منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، صعّدت إسرائيل من ممارساتها القمعية لتتجاوز أشكال السيطرة الأمنية الكلاسيكية، منتقلة إلى نمط متكامل من الاستعراض البصري والإذلال الجماعي الممنهج. هذا التصعيد لا يمثّل انحرافاً عارضاً عن السياسة الإسرائيلية، وإنما يعكس تكثيفاً مقصوداً لبنية سلطوية قائمة، بحيث تصبح حالة الاستثناء هي القاعدة، ويغدو العنف الرمزي والمادي أداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية. في هذا السياق، يتحول الجسد الفلسطيني إلى ساحة للعقاب والاستعراض، يوظَّف فيها العنف العلني كآلية لإعادة تشكيل إدراك الفلسطيني باعتباره كائناً مستباحاً. تستعرض هذه الدراسة، من خلال تحليل نظري لحالات موثقة، كيف تُستخدم هذه الممارسات لتثبيت منطق السيادة من خلال الصورة، ولترسيخ نمط استعماري يدمج بين الانضباط الجسدي والإخضاع الرمزي.
أثناء الاعتقال وما قبل السجن: الاستعمار البصري للجسد الفلسطيني؟
تعددت المشاهد التي وثّقتها المصادر الحقوقية والصحافية الفلسطينية والعالمية بشأن الانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها المعتقلون الفلسطينيون بعد 7 أكتوبر، والتي أظهرت ممارسة العنف والتنكيل على أجساد المعتقلين بطريقة مكثفة تكاد تكون غير مسبوقة. لقد انتشرت هذه المشاهد بسرعة كبيرة، وأصبحت في متناول اليد عبر مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن أسباب توثيقها، وحيثيات تسريبها إلى الجمهور الفلسطيني.
برزت في الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر 2023، مجموعة من الفيديوهات التي توثق العنف والتنكيل بحق الفلسطينيين خلال توقيفهم واعتقالهم، ومن أبرزها كانت الحادثة التي جرت في قرية وادي السيق في الضفة الغربية، حيث اعتدى جنود ومستوطنون إسرائيليون في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على ثلاثة فلسطينيين جُردوا من ملابسهم بالكامل باستثناء الملابس الداخلية، وتعرضوا للضرب الوحشي، وصُوروا في أوضاع مهينة نُشرت لاحقاً عبر منصات يمينية إسرائيلية على الإنترنت. يظهر الجسد الفلسطيني هنا، في ظل ما يتعرض له من انتهاكات علنية، كمجال خصب لتحليل السلطة الاستعمارية والقمع الرمزي والبصري. لقد شكلت هذه المشاهد عودة إلى "الاستعراض التأديبي"، بحسب فوكو، إذ بات الجسد الفلسطيني العاري والمكبّل والمهان يُعرض أمام عدسة الكاميرا كوسيلة لترهيب الجمهور الفلسطيني وتثبيت هيمنة الاستعمار، بحيث تتجاوز العقوبة هنا مسألة العقاب الفردي، لتتحول إلى رسالة جماعية تُبثّ بصرياً لتكريس سلطة الاستعمار.
وفي قطاع غزة، انتشرت على نطاق واسع صور التقطها جنود إسرائيليون تظهر ما يقارب 100 فلسطيني في بيت لاهيا في كانون الأول/ ديسمبر 2023، وهم في ملابسهم الداخلية، شبه عراة، ومكبلين، وجاثمين على ركبهم ومعصوبي الأعين، تحت تهديد السلاح. ويصبح الفلسطيني، بموجب هذه السياسة "جسداً فائضاً"، يمكن التنكيل به من دون مساءلة أو محاسبة، ضمن سياسة "النيكروبوليتيكس" التي تتحكم بالحياة والموت، إذ تغدو الحياة الفلسطينية خالية من أي قيمة قانونية أو أخلاقية، ومباحة للعنف الاستعماري بلا حدود.
