• اخر تحديث : 2024-05-02 13:29
news-details
قراءات

عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في فبراير 2022، شهد العالم سلسلة من المناورات العسكرية بين جيوش الدول الصديقة والحلفاء بالشرق والغرب، ليسجل عام 2022 رقماً قياسياً في أعداد المناورات العسكرية التي أجريت خلاله؛ وذلك مقارنة بأي حدث عسكري سابق؛ إذ تتزامن الحرب الأوكرانية مع استمرار وجود عدة أزمات وبؤر للصراع حول العالم، مثل شبه الجزيرة الكورية، ومنطقة الشرق الأوسط؛ الأمر الذي قد حفز جيوش العالم على إجراء هذه المناورات لتطوير النظم التدريبية لقواتها العسكرية في مواجهة الأزمات والحروب، ومن ثم تتميز تلك المناورات بكثافتها واختلاف أهدافها ومراكز انتشارها الجغرافي.

سمات رئيسية

تتميز المناورات العسكرية التي أجريت خلال العام الماضي وأوائل العام الجاري بمجموعة من السمات والخصائص التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1- الكثافة العددية للمناورات: حفزت الحرب الروسية الأوكرانية العديد من دول العالم على ضرورة تكثيف حجم تدريباتها العسكرية، بالتعاون مع أقرب حلفائها؛ فمنذ فبراير 2022، تم إجراء عدد كبير وغير مسبوق من المناورات العسكرية في مختلف أنحاء العالم، وقد اعتمدت كثافتها على مدى الأهمية الاستراتيجية للمناطق التي أجريت فيها؛ حيث نبهت الحرب إلى ضرورة تطوير القدرات العسكرية للجيوش العالمية حتى تتأهب لأي نزاع مسلح ممكن؛ وذلك من خلال المناورات العسكرية المكثفة؛ لذا من المتوقع أن تستمر هذه المناورات خلال الأعوام المقبلة؛ وذلك بناءً على تطورات أوضاع البيئة الدولية.

2- الانتشار الجغرافي الواسع للمناورات: تتميز المناورات العسكرية أيضاً بتنوع مراكز انتشارها الجغرافي؛ فمن تايوان والصين وتايلاند وكوريا الجنوبية إلى إندونيسيا وطاجيكستان وروسيا في آسيا، حتى نيوزيلندا وبريطانيا في أوروبا وكذلك أستراليا، ومن ساحل جزر هاواي الأمريكية حتى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء؛ لم تتوقف المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من المناورات التي اشتملت على عدد كبير من القوات المشاركة ونطاق اندلاعها؛ فمثلاً جرت مناورات عسكرية مشتركة تسمى “الشرق 2022” بين روسيا والصين، بمشاركة الهند وبيلاروسيا وطاجيكستان، في الفترة من 30 أغسطس 2022 حتى 5 سبتمبر 2022، وهي المناورات التي وصفها البعض بكونها أضخم مناورات من حيث المساحة وعدد القوات المشاركة، وأجريت في 13 ميداناً عسكرياً في أقصى الشرق الروسي قرب الحدود مع الصين.

3- الارتباط ببؤر الأزمات العالمية: عادة ما يتم إجراء المناورات العسكرية بالمناطق الساخنة التي ترتبط بالأزمات العالمية؛ فعلى سبيل المثال في مارس 2022، عقب الحرب في أوكرانيا، أجرت قوات روسية مناورات في جزر الكوريل المتنازع على سيادتها بين روسيا واليابان. وجاء ذلك بعد أيام من تعليق موسكو محادثات سلام مع اليابان بسبب العقوبات التي فرضتها طوكيو عليها بعد حربها على أوكرانيا.

وفي السياق ذاته، عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي، إلى تايوان في شهر أغسطس الماضي، أجرى الجيش الصيني تدريبات عسكرية بمختلف الأسلحة الاستراتيجية والتقليدية رداً على هذه الزيارة الاستفزازية، كما أجرت واشنطن وكوريا الجنوبية واليابان، في شهر أغسطس الماضي، تدريباً على التحذير من الصواريخ والبحث عن الصواريخ الباليستية وتعقبها، قبالة ساحل هاواي، كتدريب على الاستجابة للتحديات التي تشكلها كوريا الشمالية على تلك الدول، وفقاً لبيان البنتاجون الأمريكي.

