نشأت الولايات المتحدة من رحم اشتباك عالمي حول الهوية الاستعمارية الحديثة بعد أن قامت الثورة الصناعية وتمدد الانتشار العسكري ليستكشف العالم كجزء من المنافسة الاستعمارية وتغيرت القيم البطريركية الأوروبية وخاض النظام الكنسي انشقاقات وصراعات وهكذا بات ازدحام المتناقضات في العالم القديم يحتاج جغرافية جديدة لتصدير العالم الجديد.. العالم الذي تم تأسيسه من الصفر بعد قرار بالقطيعة مع الأوابد حتى لا يمتلك التاريخ سطوة على الحاضر.
كما في أوروبا الوارثة لأعباء التاريخ منذ الوثنية إلى اليهودية ثم إلى المسيحية كنظام روما وما تلاه من صراعات مع البربرية في قلب أوروبا وصراع مع الدين المشرقي الذي حدد العالم بالشرق والغرب، وهكذا ومع صعود الجمهورية القوية النابليونية الفرنسية بقيمها الجديدة واستمرار مجالس اللوردات في الملكية البريطانية بات لزاماً إيجاد عالم جديد وقد لا يتم التخطيط الحرفي لذلك لكن سياق التطور الفوضوي للسلطة البشرية يقود تنظيم الفوضى، وقد يكون هذا سبب من أسباب تعرض السكان الأصليين لأمريكا لحملات التطهير العرقي.
فالمطلوب من الجغرافيا الجديدة ثرواتها وذهبها وليس طقوس شعبها والمطلوب تشكيل بنية سكانية ديموغرافية جديدة بنظام جديد.. تماماً كأن تيأس من إصلاح مدينة تغلغلت فيها المخالفات والأحياء المكتظة فتذهب لبناء مدينة جديدة في الصحراء فتعمل على حل المشكلة قبل نشوئها عبر احتسابها أثناء تجهيز البنى التحتية.
ولم تبتعد فرنسا وبريطانيا العظميين وقتها عن دورهما في حسم الصراع والتصارع في وجهات النظر الحربية والسياسية على أرض الولايات المتحدة الأمريكية التي ستزرع علمها إيذاناً بقواعد جديدة لتموضع اللوبيات العالمية.
أوجدت الولايات المتحدة عقداً اجتماعياً يضبط علاقة المافيات بعد حسم انتصار الشماليين وقيم الاندماج ما بعد التصفيات العنصرية.. كانت حرب لفرض صيغة علاقات للمواطنة التي تستخدم الجميع لخدمة أمريكا وإنهاء صيغة العبودية ومنع إقصاء الملونين عن خدمة الدولة..
وبعد تصفيات حادة على طريقة الاصطفاء والبقاء للأقوى والأصلح تم وضع قواعد لعمل كبار المجرمين ليتحولوا إلى عائلات سياسية أو عائلات تتوارى خلف أغطية سياسية، وانتقل صراع الجنوبيين والشماليين للتحول إلى صيغة حزبية انتخابية يمثلها الحزبان المتنافسان على السلطة (الديمقراطي والجمهوري) وأياً يكن من يصل إلى السلطة السياسية فالتنافر ضمن حدود لا تمس بالمصلحة الامريكية التي تحميها الدولة العسكرية العميقة.
يرى البعض ونحن منهم أن العالم المتعدد الأقطاب القادم إذا تمكن من تحقيق ذاته سينبثق من الصين كدولة أحاطت نفسها بسور الصين العظيم لكنها لم تنج في وقت من الأوقات من الصراعات الاستعمارية والغزوات بمختلف صنوفها وحجم تأثيرها، وقد تكون بشرى للعالم باختبار نموذج يشع تقدماً وذلك مبتغى الذين عانوا من هيمنة النظام العالمي الذي قادته دولة العقد الاجتماعي القائم على المنفعة في الولايات المتحدة، ولكن تبقى هناك أسئلة هامة عن الصيغة التي صدرتها بريطانيا في الشرق الأوسط لتصبح عهدة الولايات المتحدة الامريكية لاحقاً بطريقة مختلفة، اعتماداً على مستند تاريخي يؤمن شرعيتها لتدخل صراعاً أيديولوجياً عقائدياً مع منطقة تعتمد أصلاً إسنادها التاريخي ونقصد طبعاً منطقة الخارطة الإسلامية العربية للنبي محمد، والبناء أيضاً على العداء التاريخي منذ الأقوام البائدة (نبوخذ نصر) إلى حصون خيبر، فهل المواجهة القادمة في إفريقيا بغياب طارق بن زياد وموسى بن نصير وانهيار العوامل الأيديولوجية العربية ستكون في مصلحة الصين القادمة من شرق آسيا البوذي وبالتالي من أيديولوجيا تاريخية غريبة حتى عن مرتكزات الصراع في العالم القديم وقد تغلغلت فيها قواعد اقتصاد العالم الجديد..
هذه الأسئلة التي يتم تغييبها بناء على الحديث عن تغييب عالمي للعامل البشري بما يسمى الإنسان الرقمي والذكاء الصناعي وغيره مع أن الواضح أن الصراع القادم يتسم بالبناء على قوة المافيات العالمية وانحسار نظام الدولة وقوة الجيوش النظامية لصالح حرب العصابات وتلك الأخيرة كلها تفرعات نظام الأمة الأمريكية ولا تشبه نظام الأمم الأخرى التي تدخل عالماً لا يشبه بنيتها الديموغرافية والجغرافيّة.
أعتقد أن من درس الديانات اللاسماوية في الشرق الأقصى يستنتج حجم افتراق الذهنية مع المنطقة ولكن يبقى لديه الأمل في ذهنية الصبر والاستعداد للتضحية واللادنيوية بمعنى الانتماء الكفاحي للفكرة وذاك بصيص الأمل.