كما استخدم الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين كدروع بشرية في غزة والضفة الغربية بشكل ممنهج، وفقاً لشهادات معتقلين سابقين وجنود إسرائيليين. وعلى الرغم من حظر المحكمة الإسرائيلية العليا هذه الممارسة منذ عام 2005، فإن تقارير لمنظمات حقوقية مثل "كسر الصمت" تؤكد انتشارها بشكل واسع منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأشارت الشهادات إلى أن هذه الأوامر صدرت عن مستويات قيادية في الجيش، واستُخدم خلالها أحياناً مصطلحات مهينة مثل "البعوض" للإشارة إلى عدم أهمية حياة الفلسطينيين. تظهر هنا كيفية استباحة الحياة ضمن "حالة الاستثناء" بمفهوم أغامبين، والتي جاءت لتبرر وتشرعن القمع بحق الفلسطيني في الفضاءين العام والمغلق، فهي تجعل المعتقل الفلسطيني نموذجاً لـ "الحياة العارية" (Bare Life)، إذ يفقد الفلسطينيون في هذه الحالات أي حماية قانونية أو أخلاقية، فيتم التعامل معهم بصفتهم خارج القانون، ويمكن إذلالهم وتعذيبهم من دون عقاب. فكل عمليات التعذيب في الشوارع، وعمليات الاعتقال المصورة، التي تظهر الضرب والاعتداء على المواطنين، وإهانة أفراد الأسرة، أصبحت بمجموعها ممارسات استعمارية تحميها حالة تعليق القانون هذا، بحيث يتحول جسد الضحية إلى أداة لتثبيت الهيمنة من خلال تحويل الألم إلى استعراض بصري كما يصف موتن. إن نشر صور الإذلال يعيد إنتاج الفلسطيني كموضوع لأداء الألم، بهدف ترسيخ الهيمنة، بحيث يتحول جسد الفلسطيني المعتقل إلى نص مرئي يُستهلك إعلامياً، لتعزيز رواية الاستعمار عن القوة والسيطرة المطلقة.
تهدف هذه الممارسات إلى ترسيخ صورة ذهنية عن دونية الفلسطيني، وتعزيز القبول الجمعي للهيمنة عبر تكرار مشاهد الإذلال كـ "عنف رمزي"، فالهدف من تجريد المعتقل من ملابسه ليس فقط السيطرة الجسدية، بل ضرب المكانة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ما يؤدي إلى استبطان الفلسطينيين أنفسهم لدور الضحية وتكريس سيطرة الاستعمار.
إن الأمثلة السابقة هي غيظ من فيض من مجموع المشاهد التي تم نشرها، والتي تظهر استباحة الجسد الفلسطيني والتنكيل به من دون أي رادع، إلاّ إن المشترك بينها جميعها هو تحويل هذه الانتهاكات الى موضوع للمشاهدة، فبدلاً من إخفاء جرائمها، عملت إسرائيل على تحويل هذه الجرائم الى رسائل ردع وترهيب للمجتمع الفلسطيني، الأمر الذي يدعم الادعاء بأن مجموع هذه المشاهد تعبّر عن سياسة استعمارية هادفة وليست أفعالاً عشوائية.
السجن كفضاء بصري استعماري: من قوننة القمع إلى تعميم التعذيب عبر الصورة
تحول السجن الإسرائيلي، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى فضاء استثنائي تعلّق فيه القوانين ويُعاد تشكيل الجسد الفلسطيني ليؤدي وظيفة مزدوجة: أداة للعقاب وأداة للاستعراض البصري؛ فالعنف الممنهج داخل السجون لا يمارَس بمعزل عن النظام الاستعماري الإسرائيلي، بل يكمل مشروع السيطرة الممتد في الحيز العام، من خلال تحويل الحيز المغلق (السجن) إلى مسرح للقمع الرمزي والمادي، تندمج فيه أدوات التشريع، والتصوير، والإذلال الجسدي والنفسي.
تعتبر السجون الاستعمارية مصانع لإنتاج العجز السياسي وتفكيك الذات الجماعية حسب فانون. ومن هذا المنظور، جاءت سلسلة تشريعات أقرها الكنيست الإسرائيلي تحت عنوان "تفعيل حالة الطوارئ في السجون" لتمنح غطاءً قانونياً لانتهاكات لم تعد تمارس كاستثناء، بل كقاعدة علنية، حيث شملت هذه السياسات تقليص الطعام، وتقصير مدة الاستحمام، وإغلاق المخابز، وحرمان الأسرى من التمثيل الاعتقالي والزيارات والعلاج وجميع أشكال التنظيم الذاتي. بهذا، تم تفريغ السجن من كل مقومات الحماية، وتحويله إلى حقل مطلق للهيمنة، وتجسيد لـ"الحالة الاستثنائية" التي تُعلَّق فيها القوانين ويُنتزع فيها السجين من إطار الحماية القانونية ليعاد تشكيله ككائن قابل للضرب والإهانة من دون مساءلة.
