• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42

تفاقمت الأزمة السياسية في باكستان في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد تعرض رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، في 3 نوفمبر الجاري، لمحاولة اغتيال فاشلة في مدينة وزير أباد؛ وذلك خلال مسيرة احتجاجية قادها خان تجاه العاصمة الباكستانية إسلام أباد للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، والضغط على حكومة “شهباز شريف”؛ فقد أضفى هذا الحادث المزيد من التعقيدات على المشهد السياسي الباكستاني، وخصوصاً أن “خان” يواصل خطابه التصعيدي ضد السلطة ويتهمها بالتواطؤ والتآمر؛ فعلى سبيل المثال، ذكر “خان”، يوم 17 نوفمبر الجاري، أثناء مثوله أمام المحكمة العليا للتحقيق في أحداث المسيرة التي قادها يوم 25 مايو الماضي، أن التقارير التي أعدَّتها الأجهزة الحكومية بشأن الأحداث تُعَد تقارير أحادية الجانب، وتستهدف إبراء ذمتهم من مخالفة للدستور والقانون، واتهم الأجهزة الأمنية بممارسة العنف ضد المشاركين في المسيرة.

أبعاد الأزمة

يتخذ المشهد السياسي في باكستان مساراً عنيفاً، يتسم بقدر كبير من الضبابية وعدم الاستقرار؛ وذلك نتيجة تعقُّد أبعاد الأزمة السياسية في البلاد، وتعدُّد الفاعلين بها وتعارض مصالحهم. ويمكن تناول أبرز هذه الأبعاد على النحو التالي:

1. بيئة سياسية مشحونة: في أبريل الماضي، تمت الإطاحة بعمران خان في تصويت برلماني لسحب الثقة من حكومته، ومنذئذٍ تشهد البيئة السياسية في إسلام أباد شحناً شديداً؛ حيث يدعي “خان” أنه كان ضحية مؤامرة لتغيير النظام برعاية الولايات المتحدة على أساس اجتماع عقده سفير باكستان في واشنطن مع مسؤول في وزارة الخارجية، قبيل جلسة سحب الثقة. ومن بعده، جاء رئيس الوزراء الحالي شبهاز شريف ليرأس الحكومة الجديدة، التي اتهم خان قادتها مراراً بالتواطؤ مع واشنطن والجيش الباكستاني لإزاحته من السلطة، بل هدد بنقل هذه المعركة السياسية إلى الشارع الباكستاني؛ حيث نظَّم عدة مسيرات سياسية كبيرة تطالب بتنحي الحكومة التي ردت بحملات مضادة على خان وأنصاره؛ فعلى سبيل المثال، أصدرت الشرطة الباكستانية، يوم 1 أكتوبر 2022، مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء السابق عمران خان؛ بسبب عدم مثوله أمام المحكمة بتهمة “الازدراء”. وفي الشهر ذاته، صدر قرار من لجنة الانتخابات بمنع “خان” من الترشُّح لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات، بعد أن توصَّلت اللجنة إلى أنه "ضلل مسؤولين بشأن هدايا تلقَّاها أثناء وجوده في السلطة".

2. تصدير ضغوط جديدة على الحكومة: لقد شكلت محاولة اغتيال “عمران خان”، يوم 3 نوفمبر الجاري، فرصة مواتية لرئيس الوزراء السابق من أجل الضغط على الحكومة. وبالرغم من تقديم الشرطة الباكستانية تقريراً معلوماتياً أولياً ضد محمد نافيد، الذي تم اعتقاله على الفور، بتهمة الإرهاب والقتل والشروع في القتل، فإن خان قد رفض هذا التقرير، معتبراً أن نافيد كان مجرد كبش فداء للمؤامرة التي يعتقد أن من يقف وراءها هم ثلاث شخصيات قوية في البلاد، وبدعم خارجي غربي تقوده الولايات المتحدة. ولم يتوقف “خان” عند هذا الحد؛ إذ طالب باستقالة كل من رئيس الوزراء شهباز شريف، ووزير الداخلية رانا ثناء الله، والجنرال في وكالة الاستخبارات فيصل نصير؛ وذلك لضمان استقلالية لجنة التحقيق القضائي في محاولة اغتياله.

3. تعمق خطوط الصدع بين خان والجيش: في خطاباته المتلاحقة الأخيرة، اتهم خان بشكل مباشر المؤسسة العسكرية الباكستانية بمحاولة التخلص منه، وخرج أنصاره الغاضبون إلى الشوارع للمطالبة بمحاسبة العسكريين المتورطين في العمليات الموجهة ضد خان. هذا التدفق في المشاعر المعادية للجيش لم يسبقه مثيل في باكستان منذ نهاية الحكم المباشر من قبل المؤسسة العسكرية خلال عامي 2007 و2008.

