تحظى الانتخابات التشريعية والرئاسية التركية التي سوف تجرى في 14 مايو الجاري (2023) بأهمية خاصة لدى الأحزاب والقوى السياسية التركية، وهو ما يفسر سعيها إلى تحشيد قواعدها، ومحاصرة تحركات خصومها. وفي الوقت الذي يعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الانتخابات المقبلة معركة بقاء نظراً لتراجع شعبيتهما بسبب تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية وتراجع الأوضاع المعيشية، والتي وصلت إلى مستوى غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، تراهن المعارضة -التي تجتمع تحت مظلة ما يعرف إعلامياً بــ"طاولة الستة"- على الانتخابات القادمة لإزاحة أردوغان عن السلطة، واستثمار تآكل الرصيد التقليدي لحزب العدالة والتنمية في الشارع التركي للحصول على غالبية البرلمان، تمهيداً لعودة البلاد لجهة النظام البرلماني.
وفي إطار نجاح المعارضة في تحقيق اختراق لافت في الشارع، على نحو بدا جلياً في دعوة حزب الشعوب الديمقراطي -الجناح السياسي للأكراد- في بيان له في 28 أبريل الفائت، للتصويت لكمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المنافس الرئيسي لأردوغان، سعت الحكومة إلى اتخاذ العديد من الإجراءات على المستويين الداخلي والخارجي للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها تلك التطورات.
بيئة مغايرة
تشهد الانتخابات التشريعية والرئاسية التركية التي ستجرى في 14 مايو المقبل، تحولات سياسية مهمة ومغايرة تتمثل أهم معالمها فيما يلي:
1. تصاعد حدة الاستقطاب السياسي: تتسم الانتخابات التركية بتصاعد حدة الانقسام المجتمعي والتشظي السياسي بين المتنافسين، وبرزت ملامح الاستقطاب بصورة لافتة في سعى الرئيس أردوغان ومنافسه كليتشدار أوغلو إلى "تديين" المشهد الانتخابي، فعندما دعا الأخير في أكتوبر الماضي إلى "تقنين الحجاب"، قال أردوغان -الذي أراد تحويل ذلك إلى فرصة- أن "القانون لا يكفي، فلنضعه في الدستور".
في المقابل، زادت حدة التصريحات والتصريحات المضادة بين أردوغان ومنافسه، فبينما يصف أردوغان رئيس الشعب الجمهوري بأنه متحالف مع "مدبري الانقلابات والوصاية والإمبريالية العالمية"، يصفه الأخير – الذي أعلن أنه علوى المذهب - بأنه "دكتاتور ومستبد". كما انعكس ذلك الاستقطاب عشية تشييع جنازة رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق دينيز بايكال في فبراير الماضي، حيث امتنع أردوغان عن مصافحة كليتشدار أوغلو ورئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو، بينما كان لافتاً مصافحته خصمه محرم أينجه، الذي انشق عن حزب الشعب الجمهوري، وأسس حزباً جديداً باسم "البلد".
2. تزايد تأثير المكون الكردي: كان لافتاً تزايد تأثير المكون الكردي في المشهد الانتخابي، وحرص الأطراف المنخرطة في العملية الانتخابية على استقطاب دعم الأكراد، خاصة أن التيار الكردي يملك كتلة تصويتية يمكن أن تؤثر في حسم المعركة الانتخابية. وزاد التنافس على الصوت الكردي، بعد إعلان الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطي برفين بولدان في مارس الماضي، أن الحزب المؤيد للأكراد لن يدفع بمرشح خلال الانتخابات المقبلة.
ورغم نجاح التحالف الحاكم في تمتين أواصر العلاقة مع حزب الله الكردي، إلا أن الوعاء السياسي الأكبر للأكراد - والممثل في حزب الشعوب الديمقراطي - أعلن عن دعمه صراحة لمرشح المعارضة كليتشدار أوغلو، وهو ما يعده المراقبون ضربة انتخابية لأردوغان، خاصة أن "الخزان" الانتخابي للحزب الكردي يمثل ما يزيد عن 10 بالمئة من أصوات الناخبين الأتراك.
ويبدو أن التأييد الكردي للمعارضة يأتي على ضوء تعهد مرشحها بإنهاء الملاحقات القضائية بحق السياسيين المعارضين للسلطة الحاكمة، ومن بينهم الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش، والمعتقل منذ نهاية 2016 بتهمة "الدعاية لحزب العمال الكردستاني" الذي تصنفه أنقرة إرهابياً.
