في صبيحة 23 كانون الثاني الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل 21 جندياً وضابطاً من قوات الاحتياط بعد استهدافهم من قِبَل المقاومة بصواريخ قرب المنطقة الحدودية (على بُعد 600 متر من كيسوفيم). وبحسب البيان الرسمي للجيش الإسرائيلي، فإن هذه القوة كانت تعمل في المنطقة على تفخيخ وتفجير المنازل الفلسطينية القريبة من الجدار العازل. هذه الحادثة، كشفت- من ضمن حوادث أخرى كثيرة على طول الحدود مع القطاع- عن بدء الجيش الإسرائيلي بإقامة "المنطقة العازلة" أو "الحزام الأمني" داخل حدود القطاع، والذي بات من الواضح أنه يندرج في إطار ترتيبات إسرائيل لما بات يُعرف بـ"اليوم التالي" في قطاع غزة.
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتحديداً مع بدء "المناورة البرية" في نهاية تشرين الأول 2023، حدّد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أهداف إسرائيل من الحرب على النحو التالي: 1) القضاء على حركة حماس؛ 2) إعادة الأسرى الإسرائيليين؛ 3) نزع سلاح قطاع غزة وسيطرة أمنية- عسكرية على القطاع بعد الحرب. وبصرف النظر عن واقعية هذه الأهداف، وما أُثير حولها من نقاش إسرائيلي داخلي تتصاعد منسوب حدّته مع استمرار تعثُّر الجيش في إنجازها، يُشير الهدف المتمثل بالحفاظ على سيطرة أمنية- عسكرية إلى أن وجهة إسرائيل المستقبلية (حتى بعد انتهاء الحرب) ربّما لن تشمل وقفاً شاملاً للعمل العسكري، على غرار ما حدث في أعقاب الحروب وجولات القتال السابقة على القطاع استناداً لاستراتيجية "الهدوء مقابل الهدوء"، وهي الاستراتيجية التي لن تعود لها إسرائيل- على الأقل وفقاً لتأكيدات المستويين السياسي، والأمني- العسكري في إسرائيل منذ هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر العام الماضي.
في مساهمة حول الوجهة المستقبلية في الحرب، والتي حاولت الوقوف على معاني ودلالات الإعلان عن الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، ذكرنا أنه بات واضحاً أن أحد أهداف إسرائيل من هذا الإعلان هو تحويل قطاع غزة إلى منطقة حرب دائمة (وإن كانت هذه الحالة تصف أكثر فترة التدخل العسكري بشكله الحالي). إن هذه الحالة تتطلّب، بالإضافة إلى شروط تنفيذ هدف السيطرة الأمنية وحرية العمل العسكري في القطاع مستقبلاً والتي أكّد عليها، تقريباً، كافة أعضاء المستويين السياسي، والأمني- العسكري الإسرائيليين في أكثر من مناسبة، السعي للسيطرة على جزء من مساحة قطاع غزة وتحويله إلى "منطقة عازلة" أو "حزام أمني" في إطار مساعي تحقيق هدف حرية السيطرة الأمنية- العسكرية في "اليوم التالي" للحرب.