وبالرغم من محاولات خان للتحالف مع الجيش أثناء فترة حكمه، فإن هذا التماسك والتقارب بينهما لم يدم طويلاً؛ إذ حاول قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا، الذي تنتهي مدته خلال شهر نوفمبر الجاري، نقل رئيس المخابرات الفريق فايز حميد، الذي كان بحكم الأمر الواقع الذراع اليمنى لخان. ومع مخططات الأخير لعزل باجوا من أجل تأمين فترة ولاية أخرى في السلطة، كان قائد الجيش قد اتخذ قراره بشأن الفريق فايز؛ ما أعطى المعارضة مساحة أكبر لتعزيز دورها السياسي وشجَّعها على التصويت بحجب الثقة عن “خان” في البرلمان الباكستاني.

4. استدعاء الشارع إلى معادلة الصراع: فخلال الشهور الماضية، دأب رئيس الوزراء السابق على تدشين مسيرات للضغط على الحكومة، وكان أهم هذه المسيرات، المسيرة الطويلة التي أعلن أنها ستنطلق من مدينة لاهور إلى إسلام أباد للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، على أن تصل إلى العاصمة يوم 4 نوفمبر الجاري، رغم الرفض المتكرر من الحكومة لمطلبه بإجراء هذه الانتخابات، بيد أنه قد استطاع بالفعل اجتذاب حشود ضخمة إلى تجمُّعاته؛ وذلك قبل أن يُهدَم هذا المخطط بمحاولة اغتياله في يوم 3 نوفمبر، وهو في طريقة إلى العاصمة. ومع ذلك دعا “خان” بعد هذه المحاولة أنصاره، عبر رابط فيديو يوم 10 نوفمبر الجاري، إلى استكمال المسيرة المناهضة للحكومة.

5. اكتساب خطاب المؤامرة المزيد من الزخم: ففي خضم الصدام الحاد بين الحكومة وعمران خان وحزبه حركة الإنصاف الباكستانية، بات خطاب المؤامرة يحظى بالمزيد من الزخم، ويجد جاذبية لدى العديدين؛ فقد واصل “عمران خان” الترويج لخطاب التآمر ضده، وافترض أن الولايات المتحدة متورطة في التآمر ضده بسبب اتباعه سياسة خارجية أكثر استقلاليةً، ووصف حكومة شهباز شريف بأنها مجرد "صناعة أمريكية".

6. ظهور مؤشرات على تفكك الحكومة الحالية: تواجه الحكومة الباكستانية الحالية تهديداً مباشراً في ضوء الملفات المعقدة التي تواجهها على المستويين السياسي والاقتصادي. هذه التعقيدات بدأت تؤثر على تماسك الحكومة؛ إذ بدأ بعض الوزراء يخرجون من الحكومة؛ فعلى سبيل المثال قدم وزير القانون عزام ترار استقالته مؤخراً، على ما يبدو بسبب الشعارات المناهضة للجيش، لكنه كان متذرعاً بوجود أسباب شخصية تحول دون إمكانية أداء مهامه كوزير، بيد أن بعض التقارير تشير إلى تعرضه لضغوط لتفضيل بعض القضاة دون الآخرين، وهو ما اعتبره تدخلاً سافراً في استقلالية السلطة القضائية في البلاد.

مستقبل معقد

لقد وفرت هذه الأزمة السياسية بيئة خصبة لتنامي أنشطة الجماعات الإرهابية في باكستان، فضلاً عن تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتعمق التدخلات الخارجية من الدول الأجنبية في شؤون البلاد. وهكذا يمكن القول إن مستقبل الأوضاع في باكستان سيكون على درجة كبيرة من التعقيد، وهو ما يمكن تناول ملامحه على النحو التالي:

1. تصاعد الهجمات الإرهابية: تسببت الأزمة السياسية المتفاقمة في باكستان في تشتيت جهود الحكومة فيما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب والتشدد في الوقت الذي تقوم فيه حركة طالبان الباكستانية بإحياء الإرهاب والتهديد العسكري على الحدود الغربية للبلاد، خاصةً بعد زيادة فرص توسعها، على خلفية الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان. وتتعرض قيادة الجيش الباكستاني لانتقادات حادة من القوى السياسية المختلفة، كما تُواجِه قوات الأمن الباكستانية هجمات إرهابية متكررة تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا.

2. تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية: مثل أي أزمة سياسية، تفاقمت الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد؛ حيث نفذت الحكومة الجديدة سياسات تقشف قاسية، ركزت على تخفيض الدعم الموجه للوقود والكهرباء في باكستان؛ الأمر الذي تبعته ارتفاعات متتالية في معدل التضخم الذي غذته الاتجاهات العالمية على خلفية الحرب الأوكرانية، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الروبية الباكستانية أمام العملات الأجنبية، كما تعرضت باكستان لفيضانات تسببت في نزوح عشرات الملايين من الناس، وأغرقت ثلث المساحة الزراعية، ودمرت وعطلت الكثير من البنية التحتية، وكبَّدت البلاد خسائر بأكثر من 40 مليار دولار، ومن ثم فإن من المتوقع أن تزداد هذه الاضطرابات الاقتصادية سوءاً خلال السنوات المقبلة، خاصةً إذا استمر تصعيد الأزمة السياسية في البلاد.