لم تقتصر هذه السياسات على الحيز المغلق، بل امتد أثرها البصري إلى الحيز العام، حيث أعيد تقديم جسد الأسير الفلسطيني المحرر كهيكل بشري محفور عليه العذاب، ليتحول إلى "لافتة حية" تبث الرعب. شهادات مثل شهادة ربيع صافي، الذي تعرض للضرب، والتجويع، والصدمات الكهربائية، والإهمال الطبي، وشهد وفاة زميله مصعب هنية في الزنزانة ذاتها، تقدم دليلًا على بشاعة ما يجري، وعلى أن الغاية ليست فقط في العقاب، بل في إنتاج الألم كصورة موجهة إلى المجتمع بأسره.
وتتجلّى تجربة محمد نواف أبو الطويلة، الذي اعتقل في آذار/ مارس 2024، وتعرّض لحروق كيماوية بواسطة "رذاذ مشتعل" يُرجّح أنه حامض النيتريك، في هذا المشهد القمعي العام، حيث بات الجسد هنا يُستهدف ليحمل علامات التعذيب بصرياً، ولتكون هذه العلامات بمثابة تحذير مرئي دائم: صورة جسدية محفورة بالألم، ومشاهد موثقة تحاكي التعذيب وتوزعه على المجتمع الفلسطيني. يصف أبو الطويلة كيف يُدفع الأسرى "كالبغال" بينما تُستخدم الكلاب لترويعهم، وهو وصف يجردهم من كرامتهم وينقل صورة قمعية مفعمة بالدلالات الرمزية.
تتجلى هذه البصريات القمعية أيضاً في تسريبات متكررة من داخل المعتقلات، أو مرافق السجن الأُخرى، مثل البوسطة، إذ أظهر فيديو نشره أفراد من طواقم مصلحة السجون، مجموعة من الأسرى الفلسطينيين في أثناء نقلهم من سجن إلى آخر، مغمضي الأعين، في وضع خاضع وصامت، يُرغمون على الاستماع إلى النشيد "الإسرائيلي" هاتكفا، في مشهد يوحي بخشوع قسري، ويُستخدم فيه الجسد الفلسطيني كوسيط لتفريغ الهوية واستبدالها بهوية استعمارية مفروضة، ضمن طقس رمزي يمزج بين السيطرة النفسية والاستعراض العلني.
وفي سجن عوفر، سربت مصلحة السجون فيديو للأسرى وهم يُرغَمون على الاصطفاف في طوابير قسرية، تكون فيها رؤوسهم منحنية وظهورهم مقوسة حتى تلامس أجساد بعضهم البعض، في مشهد مصمم بعناية لتعزيز مشاعر الإذلال وتفكيك الذات الجماعية، وبث الإهانة والانكسار على مستوى الوعي الجمعي الفلسطيني.
أمّا التقرير المُعدّ بعناية عن سجن أيلون، وبالتحديد في قسم "راكيفِت"، فيظهر كيف تمارَس سياسة العزل بصورة بالغة الوضوح والتطرف، إذ يُحتجز الأسرى في زنازين تحت الأرض، منفصلين تماماً عن العالم الخارجي، وخاضعين لرقابة مستمرة وعمليات تفتيش يومية، بالإضافة إلى إجبارهم على اتخاذ وضعيات جسدية مهينة عند دخول السجّانين. كما يظهر تحويل مصلحة السجون فضاء السجن المغلق والمعتم إلى حيّز استعراضي مضاء تتناثر فيه الصور والرموز الدينية والتلمودية، مثل عبارة "بياحد ننتسح" (معاً ننتصر)، فضلاً عن شعارات انتقامية تهدف إلى زرع الرعب والإحساس بالعزلة لدى الأسير، كأنه في مواجهة فردية مع "الأمة اليهودية" بكاملها. وفي السياق ذاته، يوظف القسم نفسه (راكيفِت) كحيّز بصري يستحضر فيه، عبر صورة كتب عليها "غزة الجديدة"، الدمار والخراب الذي خلفته إسرائيل في قطاع غزة، بهدف تحطيم معنويات الأسير وتيسير إخضاعه والسيطرة عليه. هذه الممارسات، التي تُحوَّل، بتفاصيلها كافة، بما فيها الموجّهة إلى الأسير، إلى مشاهد بصرية تُصمَّم داخل حدود السجن، ثم تُوثَّق وتُسرَّب وتُبث للجمهور، ما يحوّل فعل التعذيب إلى مادة بصرية مقصودة لمخاطبة المجتمع الفلسطيني وتوجيه الرسائل الرادعة إليه.