بين "الحزام الأمني" في جنوب لبنان و"الحزام الأمني" في قطاع غزة
إن لجوء إسرائيل إلى إنشاء "حزام أمني" أو "منطقة عازلة" لا يُعد سابقة في تاريخها الطويل من الحروب، فقد سبق أن لجأت إلى إقامة مثل هذا "الحزام" في العام 1985 في الأراضي اللبنانية بعد حرب لبنان الأولى التي سعت من خلالها إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية وإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982، فقد أعاد الجيش الإسرائيلي انتشاره في هذه المنطقة التي شكّلت حينها ما يُقارب الـ 10% من مساحة لبنان أُطلق عليها لاحقاً تسمية "الحزام الأمني" بعد الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية التي سيطر عليها خلال الحرب، وذلك بهدف إقامة "منطقة عازلة" تفصل بين المستوطنات الإسرائيلية في الجبهة الشمالية وبين فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية (وتحديداً الإسلامية) التي بدأت بالتشكّل خلال وفي أعقاب الحرب. خلال تواجد الجيش الإسرائيلي في هذه المنطقة، احتفظ بعدد من المواقع العسكرية بالإضافة إلى دعم وتسليح بعض الميليشيات المحلية (جيش لبنان الجنوبي) التي أوكلت إليها مهام الإدارة المدنية لسكان تلك المنطقة الذين قُدّر عددهم بقرابة 150 ألفاً موزعين على 67 قرية وبلدة. بعيداً عن تاريخ السيطرة الإسرائيلية على هذه المنطقة، وعلى العكس من أهداف إسرائيل من إقامة هذا "الحزام"؛ فقد تحول وجود الجيش في هذه المنطقة على مدار قرابة 18 عاماً (حتى الانسحاب) إلى منطقة استهداف من قِبَل المقاومة اللبنانية (حزب الله) وأدّى ذلك إلى مقتل ما يُقارب 559 جندياً إسرائيلياً (أي ما يُعادل خمسة أضعاف قتلى الجيش خلال الحرب)، وهو ما دفع لاحقاً إلى الخروج من هذه المنطقة تحت ضربات المقاومة اللبنانية، وعلى وقع الخسائر. هذه الخسائر، دفعت بني غانتس (خلال شغله منصب وزير الدفاع في العام 2020) إلى قبول توصية رئيس هيئة أركان الجيش حينها أفيف كوخافي الاعتراف بهذه الفترة كواحدة من حروب إسرائيل.
على غرار هذه التجربة، تسعى إسرائيل منذ بداية الحرب على غزة إلى إقامة "منطقة عازلة" داخل حدود القطاع على غرار "الحزام الأمني" في جنوب لبنان، أو للدقّة، "نموذج مطوّر" عنه. من ناحية، وعلى عكس نموذج "الحزام الأمني" في لبنان، بات واضحاً أن إسرائيل تسعى إلى إفراغ هذه المنطقة- "الحزام الأمني" الذي تنوي إقامته داخل حدود القطاع- من الوجود الفلسطيني وهذا ما يُفسّر ربّما عمليات التدمير الممنهج للبنية التحتية المدنية وتفجير المنازل بشكلٍ شبه كامل في هذه المنطقة منذ بداية "المناورة البرية" لمنع عودة السكّان الفلسطينيين إلى منازلهم، هذا الأمر يتعزّز مع غياب وجود جماعات محلية قد تبدي تعاوناً مع إسرائيل على غرار جيش لبنان الجنوبي. من ناحية ثانية، تتعزّز "حاجة" إسرائيل للسيطرة على هذه المنطقة وإقامة "منطقة عازلة" مع انهيار "التصور" في إسرائيل عن قطاع غزة وفصائل المقاومة الفلسطينية فيها. من ناحية ثالثة، يُشكّل الفشل الذريع في السابع من أكتوبر والذي كان أحد أوجهه اعتماد الجيش والأجهزة الأمنية المُفرط على تقنيات المراقبة والتجسّس الدفاعية الإسرائيلية المزروعة على طول الحدود مع القطاع (الجدار العازل) ذريعة إضافية لإعادة إنتاج ظروف عسكرية وأمنية جديدة في الحدود مع القطاع تضمن لإسرائيل مسألتين على المديين المنظور والبعيد الاستراتيجي: 1) إن وجود قواعد للجيش الإسرائيلي (بما في ذلك احتمالية وجود مستوطنات كاستجابة لدعوات اليمين الإسرائيلي) يأتي في إطار الإجراءات "الدفاعية والوقائية" في المستقبل أمام أية هجمات محتملة تُشبه هجوم طوفان الأقصى؛ 2) تهيئة الظروف لحرية عمل أمني- عسكري في القطاع من خلال اعتماد "المنطقة العازلة" أو "الحزام الأمني" وقواعد الجيش فيها كنقطة انطلاق لتنفيذ عمليات "إغارة " أو عمليات عسكرية "دقيقة" داخل القطاع في محاول لمنع فصائل المقاومة من إعادة بناء قدراتها العسكرية، أو تنفيذ عمليات اغتيال أو ما يُعرف إسرائيلياً بعمليات "الإحباط المُركّز" التي لن تتوقّف لقادة الجهازين السياسي والعسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية.
