• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
قراءات

ما ملامح السياسة الألمانية تجاه منطقة الهندوباسيفيك؟


في حديثه في حوار شانجريلا بسنغافورة – وهو أهم مؤتمر أمني في آسيا – أعلن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، أن بلاده سترسل سفينتين حربيتين (فرقاطة وسفينة إمداد) إلى المحيطين الهندي والهادئ في عام 2024، موضحاً أن الدول بحاجة إلى الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، وحماية الممرات البحرية الرئيسية، مشيراً في هذا الصدد إلى أن عمليات الانتشار العسكري هذه غير موجهة ضد أي دولة، وهي ملاحظة موجهة – على ما يبدو – إلى الصين؛ حيث تأتي وسط تصاعد التوترات بين الصين وتايوان، ناهيك عن استمرار حالة النزاع في منطقة بحر الصين الجنوبي.

طبيعة التحركات

تتخذ ألمانيا عدة مسارات للتوجه نحو منطقة الهندوباسيفيك خلال الآونة الأخيرة، خاصةً في ظل تنامي الوجود الصيني بالمنطقة، الذي يهدد بدوره المصالح الغربية هناك، ويمكن إيجاز أبرز المسارات الراهنة للتحركات الألمانية في المنطقة على النحو التالي:

1إرشادات السياسة الألمانية تجاه المنطقة: في سبتمبر 2020، أصدرت ألمانيا “إرشادات السياسة الألمانية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، ومنذئذٍ قامت برلين بتكثيف تعاونها الإقليمي في مجالات مثل دعم التعددية السياسية بالمنطقة، ومعالجة تغير المناخ، وحماية البيئة، وتعزيز السلام والأمن والاستقرار، وحماية حقوق الإنسان وسيادة القانون، بجانب تعزيز التجارة الحرة القائمة على القواعد، ولا سيما الارتكاز على الشبكات القائمة على القواعد والتحول الرقمي للمناطق والأسواق.

وفيما يتعلق بالتنفيذ على أرض الواقع، أوضح التقرير المرحلي المُصدر في عام 2022، أن التقدم المقصود قد تحقق بوضوح؛ حيث وسَّعت ألمانيا شراكتها مع الآسيان باعتبارها المنظمة الإقليمية الرئيسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما عززت علاقاتها الإقليمية هناك من خلال الزيارات الدبلوماسية المنتظمة، وتكثيف العلاقات الثنائية مع اللاعبين الإقليميين، والتوصل إلى اتفاقيات حول شراكات الاتصال والتعاون في مجال سياسة الطاقة والمناخ. بالإضافة إلى ذلك، يعرب التقرير المرحلي أيضاً عن اهتمام ألمانيا الشديد بتعزيز الأمن الدفاعي في منطقة الهندوباسيفيك؛ وذلك من خلال انضمامها إلى اتفاقية التعاون الإقليمي لمكافحة القرصنة والسطو المسلح ضد السفن في آسيا، ومن خلال مشاركتها النشطة في إجراء بعض المناورات العسكرية بالمنطقة.

2تكثيف التعاون الأمني مع دول المنطقة: خلال السنوات الأخيرة كثفت بكين تعاونها الأمني مع دول الهندوباسيفيك؛ ففي عام 2021، أرسلت برلين فرقاطة “بايرن” إلى المنطقة، وهي الأولى التي تحط رحالها في آسيا منذ 20 عاماً؛ إذ جاءت هذه الخطوة لإرسال إشارة إلى المجتمع الدولي أن ألمانيا تسعى إلى العمل على تطبيق قواعد القانون الدولي في المنطقة وحماية مصالحها في المنطقة. وفي عام 2022، أرسل سلاح الجو الألماني طائرات “يوروفايتر” إلى دول المحيطين الهندي والهادئ؛ للمشاركة في التدريبات العسكرية المشتركة (Pitch Black)؛ وذلك بالتعاون مع اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وسنغافورة.

وفي سياق ذي صلة، قال رئيس كوريا الجنوبية “يون سوك يول” في تصريحات له، يوم 21 مايو 2023، إنه “اتفق مع المستشار الألماني أولاف شولتز على ضرورة التعجيل بإبرام اتفاقية حماية عسكرية سرية لتقوية الصناعات الدفاعية”. واتفق الطرفان على توسيع التعاون العسكري في مجال الدفاع والتسليح، كما تم الاتفاق على توسيع العلاقات الاقتصادية والصناعات المتطورة بين الدولتين.

ومع ذلك، يبدو أن القوات المسلحة الألمانية لا تزال غير مجهزة بشكل كافٍ لجعلها لاعباً رئيسياً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في المستقبل المنظور؛ فبالرغم من أن مساهمتها موضع ترحيب، فإنها ليست حاسمة في التهديدات التي تتعرض لها المنطقة.

3مواجهة التغيرات المناخية: تتخذ الحكومة الألمانية خطوات ملموسة لمواجهة تغير المناخ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ حيث تتفاوض حول شراكات لتسريع التخلص التدريجي من الطاقة القائمة على الفحم، وتوسيع مصادر الطاقة المتجددة، في سياق الشراكة من أجل التنمية الخضراء والمستدامة؛ إذ تروج ألمانيا للعديد من المشروعات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مجالات الطاقة المتجددة وحماية الغابات والبحار والتنوع البيولوجي.

