يكاد يجزم العالم الغربي والرأي العام الأميركي، بأن الولايات المتحدة تبنت مساراً مركزياً في سلوكها السياسي العام المدعوم بخطوات عملية، يتمثل بكونها لا تعتمد قوتها العسكرية المباشرة في تحقيق أهدافها، بل تذهب الى ما أسمته (استراتيجية الردع المتكامل)، المرتكز على القوة الشاملة، بحسب الجنرال لويد أوستن وزير الدفاع الاميركي، بمعنى اعتماد الآليات والأدوات الأخرى بما فيها العمل الدبلوماسي، والتوغل، والاختراق المعلوماتي، والعقوبات الاقتصادية، والأذرع التخريبية... الخ.
لهذا نلحظ تركيز وإصرار مراكز التفكير الأميركية، لقراءة حوادث كبرى جرت منذ 2008 في الكيفية والمعالجة العسكرية الروسية في جورجيا، ومن ثم في عام 2014 بمنطقة جزيرة القرم، وصولاً إلى حالة حربها القائمة حالياً على أوكرانيا 2022، ونبهت هذه المراكز إلى فقدان أمن البحر الأسود، الذي يمثل الجبهة المتقدمة لحملة (دمقرطة) العالم في عالم الشرق/الجنوب، ومواجهة قوى (الاستبداد) هناك، طبقا لأدبيات الفكر الليبرالي الغربي الجديد والتقليدي.
إن هذا التوقف أو التحجيم الأميركي لاستخدام القوة العسكرية والاستعاضة عنها ببعض مفردات القوة الناعمة، حفز دول الشرق الكبرى أن تمضي بخطواتها نحو أهدافها التي يحددها أمنها القومي، وصناعة الجيوبولتيك (المستجيب) لديمومة وجودها كقوة مؤثرة ومستمرة، وهذا ما تديره روسيا علنياً منذ (2007) والصين منذ العالم 2013.
إن السلوك الشرقي الجديد العابر لا لقاءات وآثار النظام الدولي الجديد الذي فرضته اميركا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام (1989-1990)، قد حفز الدول الاخرى في هذه المنطقة ان تذهب بخطواتها الواثبة نحو مصالحها، واذا كانت الجمهورية الاسلامية الايرانية مختلفة في قرارها ابتداءاً، لاعتبارات تتعلق بايدلوجية ثورتها الإسلامية، والرؤية السياسية المنبثقة عنها منذ ثمانينات القرن الماضي، فأن حلفاء الولايات المتحدة الأميركية من دول المنطقة، قد عملوا على بناء استعداداتهم لهذه الخطوة الكبرى، وفي المقدمة (تركيا)،فضلاً عن دول عربية وخليجية، وبخاصة خلال إدارة الرئيس الأميركي ترامب، ومن منظور استراتيجية التنافس للامساك بالفرصة الاقتصادية.
الصين لم تترك تفعيلاً اقتصادياً في الكرة الأرضية إلا وباشرت به، وظهرت بمشهد عام أنها تتماهى ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية تاريخياً في نصف الكرة الأرضية الثاني(الشرق)، وكذلك مثلما عمل الاتحاد السوفيتي السابق في قارة أميركيا اللاتينية، ولكن بأسلوبه ونموذجه الخاص الخارج في جزء كبير منه عن الأطر الايدلوجية (الاشتراكية)، فأنها تقف اليوم في القطب الشمالي، بكل معاناته وقسوته، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأميركية، تتبنى فرضية تقدير موقف جديد للمواجهة أسمته (تحدي السرعة)، وتأثيره على مستقبل الولايات المتحدة واستقرارها، بسبب الانتقالات الاقتصادية الصينية في كندا وآلاسكا ومناطق أخرى لاستثمار المعادن الثمينة المتاحة هناك.
وما يميز الصين عن السلوك الأميركي أنها تمنح الحياة في المناطق الميتة والبائسة، وهي بذلك تعاكس الاستراتيجية الأميركية وقبلها الغرب الشمالي(أوروبا)،في انتهاك الأمم وسلب ثرواتها وخيراتها وإذلال شعوبها، وإطعامها بعضاً من البريق الخارجي الزائفأو ما يسمى المدنية (قيم وأخلاق غربية)، بدلاً عن الطعام وديمومة الحياة والتنمية، أنها فكرة (البنى التحتية) التي تقدمها الصين لشعوب ودول عالم الشرق/ الجنوب، وهي ما تشكل احراجاً لدول الكونيالية الغربية الأوروبية التي بنت نهضتها من ثروات وموارد هذه البلدان.
هذا السلوك الصيني المساند وغير المتدخل ويحترم خيارات وسيادة الدول واستقلالها، وضع الولايات المتحدة في خيارات مبعثرة، تتأرجح بين العودة إلى استراتيجية الردع العسكري المباشر الباهظة التكاليف وغير المأمونة في نتائجها في ظل تجربة أفغانستان والعراق وبعض المناطق الأخرى، أو الاستمرار في استراتيجيتها الجديدة المبنية على (تحدي السرعة) وبآليات (استراتيجية الردع المتكامل)، لتبقى القوة العسكرية للتلويح فقط من دون الاستخدام.
