• اخر تحديث : 2024-05-02 20:55
news-details
قراءات

لم يكن مشهد الاشتباك العسكري الذي اندلع في الخرطوم فجر 15 أبريل الجاري (2023) إلا انعكاساً لصراع سياسي محتدم بين أطراف المعادلة الداخلية السودانية، والتي تداخلت بين ما هو مدني وما هو عسكري على مدى الشهرين السابقين للاشتباكات المسلحة، وهي الحالة التي أفرزت حشداً للقوات العسكرية من جانب قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم خلال هذه الفترة على اعتبار أنها التي تحسم عملية حيازة السلطة المتصارع عليها. وقد لعب عاملان أساسيان دوراً محورياً في عمليات الفرز السياسي والعسكري بين الأطراف السودانية وهما الاتفاق الإطاري وعملية الإصلاح الأمني المنطوية على عملية الدمج بين المكونات العسكرية السودانية.

عوامل الاشتباك العسكري

شكلت ملامح الاتفاق الإطاري المدعوم دولياً المنصة المطلوبة لتسليم السلطة للمدنيين وضمان عملية التحول الديمقراطي طبقاً لما تم اعتباره آليات تمكين القوى الثورية السودانية، وتطلعات الغالبية من الشعب السوداني لبناء الدولة على أسس جديدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن روافع هذه العملية لم تكن قد تم بلورتها في تحالف سياسي واسع، ولكن تم قيادتها من جانب طرف سياسي واحد هو تحالف الحرية والتغيير المركزي، بينما خرجت من هذا التحالف قوى سياسية أخرى مثل الحزب الاتحادي الأصل وحزب البعث الحزب الشيوعي والحركات المسلحة الدارفورية.

ويمكن رصد الموقف من الاتفاق الإطاري من جانب القوى السياسية طبقاً للتالي:

1. قوى النظام القديم: شكل الاتفاق الإطاري مُهدِّداً كبيراً لقوى النظام القديم بما انطوى عليه من اتجاهات لتفكيك الجبهة القومية الإسلامية التي مثلت حاضنة سياسية لنظام عمر البشير، وكذلك تفكيك سيطرتها على الدولة العميقة وأجهزتها، وأيضاً إزاحتها من السيطرة على المفاصل الاقتصادية للدولة، فضلاً عن ضمان عمليات المحاسبة على ممارسات الفساد السياسي والمالي. وطبقاً لذلك، تم الاستنفار في صفوف الجبهة القومية الإسلامية وواجهتها السياسية - حزب المؤتمر الوطني السوداني المنحل - وبدأت في تنظيم صفوفها من جديد وبرزت فعاليات عدة في الفترة الأخيرة تعطي مؤشرات واضحة في شأن قدرة هذا التيار على بلورة قواه السياسية والمجتمعية، والقدرة على تقديم أطروحات تضمن وجوداً سياسياً مؤثراً لهم في المعادلات السياسية المستقبلية، وذلك في ضوء قدرتهم التاريخية على تغيير جلدهم السياسي وربما تكون فعالية إفطار رمضان الذي أقيم أخيراً بالخرطوم في مشهد استعراضي لا تخطئه عين مراقب، من المؤشرات التي تشير إلى تأثير تيار الإسلام السياسي في المشهد السوداني، بينما شكلت مطالبة علي كرتي الأمين العام الحالي للجبهة القومية الإسلامية ووزير الخارجية الأسبق بتسليم حزب المؤتمر الوطني المنحل السلطة مؤشراً آخر على وجود قواعد اجتماعية، كما يمكن تصنيف المؤتمر السياسي الذي أقيم في قاعة الصداقة في العاصمة السودانية تحت مسمى حركة "المستقبل للإصلاح والتنمية" على أنه أحد دلائل الصعود السياسي للتيار الإسلامي في السودان، نظراً لأن هذا المؤتمر هو نتاج لفاعلية تنظيمية برزت من خلال عقد مؤتمرات قاعدية في أنحاء متفرقة من البلاد.

