وانت تتبصر بالحركة الثقافية والفكرية ودور النشر والعناوين والاسماء الكبيرة في الادب والشعر والفنون الاخرى في لبنان، لا تملك سوى ان تصاب بالإعجاب بهذا البلد الذي يملك كل هذا الثراء سواء من ابنائه الذين واصلوا الحياة على ارضهم او اولئك الذين اثروا الهجرة لسبب او لأخر.
ما في لبنان مثله بالعراق ومصر وسوريا والجزائر وبقية الدول العربية، حيث المكاتب تزدحم بمؤلفات قديمة وحديثة لكبار الكتاب العرب ولمختلف المعارف.
هذه البلدان التي تمتد من المحيط الى الخليج، لم تستطع ان تواكب الحضارة العالمية، بل انكفأت على فشلها من عام لعام، فيما تزداد معانات شعوبهم وبدلا من السكن في مدن عامرة تضاهي الدول المتقدمة يسكن ابناؤها في مناطق مزدحمة ويعيش الاغلب في فاقة وهوان، بل الكثير منهم يسكنون العشوائيات والمقابر مع عظام الموتى.
المؤلفات التي تتحدث عن فشل التجربة العربية في مواجهة التحديات كثيرة، ومعظمها ينصب على (التدخلات الخارجية) وصناعة الحكام العملاء وتسليطهم على رؤوس الناس، وغريب ما قرأت ان الثروات العربية وراء فساد ابنائها!!
ان الارث الثقافي من آداب وفنون وخطب عن (انتكاسات العرب) كثير وبات جزء من عزاء الامة وهم يرددون هزائمهم وخذلانهم وخسائرهم، لذا فان مراجعته (مخزية).
لا اريد ان اذهب بعيدا بالتاريخ كي نؤكد ان العرب بناة حضارة وتاريخ وتميز في ذلك، لكن اقول ان العرب الذين هاجروا او هجّروا من بلدانهم، كانوا متميزين على القوميات الأخرى، وشكلوا رقما مهما في المعادلة العلمية والفكرية والاقتصادية والثقافية في المهجر، وليس مصادفة بقدر ماهي حقائق تفوق التصور احيانا، فمثلا (لابد ان نصدق ان صانع تجربة النظام الاقتصادي الصيني الحديث عراقي)!
ترى هل ان الارض العربية موبوءة لدرجة تعطل عقول شعوبها؟
ان التحديات التي تواجه الشعوب العربية تواجه الدول الاخرى، وقد شهدوا حروبا واستعمارا واوبئة ومخاطر وكوارث بيئية كبيرة، لكنهم تفوقوا عليها وانتصروا واستطاعوا ان يبنوا تجارب متميزة!
اليابان دولة فقيرة في مواردها الطبيعية وثرواتها وهي مجرد جزر متناثرة وسط المياه لكن تجربتها فاقت دولا كبرى أكثر ثراء وموقعا، حيث استفادوا من ثروات العقول اليابانية وبات المواطن الياباني مصدر ابداع وتطور على كافة الاصعدة، وهذا ينطبق على دول عديدة غير اليابان، حيث ان فيتنام التي خرجت من الحرب الطويلة من عام (1953 وحتى 1975) وخسرت الالاف من ابنائها ودمرت الحرب بناها التحتية، وهي بلد قليل الثروات لكن تجربتها الان تتقدم بسرعة مذهلة ومنافسة لدول العالم المتقدم بعد ان حطت قدمها على طريق التقدم.
الان انظر الى الشعب اللبناني المحشو بالثقافة والفكر والتاريخ والتنوع وهو عاجز عن ايجاد حل لمشاكله منتظرا ان تأتيه الحلول من خارج البلد (فرنسا، اميركا، روسيا، الصين، السعودية، قطر)، ووصل به الامر انه عاجز ان يوفر لقمة العيش لشعبه، بحيث تتصدق دولة بحجم قطر على جيشه لإطعامهم.
