في 31 مارس 2025، أصدرت محكمة الجنح في باريس حكماࣧ قضى بإدانة زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان، بالسجن أربع سنوات (بينها سنتان نافذتان تحت المراقبة الإلكترونية) وبدفع غرامة مالية، إضافة إلى عقوبة المنع من الترشح لمدّة خمس سنوات مع تنفيذ فوري. وقد أُدينت لوبان على خلفية تورّطها في نظام منسّق لتحويل أموال البرلمان الأوروبي إلى تمويل غير مشروع لحزبها، عبر توظيف مساعدين برلمانيين وهميين خلال أكثر من عقد من الزمن، في عملية وُصفَت بأنها اختلاس منظم تجاوزت قيمته 4,1 ملايين يورو. وتأتي هذه الإدانة بينما كانت لوبان تتصدر نوايا التصويت للانتخابات الرئاسية لعام 2027، بنسبة تراوحت بين 34% و37%، وفقاࣧ لآخر استطلاعات الرأي، ما جعلها الأوفر حظاࣧ للوصول إلى الدور الثاني، وربما قصر الإليزيه.
وفي أعقاب الحكم، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون في 2 أبريل 2025 إلى احترام استقلالية القضاء، مؤكّداࣧ أن العدالة ليست أداة سياسية بل إحدى ركائز الديمقراطية. من جانبه، عبّر وزير العدل جيرالد دارمانان عن دعمه المطلق للقضاة، وندّد بالتهديدات الموجهة ضدهم، معتبراً إيّاها تهديداࣧ خطيراࣧ لسلطة القضاء في دولة القانون. رغم ذلك سارعت لوبان إلى إدانة الحكم، معتبرة إياه تصفية سياسية ممنهجة تهدف إلى منعها من الترشح مجدداࣧ. وتتجاوز هذه الإدانة في فرنسا بُعدها القضائي لتطرح سؤالاً مقلقاࣧ حول حدود تدخل القانون في تحديد ملامح المستقبل السياسي. فهل فرنسا أمام انتصار لدولة القانون أم أمام صدام شرعيات (الشرعية القضائية في مواجهة الشرعية الانتخابية) يُهدّد توازن الديمقراطية الفرنسية؟
أبعاد رئيسية
تكشف هذه الإدانة عن أبعاد متعددة تتقاطع فيها العوامل القانونية مع حدود المسؤولية السياسية:
1- تأكيد هيبة دولة القانون واستقلال القضاء الفرنسي: يمثل الحكم بحق مارين لوبان لحظة حاسمة في مسار تأكيد سلطة القضاء الفرنسي واستقلاله عن الضغوط السياسية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بشخصية مركزية مثل زعيمة اليمين المتطرف. فرغم خطابات لوبان حول العدالة المسيّسة، فإن المسار القضائي اتسم بدقّة إجرائية امتدت على أكثر من عقد من الزمن، شمل تحقيقات معمقة، استماعاً للشهادات، وتحليلاً للوثائق المالية والمحاسبية للبرلمان الأوروبي. الحكم لم يُصدر بناءً على ضغط سياسي أو ضغط رأي عام، بل طبق نصوصاً قانونية منصوصاً عليها منذ العام 2016، على رأسها قانون "سابين 2" (Sapin 2)، الذي جعل الإدانة بعد الإخلال بالنزاهة مقرونة تلقائياً بعدم الأهلية للترشح. وقد أكدت المحكمة في حيثياتها أن "مبدأ المساواة أمام القانون" يعلو حتى على الوزن السياسي للمدعى عليه.
2- الرمزية القانونية للاستبعاد السياسي للوبان: وُصفت عقوبة عدم الأهلية التي فُرضت على لوبان بـالإعدام السياسي المؤقت، لما تحمله من طابع حاسم تجاه مستقبلها الانتخابي. فالتنفيذ الفوري للعقوبة، على عكس ما جرى في قضايا مشابهة مثل فرانسوا فيون أو ألان جوبيه، يعني استبعادها الفوري من الترشح لأي منصب، بما في ذلك رئاسيات 2027. وبذلك، تتجاوز هذه العقوبة بعدها الفردي، لتتحول إلى رسالة قانونية ومؤسساتية تفيد بأن موقع الزعامة أو الشعبية لا يبرر الحصانة. هذه النقلة النوعية في تطبيق العقوبات على شخصيات نافذة تشير إلى رغبة المشرّع والقضاء الفرنسي في ردع أي توظيف سياسي لأموال الدولة أو الاتحاد الأوروبي، ولو باسم مشروعية انتخابية أو قاعدة جماهيرية.
