابية في مناطق إدلب وريف حلب إلى توظيف وقوع زلزال 6 فبراير سياسياً، في محاولة لتحقيق العديد من المكاسب السياسية والتنظيمية، سواء بين بعضها البعض أو في مواجهة النظام السوري، أو حتى في مواجهة تركيا، مع تجاهل لكارثية الحدث والارتفاع المستمر في أعداد الضحايا والمصابين، وهو ما يجعل من زلزال 6 فبراير نقطة بداية لمسار جديد في إعادة رسم خارطة التنظيمات الإرهابية في شمال غرب سوريا.