تكشف جولة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي بدأها في 7 يونيو الجاري (2023) إلى دول أنجولا وزامبيا وموزمبيق عن ملامح تشكل توجه جيوستراتيجي جديد للسياسة الخارجية المصرية ينطوي على اتساع الرؤية الاستراتيجية لدوائر الاهتمام المصري نحو منطقة الجنوب الأفريقي التي لم تحظ بأولوية في اهتمامات السياسة الخارجية المصرية في مراحل زمنية مختلفة لصالح بعض المناطق الأفريقية الأخرى على رأسها شرق أفريقيا بما في ذلك حوض النيل والقرن الأفريقي، حتى أن جولة الرئيس تلك تعد بمثابة الزيارة الأولى للدول الثلاث السابق الإشارة إليها، إذ لم يسبق لرئيس مصري القيام بزيارتها من قبل، وهو ما يعني أننا قد نكون بصدد مرحلة جديدة في مسار الحركة المصرية على الساحة الأفريقية، ربما تنعكس آثارها على إعادة تفعيل الدور المصري في القارة مستقبلًا.
أبعاد متعددة
تحمل هذه الجولة الأفريقية عدة أبعاد مختلفة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1. تعزيز التواصل مع الأشقاء الأفارقة: تسعى القاهرة إلى تطوير العلاقات المصرية-الأفريقية عبر التواصل والتنسيق مع الدول الأفريقية في مختلف المجالات، وذلك من خلال عقد سلسلة من المباحثات الثنائية مع العديد من المسئولين الأفارقة بهدف بحث آليات تعزيز أوجه التعاون بين الطرفين على كافة المستويات، وهو ما عبرت عنه زيارة الرئيس السيسي بامتياز.
2. معالجة الأزمات الأفريقية: تدرك مصر أهمية الانخراط في الأزمات والقضايا الأفريقية والتعاون لإيجاد حلول لتسويتها بما يعزز الحضور المصري هناك. فقد ركزت زيارة الرئيس على مناقشة مستجدات عدد من القضايا والملفات الرئيسية بما في ذلك الأزمات الإقليمية المستمرة، مثل الأزمة السودانية التي تشكل تهديدًا للأمن الإقليمي في مناطق شمال وشرق أفريقيا والساحل، والدفع نحو إيجاد حلول لتلك الأزمات المشتعلة لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
3. المشاركة في المحافل الأفريقية: تحرص القاهرة باستمرار على التواجد والتفاعل الإيجابي في التجمعات الأفريقية الرسمية مثل قمم الاتحاد الأفريقي وغيرها. من هنا جاءت مشاركة الرئيس السيسي خلال زيارته للعاصمة الزامبية لوساكا في أعمال القمة 22 للسوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي (كوميسا)، والتي شهدت تسليم القاهرة الرئاسة الدورية للمنظمة والتي استمرت قرابة العامين إلى زامبيا، مع تولي مصر منصب المقرر بهيئة مكتب الكوميسا.
4. البحث عن أسواق أفريقية جديدة: وذلك في إطار المساعي المصرية لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع الأشقاء الأفارقة، من خلال فتح آفاق رحبة للتعاون، سواء في مجال التبادل التجاري أو المشروعات المشتركة، خاصة أن القاهرة تنفذ عددًا من المشروعات في بعض العواصم الأفريقية مثل لواندا. إضافة إلى الدفع نحو تعزيز تواجد الشركات المصرية للاستثمار في قطاعات مختلفة بأفريقيا مثل البنية التحتية والزراعة والسياحة والأدوية والأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وإن كان حجم التبادل التجاري بين مصر وأفريقيا لا يزال ضعيفًا، والذي بلغ في الربع الأول من عام 2022 نحو 2.12 مليار دولار بواقع 1.6 مليار دولار كصادرات مصرية، و500 مليون دولار كواردات مصرية من أفريقيا.
ومع ذلك، تعزز القاهرة تحركاتها على الساحة الأفريقية من أجل تعزيز عملية التكامل الاقتصادي الإقليمي والقاري من خلال تنفيذ أهداف أجندة أفريقيا 2063 لا سيما مع تولي مصر رئاسة الوكالة الإنمائية للاتحاد الأفريقي (نيباد) في العاميْن المقبليْن.
5. أولوية ملف مياه نهر النيل: لا تدخر مصر جهدًا في توضيح سلامة موقفها من قضية السد الإثيوبي على الساحتين الدولية والأفريقية، في مقابل التعنت الذي تبناه الجانب الإثيوبي على مدار العقد الماضي. لذلك، سعت القاهرة خلال الجولة الأخيرة إلى توضيح رؤيتها الخاصة للدول الثلاث بشأن الأزمة في محاولة لبناء موقف أفريقي مؤيد للرؤية المصرية في هذا الصدد، وربما يدفع -في مرحلة ما- نحو الضغط الأفريقي على الجانب الإثيوبي من أجل ضرورة التوصل لاتفاق قانوني ملزم لضمان حقوق الأطراف الثلاثة المعنية في هذا الملف، لا سيما أن موزمبيق تشغل في الوقت الراهن عضوًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي خلال الفترة بين عامي 2023 و2024.
6. دعم أمن القارة الأفريقية: تحرص القاهرة على العمل مع شركائها الأفارقة لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجه دولهم، لا سيما مع تصاعد نشاط الإرهاب في عدد من المناطق الأفريقية بما في ذلك إقليم "ديلجادو" في شمال موزمبيق الذي يهدد الأمن الإقليمي في المنطقة بما في ذلك الأمن البحري في قناة موزمبيق والتي قد تمتد آثاره السلبية إلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر عند مضيق باب المندب، وما يرتبط به من تأثيرات على الملاحة البحرية والتجارة الدولية هناك.