3- تأكيد القضاء على الطابع المؤسسي للحكم: اتهمت لوبان القضاء بالانتقام السياسي عبر وصفه بـ"الحكومة القضائية"، إلا أن السياق القضائي يعكس طابعاً مؤسساتياً صارماً للحكم. فالقضاة لم يبنوا قرارهم على تصريحات إعلامية أو معارك سياسية، بل على رصد دقيق لممارسات ممنهجة داخل حزب التجمع الوطني منذ العام 2004، حين بدأت عمليات توظيف وهمية لمساعدين برلمانيين في البرلمان الأوروبي، كانوا في الحقيقة يعملون لصالح الحزب. ولم تُعاقب المحكمة على الأفكار أو الانتماء السياسي، بل على خرق واضح للشفافية المالية وتلاعب بالمال العام. وذكرت القاضية بحد ذاتها أن المسألة لا تتعلق بممارسة سياسية، بل بانتهاك للقانون عن سبق إصرار، تم بإشراف مباشر من لوبان ضمن منظومة ممنهجة.
4- ترجمة عملية لقوانين إصلاح الحياة السياسية في فرنسا: يجسد الحكم بحق لوبان أولى التطبيقات الرمزية الكبرى لقوانين الإصلاح السياسي التي سُنّت خلال العقد الأخير، أبرزها قانون "سابين 2" وقانون "الثقة في الحياة السياسية" عام 2017. هذه النصوص لم تأت من فراغ، بل وُلدت من صدمة فضائح سابقة، مثل قضية جيروم كاهوزاك، والتي دفعت إلى إدراج عدم الأهلية تلقائياً في كل جريمة تمس النزاهة. وقد ساهمت تلك الإصلاحات في إعادة تعريف العلاقة بين السياسيين والعدالة، بحيث أصبح السياسي مواطناً مسؤولاً يخضع للمحاسبة كغيره، بدلاً من التمتع بمنطق الحصانة الضمنية أو العرف البرلماني.
5- ربط القضاء الحكم بمحاولة معالجة ضعف الثقة في الديمقراطية: لا تقف أبعاد الحكم عند التطبيق الحرفي للنصوص القانونية، بل تتجاوزها إلى مستوى القيم السياسية والأخلاقية في الديمقراطية الفرنسية. فحين يدان زعيم سياسي بارز بتهمة اختلاس المال العام، ويُمنع من الترشح، فإن الرسالة تتجاوز شخصه، لتطال صورة النخبة السياسية بأكملها. فالمحكمة قالت بوضوح إن المسّ بنزاهة الحياة العامة يُضعف ثقة المواطنين بالديمقراطية. وأكدت أن القانون يجب أن يكون واحداً للجميع، ومن هنا تأتي أهمية معاقبة من يشغلون مناصب عليا بنفس أدوات الردع التي تُستخدم بحق المواطنين العاديين، ما يضفي طابعاً رمزياً مضاعفاً على الإدانة.
6- ردع منهجي لأي تكرار للانتهاكات: أكدت المحكمة في حيثياتها أن العقوبة المفروضة على لوبان لا تهدف إلى الانتقام، بل إلى الردع العام والخاص، بعدما تبيّن أن المتهمة لم تظهر أي شعور بالمسؤولية أو اعتراف بالخطأ. فالاستمرار في إنكار الحقائق، والتشكيك في نزاهة القضاء، بل والترويج لرواية المؤامرة، كلّها مؤشرات اعتبرها القضاة دليلاً على إمكانية تكرار السلوك ذاته في حال غياب العقوبة الرادعة. كما أن إدانة عدد كبير من كوادر الحزب بنفس التهم يوضح أن الممارسات لم تكن فردية أو عرضية، بل ناتجة عن هيكل حزبي هرمي متماسك، استخدم المال العام كأداة لتمويل العمل السياسي خارج القنوات القانونية.