4- التدريب على أسلحة جديدة: تستخدم المناورات العسكرية في تدريب الجيوش على استخدام الأسلحة الجديدة المستوردة أو المنتجة محلياً؛ فعلى سبيل المثال أجرى الجيش الإيراني في شهر سبتمبر الماضي مناوراته “اقتدار 1401″، وقد تم تزويد الجيش لأول مرة بمنصات ثنائية لإطلاق الصواريخ المضادة للدروع، بجانب إطلاق صواريخ “فتح 360″ و”فجر 5” البعيدة المدى؛ وذلك لأول مرة خلال هذه المناورات.

دوافع متعددة

تسعى الدول من خلال مناوراتها إلى تحقيق مجموعة من الأهداف العسكرية والاستراتيجية، ومنها:

1- تقديم الدعم للحلفاء: إن غالبية المناورات العسكرية المشتركة بين الدول يكمن هدفها في دعم الحلفاء ضد التهديدات الخارجية الموجهة نحوهم؛ فبعد إطلاق بيونج يانج صاروخها الباليستي العابر للقارات، في 18 فبراير الماضي، أجرت واشنطن تدريبات عسكرية مع سيول لاستعراض قاذفاتها المدمرة؛ حيث أوضح وزير الدفاع الكوري الجنوبي أن هذه المناورات سمحت بإظهار النشر الفوري لوسائل الردع الأمريكية الموسعة في شبه الجزيرة الكورية، بما يدل على القوة الكاسحة للحلفاء.

2- تأكيد الوجود في مناطق النفوذ التقليدية: بالتزامن مع الحديث المتنامي عن تراجع الحضور الأمريكي في المنطقة، أطلقت الولايات المتحدة وإسرائيل أكبر مناورة عسكرية على الإطلاق، في شهر يناير الماضي؛ وذلك لتأكيد أن الولايات المتحدة لا تزال حاضرة بقوة في منطقة الشرق الأوسط، وتأكيد قوة ومتانة تحالفهما المشترك، بالرغم من المخاوف الأمريكية بشأن حكومة نتنياهو الجديدة. وفي وقت سابق لهذه المناورة، وصف الجيش الإسرائيلي المناورة العسكرية الأمريكية الإسرائيلية السابقة التي عُقدت في أواخر نوفمبر الماضي بأنها محاكاة لسيناريو عملياتي بعيد المدى ورحلات جوية بعيدة المدى، في إشارة ضمنية إلى إيران.

هذا وقد أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخراً، في شهر مارس الجاري، عن انطلاق التدريبات الجوية المشتركة بين سلاح الجو الأمريكي ونظيره الإسرائيلي تحت مسمى “العلم الأحمر” في قاعدة القوات الجوية الأمريكية في نيليس بولاية نيفادا، التي يمكن اعتبارها بمنزلة رد على محاولات الصين تعزيز حضورها في الشرق الأوسط، وكذلك إعلان كل من روسيا والصين وإيران عن إجراء تدريبات بحرية مشتركة في خليج عمان خلال الشهر الجاري بدافع تعميق التعاون الثلاثي للقوات البحرية للدول المشاركة.

3- أداة للخروج من العزلة الدولية: عادة ما تلجأ مجموعة من الدول الواقعة تحت طائلة العقوبات الدولية، نتيجة لبعض سياساتها، إلى إجراء تدريبات عسكرية مع الدول الصديقة لها، كأداة للخروج من العزلة الدولية المفروضة عليها؛ فمثلاً أعلنت الصين أنها سترسل قوات إلى روسيا للمشاركة في المناورات العسكرية “الشرق 2022” السالف ذكرها وذلك نتيجة تعرض موسكو لعقوبات دولية وإدانات واسعة بسبب حربها على أوكرانيا.

4- تعزيز سياسات الردع للدولة: كشف ماراثون المناورات العسكرية الصينية، التي أجريت خلال شهر أغسطس الماضي، حول جزيرة تايوان عن نواقل الهجوم التي من المحتمل أن تنوي الصين ملاحقتها خلال هجوم برمائي شامل على تايوان؛ وذلك كأداة لردع المسؤولين التايوانيين والأمريكيين من توثيق علاقاتهما المشتركة، إثر الزيارة التاريخية التي أجرتها رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك “نانسي بيلوسي” إلى الجزيرة وأثارت بها غضب بكين؛ حيث أجريت التدريبات العسكرية على نطاق واسع، وللمرة الأولى، تم إطلاق صواريخ متعددة فوق الجزيرة.