7. نقل الخبرات للدول الأفريقية: تدرك القاهرة أهمية تدعيم الأفارقة في مجالات مختلفة لاسيما بناء القدرات والكفاءات الأفريقية، والبنية التحتية، إضافة إلى مجالات صناعة الطاقة والهندسة الصناعية، وذلك في إطار الدفع نحو العمل الأفريقي المشترك، لا سيما أن هناك تزاحمًا للقوى الدولية والإقليمية الطامحة للعب دور وخلق نفوذ قوي في القارة من خلال ضخ المزيد من المساعدات والمشروعات التي يصعب مجاراتها في الوقت الراهن.
دلالات استراتيجية
هناك العديد من الدلالات المهمة التي تعكسها هذه الزيارة المهمة للرئيس عبد الفتاح السيسي. ويمكن الإشارة إلى أبرز هذه الدلالات فيما يلي:
1. التموضع الاستراتيجي للجنوب الأفريقي: تكتسب هذه الزيارة أهميتها من المكانة التي تحظى بها الدول الثلاث (أنجولا وزامبيا وموزمبيق) على الصعيد الأفريقي؛ إذ تحتل أنجولا المرتبة الأولى في إنتاج النفط في أفريقيا، كما أنها رابع منتج للماس من حيث القيمة في العالم. بينما تمتلك موزمبيق العديد من الثروات النفطية والغاز الطبيعي في شمال البلاد، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي على ساحل المحيط الهندي وقناة موزمبيق الاستراتيجية، في حين تشغل زامبيا رئاسة تجمع الكوميسا في الوقت الحالي.
2. الاهتمام بدائرة الجنوب الأفريقي: والذي يمثل تحولًا لافتًا نحو أفق جديد للدبلوماسية المصرية تجاه منطقة الجنوب الأفريقي، وذلك في إطار السعي نحو توسيع نطاق الحركة المصرية على الساحة الأفريقية، وهو ما عززه لقاء الرئيس السيسي مع نظيره المالاوي بهدف بحث سبل تعزيز العلاقات بين البلدين، إلى جانب لقائه بنظيره الكيني ويليام روتو على هامش أعمال قمة الكوميسا في لوساكا.
3. الانفتاح المصري على أفريقيا: وذلك من أجل تحقيق غايتين أساسيتين في المرحلة الراهنة: أولاهما، رسالة للمجتمع الدولي مفادها أن مصر حاضرة بقوة في العمق الأفريقي، خاصة وسط موجة التفاعلات الدولية والإقليمية التي تشهدها الساحة الأفريقية على إثر تحول القارة لساحة مواجهة ساخنة بين القوى الفاعلة وهو ما عزز تصاعد التنافس الدولي هناك. وثانيتهما، ضمان الدعم الأفريقي في عدد من القضايا والملفات مثل ملف السد الإثيوبي، وفي حالة توسيع عضوية مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة خلال الفترة المقبلة.
4. فاعلية دبلوماسية القمة: وهي التي أثبتت نجاحها منذ عام 2014، من خلال تفعيل وتطوير العلاقات الثنائية مع الدول الأفريقية، إضافة إلى قدرتها على تذليل أي عقبات أمام تعزيز التجارة والاستثمار في القارة، خاصة أن الدول الأفريقية الثلاث تمتلك فرصًا واعدة اقتصاديًّا واستثماريًّا.
5. أولوية القضايا الأفريقية: تؤكد مصر التزامها بتكثيف التعاون والتواصل مع نظرائها الأفارقة من أجل تسوية الأزمات والقضايا الأفريقية، وكذلك استكشاف فرص التعاون في مختلف المجالات من خلال تعزيز العلاقات ودعم الحوار المشترك، إضافة إلى معالجة الشواغل المشتركة من خلال آليات محددة بهدف تعزيز الاستقرار الإقليمي، ووضع أطر مشتركة للتعاون الأفريقي لدفع عملية التنمية وتوسيع نطاق التكامل الاقتصادي الإقليمي والقاري، وذلك من أجل المساهمة في التنمية الشاملة والتقدم على الصعيد الأفريقي.
6. تعزيز مقدرات السلم والأمن الأفريقي: تدرك مصر حجم التحديات الأمنية التي تواجهها دول القارة بسبب تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في بعض المناطق الأفريقية مثل شمال موزمبيق. لذلك، تحاول القاهرة توظيف قدراتها وخبراتها في مجال مكافحة الإرهاب لمساعدة الدول الأفريقية في تحقيق المزيد من الاستقرار والأمن، وهو ما يعد بمثابة قيمة مضافة تعزز الحضور المصري وتعظم من المصالح الاستراتيجية المصرية على الساحة الأفريقية في المرحلة المقبلة.
وإجمالًا، يمكن أن يمثل التحرك المصري الأخير نحو الجنوب الأفريقي نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من إعادة تشكيل مسار الحركة المصرية وإعادة بناء مرتكزات القوة بالنسبة للسياسة المصرية تجاه قارة أفريقيا في سبيل تعظيم المصالح المصرية في القارة، أخذًا في الاعتبار حجم التغيرات الاستراتيجية التي يشهدها النظام الدولي وتنعكس بشكل مباشر على موازين القوة في المشهد الأفريقي ككل. وربما تكون اللحظة الراهنة ملائمة لتوجه الدولة المصرية نحو استحداث نموذج مصري يتضمن استراتيجية شاملة ذات أهداف محددة ترتبط بشكل أساسي ومباشر بإعادة فاعلية الدور المصري في أفريقيا الذي غاب لسنوات طويلة ولا يزال يحتاج إلى المزيد من تضافر الجهود لتعزيزه خلال الفترة المقبلة حرصًا على المكتسبات الاستراتيجية للدولة المصرية في الساحة الأفريقية.