تداعيات ممتدة
سرعان ما ستتجاوز آثار هذا الحكم أروقة المحاكم لتتردد أصداؤها في عمق الحياة السياسية الفرنسية:
1- إحداث فراغ مفاجئ في المعادلة الرئاسية 2027: جاء الحكم ضد مارين لوبان بمثابة صدمة انتخابية مبكرة، إذ إنها كانت تتصدر استطلاعات الرأي للانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يجعل استبعادها من السباق يعيد خلط أوراق اللعبة السياسية بشكل جذري. هذا الفراغ يفتح المجال أمام صعود أسماء جديدة داخل اليمين المتطرف كجوردان بارديلا، لكنه في الوقت ذاته يضع الناخب اليميني أمام مفترق طرق، في ظل غياب شخصية ذات كاريزما موازية للوبان. كما كان لافتاࣧ أن سياسيين من مختلف الأطياف، بمن فيهم خصومها كجان لوك ميلانشون، أعربوا عن قلقهم من مصادرة الخيار الانتخابي عبر القضاء، وهو ما قد يُفسر انتخابياً على أنه تقويض للتمثيل الديمقراطي الحر. ووسط تراجع الثقة بالمؤسسات، يتزايد خطر فقدان جزء من الجمهور الانتخابي لشغفه بالمشاركة السياسية، ما قد يُهدد بشرعية الاقتراع نفسه.
2- تزايد التركيز على خطاب "العدالة المسيّسة" داخل اليمين المتطرف: استثمر حزب التجمع الوطني الحكم القضائي لإعادة تفعيل سردية قديمة تقوم على تصوير الحزب كضحية دائمة لـنظام يستخدم مؤسسات الدولة لتصفية الخصوم. ولم تكتف مارين لوبان بانتقاد الحكم، بل وصفته على الهواء مباشرة بأنه قرار سياسي لمنعها من الوصول إلى الإليزيه. وقد ترافق هذا الخطاب مع حملة واسعة على وسائل التواصل، أبرزها هاشتاج "أنا أدعم مارين"، الذي سعى إلى تأطير الحكم على أنه انحراف عن المسار الديمقراطي. هذه الاستراتيجية تعزز شعور الضحية لدى أنصار الحزب، لكنها في الوقت نفسه تُساهم في تعميق الاستقطاب بين ما يُسمّى "فرنسا الشرعية" و"فرنسا الواقعية"، ما قد يزيد من هشاشة النظام السياسي أمام موجات التشكيك الشعبي.
3- تضامن دولي من اليمين الشعبوي مع لوبان: أثارت إدانة مارين لوبان ردود فعل واسعة من قيادات اليمين المتطرف عبر أوروبا والعالم، فبادر كل من فيكتور أوربان، ماتيو سالفيني، وجورجيا ميلوني إلى الدفاع عنها، معتبرين الحكم محاولة لتكميم إرادة الشعوب. كما شبّه دونالد ترامب ما حصل في فرنسا بما وصفه بالاستهداف القضائي في الولايات المتحدة الذي كان يتعرض له، مضيفاً أن لوبان كانت الأوفر حظاً وبالتالي استُبعدت بـوسائل غير ديمقراطية. وقد استغل الكرملين الحادثة لتوجيه انتقادات للنظام الديمقراطي الغربي وتناقضاته، في حين ربط إيلون ماسك بين إقصاء لوبان وموجة قمع قضائي عالمية ضد الشخصيات المحافظة. هذا الزخم من التضامن يكشف عن تموضع لوبان كمحور رمزي في شبكة يمينية دولية تستفيد من كل صدام مع المؤسسة القضائية لتعزيز سرديتها الشعبوية.
4- اختبار قدرات جوردان بارديلا كبديل سياسي للوبان: بات الشاب جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني، في الواجهة كخليفة محتمل عن مارين لوبان على الترشح للانتخابات الرئاسية، ما يضعه أمام اختبار مزدوج: الحفاظ على وحدة الحزب من جهة، وتعبئة القاعدة الشعبية التي كانت مرتبطة بشخص لوبان من جهة أخرى. ورغم صعود نجمه إعلامياً، لا يزال يُنظر إليه على أنه "ظل مارين"، لا منافس مستقل في حد ذاته. كما أن غيابه عن الصفوف الأولى خلال المعارك القانونية، وتردده في الإعلان المباشر عن ترشحه، يعكس هشاشة وضعه داخل البنية الهرمية للتجمع الوطني.
ومع تصاعد الأصوات المؤيدة لتسليم القيادة مؤقتاً إلى شخصية أكثر تمرّساً كجان فيليب تانغي أو سيباستيان شينو، يبدو أن الحزب قد يواجه خطر انقسام داخلي إذا لم تُحسم المسألة بوضوح.