4جذب دول المنطقة موقف الغرب من الحرب الأوكرانية: في حديثه في حوار شانجريلا بسنغافورة، شدد وزير الدفاع الألماني على الخطر الذي تمثله الحرب الدائرة في أوكرانيا على النظام العالمي ككل، موضحاً أنه إذا فازت روسيا، فإن العدوان والاستخدام غير المبرر للقوة العسكرية سيتم التوسع في استخدامه في قضايا أخرى، بما فيها تلك المتعلقة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي السياق ذاته، شكر بوريس بيستوريوس الدول الآسيوية التي “سارعت في إدانة الغزو لتوضيحها لموسكو أن المجتمع الدولي لا يقبل هذه الحرب غير الشرعية”، مشدداً على ضرورة “الوقوف ضد الغزو الروسي لأوكرانيا”، على حد وصفه.

5دعم التفاهمات المشتركة مع الآسيان: تُعَد ألمانيا من شركاء التعاون الإنمائي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا (الآسيان) منذ عام 2017؛ فقد أرسى انضمامها في عام 2020 إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا لعام 1967 أسس التعاون المكثف؛ ففي إطار شراكتهما التنموية، تتعاون رابطة دول جنوب شرق آسيا وألمانيا تعاوناً وثيقاً في قضايا حماية البيئة والمناخ، فضلاً عن التكامل الاقتصادي والتعليم والتدريب المهني.

وفي عام 2020، أثناء رئاسة ألمانيا لمجلس الاتحاد الأوروبي، قرر الاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا رفع مستوى علاقاتهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. وفي الاجتماع الخامس للجنة التنمية بين الآسيان وألمانيا (AG–DPC)، نوفمبر 2021، تبادل الطرفان وجهات النظر حول وثائقهما الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأكدا أهمية التعاون الأمني المشترك، من خلال المشاركة الألمانية في التدريبات الدفاعية الإقليمية، بالإضافة إلى التعاون في المجالات الأمنية غير التقليدية، مثل الأمن السيبراني وأمن المعلومات.

دوافع رئيسية

ثمة أهداف متعددة قد وجهت برلين نحو إعطاء مزيد من الاهتمام بمنطقة الهندوباسيفيك؛ نظراً إلى ما تتمتع به المنطقة من أهمية استراتيجية. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأهداف فيما يأتي:

1الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة: وفقاً لما تضمنته “استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون في منطقة الهندوباسيفيك”، التي تم إصدارها في أبريل 2021، فإن المنطقة تستحوذ على نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتسيطر على ثلثي النمو الاقتصادي العالمي، كما تمتلك 60% من سكان العالم والثروات العالمية، فضلاً عن أنها موطن لثلاثة من أكبر أربعة اقتصادات خارج الاتحاد الأوروبي (الصين، الهند، واليابان)، ويمر بها نحو 40% من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي؛ هذا بجانب أن الاتحاد الأوروبي يعتبر واحداً من أكبر الشركاء التجاريين في هذه المنطقة؛ لكونها طليعة الاقتصاد الرقمي والتطورات التكنولوجية، ومركزاً لسلاسل القيمة العالمية. ونتيجةً لذلك، فإن برلين لديها اهتمام كبير بالمشاركة في ديناميكيات النمو في آسيا والمشاركة في تشكيل منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

2تأكيد المكانة الألمانية دوليّاً: تَعتبر ألمانيا نفسها دولة تجارية نشطة دولياً وداعية إلى نظام دولي قائم على القواعد، وتتمتع بسمعة ممتازة في العديد من مجالات التعاون الثنائي، ومن هنا سعت برلين إلى التركيز في سياستها الخارجية على تنويع علاقاتها مع القوى ذات التفكير المماثل، وخاصةً في منطقة الهندوباسيفيك. والدافع وراء ذلك هو تأمين حضورها بالمنطقة، باعتبارها ضمن أولويات السياسة الخارجية الألمانية، ومن ثم تسعى إلى التزام أمني مستدام وطويل الأمد تجاه منطقة الهندوباسيفيك، مقارنةً بالاستراتيجيات الأمنية السابقة التي كانت تتمحور حول المجال الاقتصادي فقط؛ ولذلك اتخذت ألمانيا الآن نظرة أوسع وأكثر واقعيةً، من خلال المشاركات السياسية والدفاعية والاقتصادية لبرلين في المنطقة.

3موازنة النفوذ الصيني المتصاعد: صحيح أن برلين حريصة على استمرار علاقاتها مع بكين، بيد أن الصين تظل من المصادر الرئيسية للتوترات الإقليمية التي تشير إليها برلين غالباً باعتبارها مبرراً للحاجة إلى زيادة مشاركتها وحضورها بالمنطقة، مبررةً بأن بكين تتحدَّى قواعد النظام الدولي في بحر الصين الجنوبي؛ ما يزيد خطر التصعيد في مضيق تايوان، وهذا يسرع عملية إعادة التسلح عبر جوارها؛ ولذلك كان للصين نصيب وفير من خطط أو تصريحات الحكومة الألمانية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك المبادئ التوجيهية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.