ترى ما فائدة هذه المطابع والمؤلفات والصحف التي تصدر يوميا ملأى بالآراء والافكار؟ لبنان عاجزة عن تشكيل حكومة، وفي كل حركة وسكنة (مشكلة) و(ازمة)!؟
السؤال؛ -هل اننا سمعنا يوما ان دولة خارجية صنعت تجربة ناجحة لدولة اخرى؟
وإذا عجزت هذه (العقول) في صناعة حكومة على الاقل (تمشية) امور الناس فكيف لها ان تبني مصنعا او معملا او مشروعا تنمويا؟
هذا (البؤس) اللبناني يشبه (بؤس) بلدي العراق، حيث وانا اتصفح اسماء المرشحين للانتخابات المقبلة، اشعر بالقرف والانكسار، واسأل؛ -من اين جلبتهم الكتل السياسية، ولأي مقياس خضعتهم؟
لم اقرأ بينهم اسما واحدا لشخصية متداولة عنوانها النجاح، او شخصية فكرية او ثقافية او اعلامية بل لم أجد بين الكتل السياسية من استعان بمركز دراسات او مراكز مشورة او رجال فكر ورأي! فجأة خرجوا علينا بهذه الاسماء وليس لنا من خيار غيرهم، لنعيد (البؤس) لأوطاننا بأيدينا!
لا شك انا اتابع بشكل يومي ما يجري بالدول العربية الاخرى فلم ار من تجربة واحدة محط تقدير فهذه تونس داخلة في فوضى وليبيا الى فوضى أكبر والجزائر بالطريق، اما قادة دول الخليج فلا يرغبون التفكير ولو للحظة للانعتاق من واقعهم، فهم وشعوبهم واموالهم أسرى بيد الارادات الدولية!
لا شك من السهل ان نحمل اميركا واسرائيل ودول الخليج المسؤولية، ونحمل (امية) سياسيينا المسؤولية الاكبر، ولكن هذه العوائق موجودة مع وجود بلداننا مع تغير في عناوين الاستعمار والشخصيات وغيرها، فهل يكفي ان نعدها كل يوم؟
ان دولة مثل الهند فيها من التحديات ما يفوق العقل لدرجة اننا في العراق كنا نستورد منهم (جثث الموتى) لغرض التشريح الطبي وبأثمان رخيصة، والناس تموت هناك من الجوع، في بلد عدد سكانه مليار ونصف المليار نسمة وثرواته متواضعة فاستقامت الهند الان وبين يدي كتاب عنوانه (الهند والرقص مع العمالقة)!
لا شك ان كل تجربة (نهضة) تختلف عن الاخرى ولكن الاهداف واحدة (مواجهة التحديات) و(بناء البلد)!
لا اتوقع في بلدي العراق ان يمنح السياسيون فرصة لأصحاب العقل الراجح للمشاركة وصناعة الراي بل هؤلاء خصومهم، كما لست اميل ان أصر على الاعتقاد ان (العقل العربي) مصاب بالتحجر، وغالبا ما يساعد خصمه على لي ذراع وطنه، وإلا مجرد ان اعلنت وزيرة خارجية اميركا السابقة كوندا ليزا رايس عن مشروع (الفوضى الخلاقة) بالمنطقة سرعان ما طبقه العرب على أنفسهم بشكل يفوق تصور (رايس) نفسه!
الان وحين انتهى زمن (الفوضى) وتحولت الدول العربية الى اشبه بسوق مزاد، وترك الملايين بلدانهم عادت علينا رايس بمشروع جديد قبل ايام اسمه (الطغيان) ولا شك انه مشروع سنوافقه جميعا لأنه يذهب بنا الى عهد الدكتاتوريات والتفرد وخنق الحريات، بعد عهد من الفوضى وما جلبت لنا من ويلات!
ترى هل نحن الى هذا الحد عجينة بيد الاستكبار يصنعون منا ما شاؤوا ويهشموننا متى شاؤوا؟
قد اكون متشائما كثيرا، لكن حين احسب التاريخ منذ قصيدة "ابراهيم اليازجي ":
(تَنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ
فقد طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ
فِيمَ التَّعَلُّـلُ بِالآمَـال تَخْدَعُـكُم
وَأَنْتُـمُ بَيْنَ رَاحَاتِ القَنَـا سُلـبُ
اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا المَنَـامُ فَقَـدْ
شَكَاكُمُ المَهْدُ وَاشْتَاقَتْـكُمُ التربُ
كَمْ تُظْلَمُونَ وَلَسْتُمْ تَشْتَكُونَ وَكَمْ تُسْتَغْضَبُونَ فَلا يَبْدُو لَكُمْ غَضَـبُ).
اجدهُ زمنا طويلا مسبوقا بفترة مظلمة دامت (720) عاما.