وقد يكون من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن حركة المستقبل قد تبنت خطاباً عدائياً تجاه قوى الثورة عام 2018، كما هاجمت صيغ التفاعل الدولي والإقليمي مع الأزمة السودانية، واعتبرت أن الاتفاق الإطاري "انعكاس لتمدد المشروع الأجنبي في السودان الذي مكن فئات وأقليات مغتربة عن الواقع من حكم البلاد".

وفي سياق موازٍ، ظهرت تجليات أكثر عنفاً ضد الاتفاق الإطاري مثل تكوين 13 لجنة في آخر اجتماع للتنسيقية العليا لمكونات شرق السودان، لإسقاطه من خلال خطة لإغلاق شرق السودان في اليوم ذاته الذي يتم فيه التوقيع على الاتفاق، وهناك من بث فيديوهات مصورة وخلفه ملثمون للغرض ذاته، ومنهم من يستدعي قوات الدفاع الشعبي والتنظيمات الطلابية التابعة للجبهة الإسلامية لتكون فاعلة على الأرض وذلك على وسائل التواصل الاجتماعي.

2. تحالف الحرية والتغيير: حدث انقسام عمودي في المكون المدني السوداني وقواه السياسية كنتيجة لإقالة رئيس الوزراء السوداني عبدلله حمدوك في أكتوبر 2021 بسبب خلافات سياسية على مستويين الأول بين حكومة حمدوك وتحالف الحرية والتغيير الواسع آنذاك بسبب ما أسماه التحالف الواسع للحرية والتغيير انحرافاً عن الثورة، وكذلك بسبب مشاركة القوى السياسية في الحكومة المدنية بنظام المحاصصات. أما المستوى الثاني فهو بين المكون العسكري والمكون المدني بشأن الالتزام بتسليم السلطة للمدنيين طبقاً للوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس 2019. وقد أسفر هذا الانقسام عن بروز عدد من المكونات المدنية منها تحالف الحرية والتغيير المركزي، والتحالف الجذري الذي يلعب فيه الحزب الشيوعي دوراً قائداً، والكتلة الديمقراطية التي يلعب فيها قادة الفصائل المسلحة الدارفورية بدورهم أدواراً رئيسية.

في هذا السياق، شهدت العملية السياسية انسداداً وعجزاً عن تكوين حكومة تنفيذية على مدى ما يقرب من عامين، وكذلك احتجاجات شعبية ضد المكون العسكري للمطالبة بحكم مدني وهو المشهد الذي أفضى في نهاية 2022 لبلورة الاتفاق الإطاري وتوقيعه ولكن تعثر الاتفاق النهائي عليه، وذلك على مدى أربعة شهور بسبب حالة الاستقطابات السياسية بشأن هذا الاتفاق والقوى الداعمة.

الإصلاح الأمني وإدماج القوات

نصّ الاتفاق الإطاري على عملية إصلاح أمني شامل للمؤسسة العسكرية السودانية التي تضم كلاً من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والفصائل المسلحة المنضوية في اتفاق جوبا للسلام، لكن نشب الخلاف على آليات هذا الدمج من حيث تسلسل القيادة والسيطرة، والفترة الزمنية التي تتطلبه، حيث تبلورت اتجاهات الجيش السوداني في إخضاع ضباط الدعم السريع للشروط المنصوص عليها في الكلية الحربية، ووقف التعاقدات الخارجية والتجنيد والابتعاد عن العمل السياسي، فيما قدم قائد قوات الدعم السريع ورقة لورشة الإصلاح الأمني تطالب بهيكلة القوات المسلحة قبل الدمج بما يعني ضمان موقعه العسكري فيها، وتجريم الانقلابات العسكرية وفرض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية عبر البرلمان، ومراجعة وتطوير العقيدة العسكرية وتنقية القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من عناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيات.

وقد تبلورت هذه الخلافات في ظل انعدام الثقة بين الطرفين تأسيساً على عدد من العوامل منها أن لكل طرف عسكري حاضنة سياسية منسوبة له، فقوات الدعم السريع تتمتع بدعم من جانب قوى الحرية والتغيير المركزي التي بلورت موقفها على أساس محاولة الاستقواء بقوى عسكرية موازية للقوات المسلحة وذلك ضماناً لتمكينها من السلطة في مواجهة وجود عناصر من الجبهة القومية الإسلامية في الجيش، وهو ما يفسر الدعم الذي يجده الجيش من الإسلاميين إلى حد تصنيف أحداث 15 أبريل من جانب قطاع من القوى المدنية ونخبها على أن الرصاصة الأولى في هذا الصراع قد انطلقت من جانب الجيش لتمكين النظام القديم.