وبالنظر إلى جارتها الكورية الشمالية، فهي تهدف أيضاً من خلال مناوراتها وتدريباتها العسكرية إلى ردع حلفاء واشنطن لإثبات قدرتها القتالية الفعلية لوحدات الصواريخ الباليستية العابرة للقارات القادرة على تنفيذ هجوم مضاد متحرك وقوي؛ حيث إن إطلاق هذه الصواريخ يعد دليلاً واضحاً على قوة الردع النووية لبيونج يانج.

5- تطوير قدرات القوات العسكرية: يعد هدف تطوير القدرات العسكرية للجيوش هو الأكثر انتشاراً بين مختلف المناورات التي تقدم الدول على إجرائها، حتى إن كانت ذات نوايا غير سلمية؛ ففي أغسطس 2022 على سبيل المثال، أجرت إندونيسيا والاتحاد الأوروبي أول مناورة بحرية مشتركة بينهما في بحر العرب، بهدف مكافحة القرصنة بالمنطقة؛ حيث شاركت 14 دولة في هذه المناورة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي 28 نوفمبر من العام ذاته، أجريت مناورات مشتركة في صحراء الجزائر بين القوات البرية الروسية والجزائرية، لمحاكاة معارك ضد الجماعات الإرهابية والكشف عن مخابئها، والقضاء عليها في المناطق الصحراوية.

6- توثيق التعاون مع الدول الأخرى: مما لا شك فيه أن هذه التدريبات توثق العلاقات العسكرية بين البلدان المشاركة فيها، لا سيما انعكاسها على توثيق مجمل العلاقات بينها؛ ففي أغسطس الماضي، أجرت الصين وتايلاند مناورات مشتركة هي الأولى بعد توقف طويل بسبب فيروس كورونا، حسبما أعلن الجيش التايلاندي. وهدفت المناورات المسماة “هجوم الصقر” إلى تعزيز العلاقات والتفاهم بين البلدين، كما شهدت مدينة جدة السعودية أيضاً تدريبات “الموج الأحمر 5” و”الغضب العارم”، في شهر مايو الماضي؛ وذلك لضمان سلامة الممرات في البحر الأحمر، بمشاركة 5 دول مشاطئة للبحر.

7- التكريس لفرضية التحول في النظام العالمي: من المثير للاهتمام أن الكثير من المناورات والتدريبات العسكرية التي جرت خلال عام 2022، وكذلك بداية عام 2023، تزامنت مع حديث متصاعد عن تحول راديكالي في بنية وتفاعلات النظام الدولي، واستياء بعض القوى من مكانتها في هذا النظام، وبالتبعية الرغبة في تقويض الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، ولعل هذا ما يتضح من المناورات المشتركة بين روسيا والصين، التي تكررت في أكثر من منطقة جغرافية، على غرار مناورات الشرق 2022، وكذلك المناورات العسكرية البحرية التي جرت قبالة ساحل المحيط الهندي بين روسيا والصين وجنوب أفريقيا في شهر فبراير الماضي.

8- التدريب على الظروف البيئية المختلفة: ولعل هذا ما يتضح من التدريبات الرئيسية للبحرية الفنلندية، التي تعرف باسم “الرياح المتجمدة 2022″، والتي جرت خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2022، بمشاركة دولية كبيرة في خليج فنلندا وبحر الأرخبيل. وقد اشتملت هذه التدريبات على وحدات من جميع الفروع في القوات المسلحة الفنلندية، بالإضافة إلى العديد من الشركاء الدوليين، وكانت تهدف من خلالها إلى تنفيذ عمليات مشتركة قبالة الساحل الفنلندي خلال الظروف الجوية الصعبة في أواخر الخريف الماضي، فضلاً عن تدريب القوات البحرية الفنلندية على تقديم المساعدات الدولية وتلقيها.

وختاماً، من السابق لأوانه الحديث عن تغييرات دراماتيكية في المشهد الدولي على خلفية الكثافة العددية للمناورات العسكرية مؤخراً، أو اعتبار أن لدبلوماسية المناورات دوراً في ظهور نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، إثر كثافة النشاط العسكري الروسي الصيني المشترك في المجال ذاته؛ حيث إن الموقف الأمريكي من تدريباتهما المشتركة لم يعرف بعد، بيد أنه من المتوقع أن هذه الدبلوماسية لا تزال مطروحة على طاولة الاختيارات العسكرية لمختلف الدول المتنافسة كبديل رشيد عن استخدام القوة العسكرية مباشرة، أي أنها لا تزال أداة للردع لا بأس بها في الوقت الراهن؛ ولذلك قد يشهد العالم خلال العام الجاري، وربما الأعوام المقبلة أيضاً، نشاطاً أكبر لتلك المناورات.