يتحقق هنا "اقتصاد العقوبة" بمفهوم فوكو، إذ لم يعد السجن مجرد مكان للعزل، بل أداة لتنظيم الأجساد وضبطها وإعادة تشكيلها وفق منطق الطاعة. ومع هذا، فإن الحالة الاستعمارية الإسرائيلية تتجاوز ذلك، إذ توظف الجسد كأداة لإعادة بث العنف نحو الخارج، في عرض مسرحي دائم للقمع، يتكامل مع آليات الضبط في الشارع، والحاجز، والبيت. في هذا السياق، تصبح الوسائط البصرية أحد أعمدة الهيمنة والسيطرة، ويتحول تصوير اقتحام الزنازين، وضرب الأسرى، وتكبيلهم، وإذلالهم، إلى أدوات سيادية تتعمد إشهار الألم.
رسائل على الجسد المحرر!
يتجلى الاستخدام المستمر لأجساد الأسرى الفلسطينيين بعد الإفراج عنهم كامتداد لمنظومة العقاب الاستعماري التي تتجاوز حدود الاعتقال أو التعذيب الجسدي المباشر، نحو توظيف الجسد كأداة رمزية تُستعرض في المجال العام بهدف إنتاج حالة دائمة من الردع. فقد نُشرت عشرات الفيديوهات للأسرى لحظة الإفراج عنهم، والتي يُفترض بها أن تشكل لحظة خلاص، أُعيد فيها تقديم الأسير الفلسطيني في صورة مصممة بعناية؛ جسدٌ هزيل، وملامح منهكة، وشعر ولحية غير مهذبين، وجروح وكدمات وأعراض مرضية واضحة، وهو ما يشكل هيئة إنسانية تُعرض بصرياً أمام الجمهور لتكريس إهانة رمزية الصمود، وإعادة تعريف الأسير باعتباره موضوعاً خاضعاً لا كذات مقاومة.
كما برز هذا التوظيف الرمزي بشكل أوضح في الدفعتين السادسة والسابعة من صفقات تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، حين أجبرت مصلحة السجون الإسرائيلية، الأسرى الفلسطينيين، في الدفعة السابعة، على ارتداء ملابس تحمل العبارة التوراتية "أطارد أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى القضاء عليهم" من سفر المزامير، والتي تستحضر رمزية التحدي والتصميم على سحق العدو من المنظور التوراتي، كما وضعت العبارة ذاتها على أساور تذكارية مُنحت للأسرى المحررين. وفي الدفعة السادسة، طُبعت على ملابس الأسرى عبارة توراتية أُخرى من سفر التثنية "لا ننسى ولا نغفر"، والتي تعمل على إنعاش الذاكرة التاريخية للثأر وعدم نسيان الأذى التاريخي الذي تعرض له بنو إسرائيل. توظَّف هذه النصوص على أجساد الفلسطينيين بطريقة قسرية، ليعاد بذلك تشكيل الجسد الفلسطيني كوسيط رمزي يؤكد الهيمنة الاستعمارية ويربط المواجهة الحالية بسردية توراتية، ليمنح المشروع الاستعماري بعداً أخلاقياً وتاريخياً مزعوماً.
وعليه، فإن الجسد في هذا السياق لا يعدُّ مجرد ضحية للعنف الاستعماري، بل يعاد إنتاجه كمسرح استعراضي مصمم بعناية ليُبث عبر وسائل الإعلام، ويتم عرضه في الفضاء العام لتحقيق هدفين متداخلين: أولاً، إذلال الأسير وتجريده من مكانته الرمزية ومركزيته البطولية في الوعي الجماعي الفلسطيني، وثانياً، بث رسالة ردعية للمجتمع الفلسطيني مفادها أن السيطرة الاستعمارية لا تنتهي بالإفراج، وإنما تتجدد وتستمر من خلال الحضور البصري والسياسي للجسد خارج حدود المعتقل. هكذا يتحول جسد الأسير إلى واجهة استعراضية للاستعمار الاستيطاني، لا باعتباره كياناً بشرياً حراً، بل بصفته وسيطاً دعائياً يعيد إنتاج خطاب التفوق والسيطرة الاستعمارية.
من الصورة إلى السيطرة: "تطبيع العنف عبر الاستهلاك البصري الممنهج"
إن عرض العنف عبر وسائل الإعلام، وخصوصاً عندما يكون ممنهجاً ومن إنتاج الدولة، قد يتحول إلى وسيلة للسيطرة الرمزية. إن تكرار ذلك يخلق روتيناً استهلاكياً لهذه المشاهد، لدرجة أن تصبح الصورة أداة لتطبيع العنف وقبوله. إن هذه المقاربة تنطبق على مشاهد التعذيب والقمع البصرية التي تنتجها مصلحة السجون الإسرائيلية، والتي تسعى من خلالها لتطويع "هذه الصورة"، لا للفضح بل لإعادة إنتاج الهيمنة وإخضاع المتلقي "السجين والمجتمع برمته". وبذا تصبح الصورة جزءاً من بنية بصرية تساهم في تطبيع القتل والقمع، وتخدير الحس والضمير، وتحويل الفلسطيني الضحية إلى "مشهد" روتيني لا يستدعي التعاطف والاحتجاج من أجله وإنما إعادة إنتاج الخوف، وبالتالي السعي لتحقيق الهيمنة والإخضاع، ليس للسجين الفلسطيني فحسب، بل لمجتمعه أيضاً.