التفاعل السياسي مع الاشتباك العسكري

مع إدراك النخب السياسية السودانية أن حالة الاشتباك العسكري تحتمل الانزلاق نحو حرب أهلية شاملة، فإن الكثير من الأطراف تتحرك حالياً نحو محاولة بناء تحالف وطني واسع يضمن وجود قوى مدنية تحقق توازناً سياسياً مع المكون العسكري بطرفيه. لكن هذه الجهود لم تتبلور حتى اللحظة الحالية في أجسام سياسية محددة، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى اجتماعات دعا إليها حزب الأمة القومي وحضرها الطرفان المدنيان المتصارعان وهما الحرية والتغيير المركزي والكتلة الديمقراطية، لكن هذه الجهود من جانب حزب الأمة أيضاً لم يتم بلورتها بعد، خصوصاً تحت ضغط الصعوبات اللوجستية في التواصل والحركة في أنحاء العاصمة الخرطوم.

بشكلٍ عام، يمكن رصد أن عملية التفاعل السياسي مع حالة الإحتقان ثم الاشتباك بين أطراف المكون العسكري قد تأسست على الموقف من الاتفاق الإطاري، ذلك أن كلاً من قوى النظام القديم وتحالف الكتلة الديمقراطية قد اجتمعت على أن الاشتباك العسكري قد أسقط الاتفاق الإطاري، وذلك من زاويتين مختلفتين: الأولى من جانب الكتلة الديمقراطية التي ترى أن تحالف الحرية والتغيير المركزي لم يعد قائداً للعملية السياسية بعد انتهاء غبار المعارك وأنها سوف تتأسس من جديد وفقاً لموازنات مغايرة. والثانية، من قبل قوى النظام القديم، التي ترى أن الاشتباك العسكري قد يضمن أن العملية السياسية المقبلة لن تقصيها من المعادلة بل ربما تستطيع قيادتها إذا ما تمكن الجيش من حسم الاشتباك لصالحه أو على الأقل إضعاف قوات الدعم السريع التي ينظر إليها كداعم للمجلس المركزي للحرية والتغيير.

على الجانب الآخر، فقد حاولت قوى الاتفاق الإطاري معالجة تصاعد الاحتقان بين طرفي المكون العسكري قبيل الاشتباكات، عبر مساعيها للعمل مع طرفي النزاع في عدد من اللقاءات، للوصول إلى حل يجنب البلاد الانزلاق نحو الفوضى الأمنية، كما حمّلت عناصر النظام السابق مسئولية الحشد والتحريض وبث الشائعات التي تستهدف رفع مستوى التوتر للوصول لحالة الاشتباك العسكري.

وبالتوازي مع ذلك، فقد طالبت وما تزال بالتدخل من جانب أطراف المجتمع الدولي بهدف التهدئة واستئناف العملية السياسية على أساس الاتفاق الإطاري الذي تعتبره الآلية المناسبة للتحول الديمقراطي وتمكين القوى الثورية من السلطة.

إجمالاً، يبدو المشهد السوداني المستقبلي مرهوناً بالطرف الذي يستطيع أن يحسم نتائج هذا الاشتباك لصالحه. فطبقاً لذلك، سوف تتشكل المعادلة السياسية المستقبلية، أما إذا حصل الطرفان أو كلاهما على دعم خارجي فمعنى ذلك أن تتوسع حالة الاشتباك الحالية إلى حالة حرب أهلية شاملة ويتحول السودان إلى منصة استقطاب إقليمي ودولي تنعكس عسكرياً، وربما من هذه الزاوية تدعو مصر إلى التهدئة وعدم التدخل في الشئون الداخلية، بالتوازي مع تقديمها مبادرتين حتى الآن إحداهما بشراكة مع جنوب السودان والأخرى مع الإمارات، وبطبيعة الحال لن يمكن تفعيل أي من المبادرتين أو كلاهما إلا مع وقف الاشتباكات.