وفي الوقت نفسه، تحرك رئيس الوزراء الحالي لتحسين علاقات باكستان مع الغرب، وخاصةً الولايات المتحدة. وقد نجح في إزالة بلاده من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي، وهي قائمة مراقبة لتمويل الإرهاب وغسيل الأموال. وكانت باكستان مدرجة على القائمة منذ عام 2018؛ ما زاد صعوبة جذب الأعمال والاستثمارات الأجنبية.

وفي هذا الإطار، من المرجح أن تتفاقم أزمة ميزان المدفوعات، في ظل احتمالية زيادة فاتورة الواردات الغذائية نتيجة التحديات الجديدة التي أعقبت أزمة الفيضانات الأخيرة، ومن ثم سيظل معدل التضخم مرتفعاً؛ فبينما يحافظ البنك المركزي على سعر الفائدة القياسي عند 15% منذ أوائل يوليو، فإن السعر قد يرتفع إذا اشتدت الضغوط التصاعدية على الأسعار، كما ستواصل باكستان الصراع مع أزمة الديون المزمنة، التي يرجع جزء كبير من دينها العام إلى ضعف أداء الشركات العامة، وصعوبة التوجه نحو الخصخصة في الوقت الراهن.

3. صعوبة استبعاد “خان” من المشهد: يواصل خان محاولاته لاستعادة السلطة بعد أن نجا من محاولة الاغتيال الأخيرة؛ حيث شجَّع مؤيديه على مواصلة المسيرة المناهضة للحكومة، وبالفعل بدأ مؤيدوه يعيدون إطلاق المسيرة في مدينة وزير أباد، وهي البلدة التي توقفت عندها مسيرة خان بعدما أُطلِق النار عليه. وبهذه الخطوة، يعتقد رئيس الوزراء المعزول أن الاحتجاج سيكتسب قوة مع وصوله إلى إسلام أباد، على أن ينضم إلى هذه المسيرة في مدينة روالبندي المتاخمة للعاصمة الباكستانية، ومن هناك سيقود خان التجمعات العامة للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، بالرغم من رفض رئيس الوزراء “شهباز شريف”، الذي يصر على أن الانتخابات ستُجرَى في موعدها المقرر في وقت لاحق من عام 2023.

4. استمرار تأثير الجيش في التوازنات السياسية: يرجح أن يستمر حضور الجيش كطرف فاعل في توازنات الأوضاع السياسية في باكستان؛ فمع اختيار قائد جديد للجيش بعد انتهاء فترة ولاية قائد الجيش قمر جاويد باجوا، سيكون على القائد الجديد للجيش التعاطي مع معضلة موازنة علاقات الجيش مع الحكومة والمعارضة، ومن ثم الانخراط في وساطة لتحقيق نوع من التفاهم بين الحكومة وخان لتقليل التوترات وتجنب الاضطرابات. ولكن مع ذلك، ستظل علاقة “عمران خان” بالقائد الجديد موضع شكوك هائلة، وخصوصاً أن “خان” اعتاد استخدام خطاب سلبي تجاه الجيش في الشهور الماضية، كما أن بعض احتجاجات المعارضة استهدفت منشآت عسكرية.

5. مواصلة مراهنة شهباز على تطوير علاقاته الخارجية: فمن المرجح أن يستمر رئيس الوزراء الباكستاني “شهباز شريف” في تطوير علاقات باكستان الخارجية مع عدد من القوى الدولية والإقليمية، على غرار السعودية، وكذلك الصين؛ حيث يُنظَر إلى شريف بشكل إيجابي في الصين؛ لأن المكون الباكستاني لمبادرة الحزام والطريق تم إطلاقه تحت رئاسة نواز شريف شقيق “شهباز”. ويُرجَّح أيضاً أن يسعى “شريف” إلى تعزيز التحالف مع واشنطن وتجاوز الخلافات التي نشبت بين الدولتين مؤخراً عقب تصريحات الرئيس الأمريكي “بايدن”، في شهر أكتوبر الفائت، ووصف خلالها باكستان بأنها "قد تكون واحدة من أخطر دول العالم؛ لأنها تمتلك أسلحة نووية وتفتقد تمامًا إلى التماسك".

خلاصة القول: من المرجح أن تؤدي محاولة الاغتيال التي وجهت ضد عمران خان إلى زيادة الاضطرابات السياسة في باكستان، وهو ما يهدد بمزيد من التدهور في الاقتصاد الباكستاني وتصاعد الهجمات الإرهابية، ناهيك عن عرقلة قدرة الدولة على الاستجابة للأزمات الطارئة على غرار الفيضانات الأخيرة التي تركت ملايين الضحايا في أمسِّ الحاجة إلى المساعدة، ومن ثم ينصبُّ الأمل على تعيين قائد جديد للجيش يكون حل الصراع السياسي أولوية بالنسبة إليه؛ لأنه إذا فشلت الحلول السلمية، فإنه لن يتم استبعاد سيناريو انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.