4تأمين المصالح الألمانية بالمنطقة: وذلك من خلال إظهار وجود عسكري أكبر في الهندوباسيفيك؛ حيث تسير ألمانيا على حبل رفيع بين مصالحها الأمنية والاقتصادية؛ ففي حين أن الصين هي الشريك التجاري الأكثر أهميةً لدى ألمانيا، فإن الأخيرة قد انضمت إلى دول غربية أخرى في توسيع وجودها العسكري في المنطقة، وسط قلق متزايد بشأن طموحات الصين الإقليمية؛ من أجل تأمين مصالحها الاقتصادية والتجارية بالمنطقة.

فعلى الرغم من زيادة مشاركتها العسكرية بمنطقة الهندوباسيفيك، تظل علاقات ألمانيا مع المنطقة تهيمن عليها القضايا الاقتصادية؛ حيث إنها تمتلك علاقات تجارية قوية مع دول المنطقة، بغض النظر عن الصين؛ فمثلاً وصل حجم التبادل التجاري بين ألمانيا ودول الآسيان إلى نحو 90 مليار دولار، وبينها وبين الهند نحو 31 مليار دولار، وبينها وبين أستراليا نحو 19 مليار دولار خلال عام 2022.

5سوق لصادرات الأسلحة الألمانية: على الرغم من قدرتها العسكرية المحدودة، فإن ألمانيا نجحت في تطوير وتصدير الأسلحة لعقود؛ فمن عام 2000 إلى عام 2020، كانت ألمانيا رابع مصدر للأسلحة في العالم، بعد الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا. ومن ثم، توفر التوترات المتزايدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ فرصة لمزيد من الصادرات إلى هذه المنطقة؛ فخلال الفترة ذاتها، صدرت ألمانيا أسلحة إلى كوريا الجنوبية بقيمة 4 مليارات دولار، وإلى أستراليا بقيمة 1.76 مليار دولار، وإلى ماليزيا بقيمة مليار دولار، وإلى الهند بقيمة 775 مليون دولار، وإلى سنغافورة بقيمة 730 مليون دولار، وإلى إندونيسيا بقيمة 469 مليون دولار.

6دعم الاستراتيجية الأوروبية بالمنطقة: باعتبارها أبرز المؤثرين داخل الاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع فرنسا، يمكن القول إن مستقبل ألمانيا في منطقة الهندوباسيفيك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون في المنطقة، التي تتمحور حول سبع أولويات: الازدهار المستدام والشامل، والانتقال الأخضر، وإدارة المحيطات، والحوكمة الرقمية والشراكات، والاتصال، والأمن والدفاع، والأمن البشري، ولا سيما الدعوة إلى زيادة الأولويات، والمشاركة مع البلدان الشريكة في المنطقة.

وعلى غرار نظرائها الأوروبيين، تميل ألمانيا إلى الاختيار بين السياسات التي تُبنى على أساسها استراتيجية الاتحاد الأوروبي للمحيطين الهندي والهادئ من أجل تعزيز مصالحها الخاصة، والإعلان عن دورها وقيمتها المضافة، خاصةً أن الحكومة الألمانية عازمة على إعطاء مكانة أعلى لبلادها في الهندوباسيفيك. وتعتبر الإرشادات الألمانية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ مع استراتيجية الصين واستراتيجية الأمن القومي جنباً إلى جنب، إشارة إلى ذلك.

خلاصة القول: على الرغم من الإعلان الألماني الأخير عن إرسال المزيد من السفن الحربية إلى المنطقة في عام 2024، فمن غير المرجح أن يكون صعود ألمانيا في منطقة الهندوباسيفيك عملية خطية وسريعة؛ حيث إنه مرتبط بالمصالح الأوروبية في المنطقة؛ إذ إن الوجود الألماني في المنطقة لا يزال منخفض الكثافة وغير متسق وغير مثير للجدل، وكذلك فإنه عرضة للتفكك إذا زادت التوترات هناك؛ فإذا كان هدف برلين هو الدفاع عن النظام القائم على القواعد في المنطقة باعتباره وسيلة للدفاع عن المصالح الألمانية وأمنها، فهذه ليست الطريقة المناسبة لذلك.

ومع ذلك، فإن الأمل في الحصول على رسائل واضحة من الحكومة الألمانية تجاه الدور الصيني في منطقة الهندوباسيفيك سيظل أمراً صعب المنال، خاصةً في ضوء زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى بكين في نوفمبر 2022؛ لذلك هناك العديد من الأسئلة حول دوافع الالتزام الألماني الأمني تجاه الهندوباسيفيك. بيد أنه بغض النظر عن الدوافع الفعلية، فإن الموقف الجديد لألمانيا بالكاد يشير إلى إيمانها بقدرتها على التأثير على الوضع الاستراتيجي في المحيطين الهندي والهادئ.