3. بروز دور "الأحزاب الصغيرة": تزايد دور الأحزاب الصغيرة في الانتخابات، وتجلى ذلك في سعى الرئيس أردوغان لضم حزب "الرفاه الجديد" الذي يقود فاتح أربكان - نجل رئيس الوزراء التركي السابق نجم الدين أربكان - بالإضافة إلى استقطاب حزب "الهدى بار" - وهو حزب كردي ينتمي للقطاع المتدين من الأكراد والبسطاء - وذلك في محاولة لجذب أكبر قدر ممكن من الأصوات الانتخابية، ومحاولة تفكيك الكتل الداعمة للمعارضة التركية.
4. توظيف الكوارث الإنسانية: إضافة لما سبق، تأتي العملية الانتخابية مع تصاعد التأثيرات التي فرضها زلزال 6 فبراير الماضي، والذي امتدت توابعه إلى المشهد السياسي وحالة التوتر بين المعارضة والسلطة الحاكمة. وقد سعت القوى السياسية إلى توظيف الزلزال سياسياً، فبينما وصف الرئيس أردوغان، في 14 فبراير الماضي، زلزال كهرمان مرعش وتوابعه، بأنه "أسوأ كارثة طبيعية في القرن الحادي والعشرين"، وتعهد بإزالة آثاره خلال عام واحد؛ فقد تصاعدت اتهامات المعارضة له بالتقصير في التعامل مع الأزمة.
آليات مغايرة
مع احتدام المنافسة الانتخابية في الداخل التركي، سعى الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى اتخاذ العديد من السياسات الداخلية والخارجية التي تعزز حضورهما في الشارع التركي، ويتمثل أبرزها في:
1. تعزيز الحوافز الانتخابية: اتجه الرئيس أردوغان خلال الأشهر الأخيرة نحو إقرار حزمة من المساعدات والحوافز الاجتماعية والمالية، أهمها رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 55%، وزيادة رواتب ومعاشات موظفي الخدمة المدنية. كما سعى الرئيس التركي إلى توظيف بدء استخراج الغاز المكتشف في حقل "صقاريا 1" بمنطقة البحر الأسود، والذي دخل مرحلة الضخ في أبريل الفائت. واعتبر أردوغان، في 20 أبريل الفائت، أن ضخ غاز البحر الأسود خطوة تاريخية على طريق اكتفاء البلاد ذاتياً من الطاقة. وفي سياق دغدغة مشاعر الأتراك، أضاف: "سنستخرج من حقل صقاريا 10 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً في المرحلة الأولى، وسيبلغ الإجمالي 40 مليون متر مكعب يومياً بعد افتتاح الآبار الجديدة لاحقاً".
2. إزاحة بعض الخصوم: تمكن الرئيس أردوغان من إزاحة بعض خصومه من الساحة الانتخابية، وخاصة أكرم أمام أوغلو رئيس بلدية اسطنبول، الذي يحظى بحضور سياسي بارز في الشارع التركي. إذ أنه، وفقاً لاتجاهات عديدة، يبدو شخصية جذابة خلافاً لكليتشدار أوغلو، الذي يعده المراقبون "باهتاً سياسياً" فضلاً عن أنه طاعن في السن، ولا يحظى بحضور في أوساط الشباب التركي.
ويشار في هذا الصدد إلى أن الرئيس التركي قد تمكن من إزاحة إمام أوغلو من المشهد الانتخابي، بعد إصدار القضاء التركي، في 14 ديسمبر الماضي، حكماً بالسجن لمدة عامين على الأخير بتهمة إهانة أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات. كما تضمن الحكم تفعيل المادة 35 من قانون العقوبات، التي تفرض حظراً على النشاط السياسي للمدانين بعقوبة تتجاوز العامين، وهو ما يعنى عملياً منع أوغلو من الترشح للرئاسة.
3. التجاوب السريع مع ارتدادات زلزال 6 فبراير: قطع أردوغان شوطاً معتبراً على صعيد التعاطي مع تداعيات الزلزال المدمر، رغم الانتقادات التي يتعرض لها، حيث أعلن تخصيص 100 مليار ليرة لمناطق الزلزال للتعامل الأوَّلي مع الأزمة، وإشراك 250 ألف موظف حكومي في جهود مواجهة آثار الزلزال، وواصل جولاته الميدانية بالمحافظات المتضررة من الزلزال. كما تعهد ببناء 30 ألف وحدة سكنية خلال عام واحد؛ لتعويض المتضررين، مع توفير مساكن ملائمة لهم وتوفير احتياجاتهم المعيشية.
كما تعهد أردوغان أيضاً بتقديم منح مالية لكل مفقود تبلغ 100 ألف ليرة، وفتحت حكومة العدالة والتنمية تحقيقات موسعة مع عدد واسع من المقاولين المسئولين عن انهيار المباني. وساهمت هذه الجهود في رفع شعبية أردوغان، خاصة بعد انتقاده المعارضة، ووصفها بأنها "جماعات انتهازية تسعى إلى تحويل مصاب الزلزال إلى مكاسب سياسية".