معارضة دولية وأمن مفقود؟
إن المساعي الإسرائيلية التي يُمكن وصفها بـ "الجادّة" بخصوص إنشاء "حزام أمني" في إطار مساعي تشكيل "المنطقة العازلة" قوبلت حتى اللحظة بمعارضة دولية، وتحديداً من قِبَل الولايات المتحدة. وعلاوةً عن أن هذا الأمر سيؤدّي إلى تقليص مساحة القطاع الضيّق أصلاً، فمن شأنه المساس بمساعي الولايات المتحدة الاحتفاظ بدورها كـ "وسيط" في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والترويج لرغبتها بضرورة وجود سيطرة فلسطينية على قطاع غزة والضفة الغربية كوحدة جغرافية واحدة (من الناحية الإعلامية على الأقل) تُشرف عليها "سلطة فلسطينية مُتجدّدة" ضمن تصوّر حلّ الدولتين (الذي لم يُغادر المستوى النظري)، وهذا من ناحية. من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن "التصوّر المُستحدث" في إسرائيل الذي بُني على عُجالة في أعقاب الحرب، والذي تأتي خطوة إقامة "الحزام الأمني" كمركّب من مركّباته، في إطار خلق حالة من حرية العمل الأمني- العسكري الإسرائيلي مستقبلاً في القطاع، يبدو أن المجريات الميدانية (حتى اللحظة)، بما فيها تمكُن فصائل المقاومة من الصمود والقتال على مدار 4 أشهر من الحرب تُشير إلى أن هذه المنطقة من الممكن أن تحول الجيش الإسرائيلي، وعلى عكس الرغبة الإسرائيلية، إلى صيد ثمين وهدف لضربات المقاومة على غرار نموذج "الحزام الأمني" في لبنان، بل وأكثر، وهو الأمر الذي من الممكن أن يُحوّل هذه السيطرة من "فرصة" إلى "أزمة" ستكون إسرائيل مُجبرة على التعامل معها في المستقبل على المستويين السياسي والأمني- العسكري.
ختاماً، على الرغم من أن الرغبة الإسرائيلية بالاحتفاظ بسيطرة أمنية- عسكرية على قطاع غزة في أعقاب الحرب تعتريها الكثير من المعيقات، الذاتية والموضوعية، ناهيك عن الاعتبارات الدولية؛ فإن هذا الأمر مرهون بالكثير من العوامل والمتغيرات. وكما أشرنا في مساهمات سابقة، فإن مساعي إسرائيل لاستنساخ نموذج أمني- عسكري في قطاع غزة شبيه بواقع الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية، ورغم أن هذا المسعى يصطدم بمعيقات جمّة تجعل منه غير قابل للتحقّق (على الأقل في المدى المنظور ووفقاً لمعطيات الميدان الحالية)، فإنه سيناريو لا يُمكن استبعاده مع استمرار التغاضي في إسرائيل عن جوهر القضية الفلسطينية، واستمرار سيطرة "التصور" الأمني- العسكري القاضي باستمرار التعامل مع المسألة الفلسطينية من منظور استعماري استعلائي، ما يدفعها إلى إعادة تشكيل المشهد وفقاً للاعتبارات الأمنية- العسكرية خاصة مع استمرار غياب "التصور" لما بات يُعرف بـ "اليوم التالي" للحرب، لكن كل ذلك لن يضمن لإسرائيل في نهاية المطاف "استقراراً أمنياً" وهو ما ثبت في العديد من التجارب السابقة (ليس أقلّها تجربة "الحزام الأمني" الذي أنشأته إسرائيل في جنوب لبنان قبل الانسحاب).