وعلى وفق هذه الخيارات فأن الولايات المتحدة الأمريكية، ستكون مجبرة في المبالغة في توظيف السلاح الأخر، ونعني به (الدعاية) بنوعيها (السلبي والايجابي)، وما تنتجه من فوضى لمواجهة قطار الصين السريع، فضلاً عن الضغط (التهديد) على أصدقائها وحلفائها ومنعهم من التفاعل مع الصين، إلا أن هؤلاء الاصدقاء والحلفاء نهلوا من خبرة أميركا في الدعاية ومشاركتهم بعضاً من جوانبها، بدأوا يمارسون الدعاية(كذب) والفساد المالي داخل المؤسسة الأميركية، لإيقاف قرارات وتعطيل أخرى وممارسة حملات العلاقات العامة في أوسع مدياتها.
وبموازاة ذلك تماماً تجري القراءة الموضوعية والادراك الاستراتيجي والخطوات العملية نحو المنظمات الدولية الجديدة التي أنشأها الشرق الجديد القوي، كما هو الحال لمنظمة شنغهاي التي تشكل نصف سكان العالم تقريباً، وتضم في جنباتها دول نووية واقتصادات تعد قاطرة النمو في العالم، تحتضن مصادر لتكنلوجيا منافسة، وربما تتخطى الاحتكار الغربي وإلزاماته السياسية، وقدرة ردع عسكري لا يمكن تجاوزها في حسابات تقدير المواقف العسكرية.
وبذلك ترتقي القرارات لهذه المنظمة واخواتها المكملة، بكونها البديل الأمثل والمقبل (بتفاضلية القدرة)، عن حلف شمال الاطلسي المثقل بالكلفة المالية والقيود السياسية، ومن فوق ذلك مجموعة البريكس الدولية، هذه المنظمات فتحت آفاق ورؤى وأهداف استراتيجية لدول العالم، وبضمنها حلفاء الولايات المتحدة في الشرق، حتى بدأنا نلحظ برغم التعنيف والضغط والتهديد، التسابق للانضمام اليها واكتساب العضوية فيها، للاعتقاد شبه المستقر بانها البديل الأكثر نفعاً لدول عالم الشرق/ الجنوب، من اضلاع مثلث الابتزاز والاستغلال والافقار الأميركي- الغربي، بل وعدها مؤسسات النظام العالمي الجديد طور التشكل.
اعتادت الدول الاستعمارية الغربية وفي مقدمها أميركا، الاستمرار في توظيف ثروات الغير لمصالحها وهو ما يجري في افريقيا الآنـ لا سيّما في موضوع(التربة النادرة واكتشاف المعادن)، وتحاول أن تقدم نفسها كبديل عن الصيني، وهي تطلب من دول أفريقيا الفقيرة تمويل شركاتها لنهب هذه المعادن وجعلها رهينة لها، بينما هذه المعادن هي لرفد الصناعات الأميركية والغربية، والأنكى من ذلك معاناة هذه الدول من فجوة التكنلوجيا الفائقة، التي يدير بها الغرب مواردها ويحرجها في (تهميش) ثرواتها الأهم عبر احتكار التكنلوجيا، بغية اجبار هذه الدول كيما تذعن لاشتراطات هذه الشركات، بينما تعرض الصين فتح الشركات داخل هذه الدول، وبالاشتراك معها وبتمويل مالي صيني كامل، مع حق الانتاج والتسويق المشترك، ولذلك عندما نقول أن التكنلوجيا الصينية القاهرة للطبيعة ستكون حلاً لدول أفريقيا، فهي بقدر أكبر تشكل وبالاً كارثياً على الشركات الغربية.
ولعل فرصة التنافس بل الصراع العالمي الجاري بين الصين وحلفائها واصدقائها مع مغرياتها المادية وما تمتلكه من تقنيات قاهرة للطبيعة، أو مخصصة لخدمة الشعوب في بناء البنى التحتية، وبين الغرب المنقسم أميركياً وأوربياً، واستدلال أوروبا الشائخة والضعيفة بشكل لا لبس فيه، من خلال الازمة الاوكرانية بأن الولايات لمتحدة قد تاجرت بمصالح دول أوروبا وبلدانها الأكثر تحالفاً معها (فرنسا – ألمانيا- بريطانيا)، خدمة لمصالح شركاتها ومجمعها الصناعي العسكري. وهو ما رفع مستويات الريبة والشك والهمس المخفي فيما بينها.
هذا الوضع قد وفر فرصة مثالية وغير مسبوقة لدول الشرق بعامة واغلب دول اسيا بخاصة، في توظيف فرصتها للانعتاق من ربقة الهيمنة الاميركية والغربية، بل والخروج العلني من بيت الطاعة المفروض عليها منذ عقود أو قرون، بغية تلمس فرصة الاستقلال الحقيقي والتمتع بالسيادة الحقيقية، وتقرير المنهج الملائم لتحقيق ازدهارها ونهضتها.
إن الفرصة المتاحة لبلدان الشرق تتطلب شحذاً حقيقياً لهمم الشعوب والحكومات، مهمازها القرار الوطني الشجاع في تحديد البوصلة وفق مصالح وأمال هذه الشعوب المقهورة، مع ما يرافقها من قدرة في ترتيب فرصة أمنها القومي (الداخلي)، وتجهد نفسها بالتكتيك السياسي الخارجي، ولا سيّما تجنب الاصطدام الصلب، واستبداله بسياسات الانغماس في العمل التخصصي الأفقي، لتثوير قدرات الشعب، والخروج من دوامة التسويق السياسي، والتقمص الكاريزمي المنتهي الصلاحية والآثر، والالتفات لصناعة كاريزما الشعب، كل الشعب، إرساء والايمان المطلق بأن الشعوب قادرة على صنع التاريخ.