4. محاولة تعزيز المكاسب الخارجية: سعى أردوغان قبل الانتخابات إلى إحداث نقلة نوعية على صعيد إعادة ضبط السياسة الخارجية، من خلال خفض التصعيد، والعودة إلى سياسة تصفير المشاكل مع بعض القوى الإقليمية والدولية. ويبدو أن هذا التوجه ارتبط، في جانب معتبر منه، بالاستحقاق الانتخابي، خاصة أن المعارضة التركية كانت قد نجحت نسبياً في توظيف ملف العلاقات الخارجية، وحالة التردي في علاقات أنقرة مع القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لتعزيز ضغوطها على حكومة حزب العدالة والتنمية، وتشويه صورتها في الوعي الجمعي التركي.
وهنا، يمكن فهم حرص الرئيس التركي على توظيف التقارب الحادث في العلاقات بين تركيا وعدد من القوى الإقليمية كورقة رابحة في الانتخابات، خاصة بعد أن عادت الاستثمارات والودائع المصرفية من الإمارات والسعودية فضلاً عن وعود الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين بجعل تركيا مركزاً لصادرات الغاز الطبيعي الروسي، وهو ما قد يعزز من حيوية الاقتصاد التركي، ويوفر بيئة خصبة لإحداث تحول في توجهات الناخبين الأتراك لمصلحة أردوغان وحزبه.
ويشار إلى أن أردوغان قد تمكن مؤخراً من تسوية جانب معتبر من القضايا الخلافية مع دول الجوار، على نحو كان له دور في تدشين المجتمع الدولي حملة تضامن مكثفة مع تركيا منذ وقوع الزلزال وتوابعه؛ حيث قدمت أكثر من 150 دولة مساعدات لأنقرة، منها اليونان - الخصم التقليدي لتركيا - بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتوازي مع ذلك، يراهن أردوغان على توظيف تحركاته على المستوى الخارجي، وفي الصدارة منها نجاح دور أنقرة كوسيط في الأزمة الأوكرانية فضلاً عن الحضور اللافت لتركيا في صياغة الترتيبات السياسية والأمنية المتعلقة بالعديد من أزمات المنطقة، خاصة في إقليم ناجورني قره باغ، والتي تمثل أوراقاً استراتيجية للسياسة التركية.
5. استثمار المشاريع الدفاعية: حاول الرئيس أردوغان توجيه رسائل للداخل بأنه قادر على دعم مسيرة تطور تركيا خلال المرحلة المقبلة، ووضعها في مصاف الدول المنتجة للسلاح، حيث أعلنت تركيا عن تطور في قطاع الصناعات الدفاعية، في أول مايو الجاري، تمثل في إنتاج مقاتلة تركية باسم "قآن". كما أعلنت، في 28 أبريل الفائت، عن إنتاج صاروخ كروز ذكي صغير تم تطويره بإمكانات محلية وأطلق عليه اسم "بيرقدار كمانكش".
ولم يكن هذا الإعلان هو الأول من نوعه، ففي مارس الماضي أعلن رئيس مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير بدء بلاده الاختبارات الأرضية لطائرة التدريب النفاثة "حُرجيت"، ناهيك عن إعلان رئيس شركة المعدات الدفاعية "أسسيلسان إلكترونيك ساناي"، أن أنقرة "قد لا تحتاج إلى بطاريات منظومة الدفاع الجوي الروسية S400 لحماية نفسها"، وأضاف أن بلاده تعمل على تطوير نظام دفاع صاروخي خاص بها من طراز "سيبر".
في هذا السياق، سعى الرئيس التركي إلى توظيف النجاحات في القطاعات الدفاعية لتحشيد الداخل التركي لمصلحة حزب العدالة والتنمية، خاصة وأن هيئة الصناعات الدفاعية التركية قد كشفت في تقرير لها عن أن إجمالي أرباح قطاع الصناعات الدفاعية بلغ 12.2 مليار دولار خلال عام 2022 بنسبة زيادة وصلت إلى 20% مقارنة بعام 2021، فيما بلغت قيمة استثمارات البحث والتطوير 2.1 مليار دولار.
ومع ذلك، يمكن القول في النهاية إن هذه الآليات لا تنفي أن فشل الحلول التقليدية في احتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها تركيا، والتي تبدو جلية في تراجع سعر صرف العملة المحلية جنباً إلى جنب مع استمرار أزمة اللاجئين السوريين، كلها عوامل قد تلقي بظلال سلبية على موقع وفرص التحالف الحاكم خلال المشهد الانتخابي المقبل.