فمشاهد وصور اقتحامات زنازين السجون، وتكبيل الأسرى وضربهم بشكل مبرح، والاعتداء الجنسي عليهم وإذلالهم، وغير ذلك من مختلف الصور والمشاهد البصرية وغيرها التي يتم إنتاجها بشكل ممنهج على يد "الدولة" إنما تسعى لاستخدامها كمنتج إعلامي يتم استهلاكه بشكل روتيني من جانب الضحية، بغرض اعتياده والتسليم به وقبوله لإعادة إنتاج الخوف وهكذا.
الصورة كسلاح مزدوج، ولكن!
تمثل هذه الممارسات الاستعراضية للسلطة سلاحاً مزدوجاً: فمن جهة، تحقق لإسرائيل هيمنة رمزية عبر الصورة، وترسل رسائل عن القوة المطلقة والقدرة على إذلال العدو. ومن جهة أُخرى، فإن الصورة ذاتها، عندما يتم كشف سياقها الاستعماري واللاإنساني، قد تنقلب ضد مَن يستخدمها، فتستدعي إدانات دولية وإعادة تقييم أخلاقي من جانب الرأي العام العالمي. إلاّ إن إسرائيل اختارت عدم الاكتراث للبعد الدولي والأخلاقي لصالح ترسيخ نظامها القائم على السيطرة والهيمنة، غير آبهة بالأثمان التي من الممكن دفعها. فقد مَركَزَت الهيمنة الاستعمارية، وهَمّشَت كل ما عداها.
تؤكد الأحداث التي أعقبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أن العنف الاستعراضي ضد الفلسطينيين ليس انحرافاً أو استثناء، بل هو جزء جوهري من بنية استعمارية تعمل على تحويل جسد الفلسطيني إلى أداة للهيمنة. وكما أظهرت التحليلات النظرية والميدانية، فإن هذه الممارسات ليست مجرد انتهاكات معزولة، بل استراتيجية استعمار بصري ممنهج تهدف إلى تعزيز نظام الهيمنة والسيطرة والسيادة المطلقة.
خلاصة واستنتاجات
في ضوء هذا الاستعراض الموجز والمكثف، يمكن الخلوص إلى عدد من الاستنتاجات والتوصيات على أكثر من مستوى وصعيد، تهمّ مجموعة من الفاعلين في حقول متعددة: فعلى المستوى الحقوقي والبحثي، من الضروري العمل على تطوير أرشيف رقمي يوثّق القمع البصري المرتبط بالاعتقال وظروفه، سواء داخل السجون أو خارجها، والعمل المستمر على تحليله من منظور حقوقي ونقدي، يهدف إلى الاحتجاج والمساءلة، لا إلى التطبيع. وعلى المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، تبرز أهمية تصميم حملات مضادة للتطبيع البصري، تعمل على تفكيك خطاب الهيمنة والسيطرة الكامن وراء هذا النوع من التمثيل، وإعادة الاعتبار إلى خطاب مقاوم للهيمنة البصرية. ويشمل ذلك تطوير سردية تفضح توظيف "الصورة" والمشهد البصري كوسيلة إخضاع، وتُعيد الاعتبار إلى الرمزية النضالية للجسد الفلسطيني، وللأسرى على وجه الخصوص، من خلال تكريمهم واحتضانهم. أمّا على المستوى الإعلامي ومؤسساته، فثمة ضرورة لأن تحرص المؤسسات الإعلامية ومختلف المنصات، عند نشر المشاهد البصرية للقمع، سواء تلك التي توثّق لحظات الاعتقال أو المسربة من داخل السجون، على أن تُرفَق هذه المواد بقراءة وتحليل نقدي وحقوقي. ويُفترض أن تسعى هذه المؤسسات إلى إنتاج محتوى إعلامي يرسّخ كرامة الأسرى ونضالاتهم، ويُساهم في تقويض العنف الرمزي الممنهج الذي تمارسه السلطة الاستعمارية الإسرائيلية.