5- إعادة النظر في العلاقة بين القانون والشرعية الانتخابية: فتح هذا الحكم الباب لنقاش فكري ودستوري حول توازن السلطات، وبخاصة العلاقة بين القضاء والشرعية السياسية المستمدة من الاقتراع. كثير من المحللين اعتبروا أن تنفيذ الحكم بشكل فوري، رغم وجود حق الاستئناف، يمثل سابقة قضائية تعيد ترتيب أولويات النظام الديمقراطي الفرنسي، حيث أصبحت النزاهة معياراً موازياً للشرعية الشعبية. في المقابل، أثار هذا الطرح انتقادات واسعة من أطياف مختلفة، معتبرين أن مصير الترشح لرئاسة الجمهورية لا يجب أن يُحسم في محكمة، بل في صناديق الاقتراع، ما دامت الإدانة ليست نهائية. هذا التوتر بين "الإرادة الشعبية" و"المشروعية الأخلاقية" سيُشكل محوراً رئيسياً للنقاش العام والمؤسساتي في الأشهر المقبلة، خاصة في ظل تآكل ثقة المواطنين بالمؤسسات.
6- احتمالية تعزيز ثقة بعض فئات المجتمع في الديمقراطية: رغم الغضب الشعبي بين أنصار لوبان، يرى مراقبون أن هذا الحكم يشكل خطوة مهمة في مسار تعزيز الثقة بدولة القانون، خصوصاً لدى فئات تعتبر أن النخبة السياسية أفلتت طويلاً من المحاسبة. فإدانة شخصية بحجم مارين لوبان، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الرئاسة، تُعيد التأكيد على أن القانون فوق الجميع، وأن مساحات التلاعب بالمال العام لم تعد مضمونة كما في السابق. وقد اعتبر البعض أن هذه الخطوة ترمز إلى ولادة جمهورية جديدة فيما يخص أخلاقيات العمل العام، حيث لم تعد الحصانة الرمزية كافية لحماية أي فاعل من المحاسبة الصارمة. مثل هذه الأحكام قد تُعزز الانضباط في الطبقة السياسية، وتُحفّز المواطنين على استعادة ثقتهم بفاعلية المؤسسات، ما دامت تُثبت استقلالها عن السلطة والولاءات الحزبية.
7- مواصلة مراهنة لوبان على إجراءات الاستئناف على الحكم: رغم إعلان مارين لوبان نيتها استئناف الحكم، إلا أن تطبيق العقوبة الفوري يجعل فرص عودتها إلى السباق الرئاسي محدودة زمنياً وقانونياً. فحتى لو حكمت محكمة الاستئناف لصالحها، لن يُنظر في القضية إلا في منتصف 2026 على الأرجح، ما يجعل أي عودة محتملة محفوفة بالمخاطر التنظيمية والسياسية. أما في حال تأييد الإدانة، فإن اللجوء إلى محكمة النقض أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سيكون بطيئاً وغير مضمون. هذه القيود الزمنية تعني أن مصير رئاسيات 2027 قد يُحسم قضائياً قبل أن يُحسم انتخابياً، وهو أمر غير مسبوق في الحياة السياسية الفرنسية. ومع تزايد التكهنات حول تحركات قانونية استثنائية لإعادة النظر في التنفيذ الفوري، تبقى الكلمة الأخيرة في يد القضاء، الذي أصبح فاعلاً أساسياً في صياغة مستقبل اللعبة الديمقراطية.
خلاصة القول، تشكل إدانة مارين لوبان لحظة فارقة في الحياة السياسية الفرنسية، إذ تعكس من جهة صرامة دولة القانون، ومن جهة أخرى تُربك مبدأ التمثيل الشعبي. وبينما يُنظر إلى الحكم كخطوة نحو تطهير الحياة العامة، فإنه يُثير جدلاً واسعاً حول حدود تدخل القضاء في اللعبة الديمقراطية. ولن تقتصر تداعيات هذه على الانتخابات المقبلة، بل قد تُعيد تشكيل معالم اليمين المتطرف وتوازن القوى داخل المشهد الحزبي الفرنسي برمّته. كما أن صداها الدولي يُعزز من مركزية فرنسا في معركة أوروبية أوسع حول النزاهة والمؤسسات.