نشر الممثل التجاري للولايات المتحدة “روبرت لايتهايزر”، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، كتاباً بعنوان “لا توجد تجارة حرة: تغيير المسار والتعامل مع الصين ومساعدة العمال الأمريكيين”، ومن المتوقع أن يصبح الكتاب دليلاً لمرشحي الرئاسة الجمهوريين الذين يبحثون عن سياسة تجاه الصين، والقوميين الاقتصاديين في جميع المجالات، ويمكن تناول أبرز ما جاء في الكتاب على النحو التالي:
سياسات واشنطن
أوضح الكاتب بعض السياسات الاقتصادية للولايات المتحدة تجاه الصين؛ وذلك على النحو التالي:
1– تغيير الموقف التجاري الأمريكي تجاه الصين: بحسب الكاتب، فإن مقاومة العقيدة الاقتصادية أو السياسية السائدة تتطلب التغيير؛ فعلى مدار العشرين عاماً الماضية أو نحو ذلك، كان مجرد التساؤل عن فكرة أن التجارة الحرة دائمة وفي كل مكان، سلعة خالصة محضة، مسألة محرمة في الولايات المتحدة. ولكن تغير ذلك في عام 2018، عندما تم فرض تعريفات جمركية على الصين، ثار نقاش أوسع حول العلاقة بين التجارة والدبلوماسية، وما يجب أن يبدو عليه عالم ما بعد الليبرالية الجديدة. ويجادل الكاتب بأن الصين تظل أكبر تهديد جيوسياسي واجهته الولايات المتحدة، ربما منذ الثورة الأمريكية؛ ما يجعلها تتفوق على ألمانيا النازية والانفصاليين في الحرب الأهلية.
2– اتخاذ واشنطن السياسة الحمائية تجاه بكين: لفت الكاتب إلى أن الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ريجان ذكر في خطاب ألقاه عام 1985 أن “التجارة الحرة هي – بحكم تعريفها – تجارة عادلة. ولكن عندما تكون الأسواق المحلية مغلقة أمام صادرات الآخرين، لم تَعُد هناك تجارة حرة. وعندما تدعم الحكومات مصنعيها ومزارعيها حتى يتمكنوا من التخلص من السلع في الأسواق الأخرى، لم تَعُد التجارة حرة. كذلك عندما تسمح الحكومات بالتزوير أو نسخ المنتجات الأمريكية… لم تَعُد تجارة حرة أيضاً”، وكانت تلك هي بعض الحجج التي تم ترويجها ضد الصين خلال فترة ولاية الرئيس السابق ترامب، وفي العقود التي سبقت ذلك.
3– دفع مسار “الفصل الاستراتيجي” مع الصين: يعرض الجزء الرئيسي من الكتاب، سرداً إعلامياً واستفزازياً لكيفية خوض لايتهايزر للحرب التجارية الصينية والمعارك التجارية الأخرى. كما يقترح لايتهايزر توصيات سياسية راديكالية حقاً لفك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين؛ حيث يدعو إلى رفع الرسوم الجمركية إلى مستويات عالية، وإنهاء الفوائد التي تلقتها الصين من الولايات المتحدة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)، وقطع الاستثمار بين الدول، ومنع شركات التواصل الاجتماعي الصينية وإيقاف التعاون في التكنولوجيا. من المفترض أن يتم تطبيق تلك المقترحات، إلى أن يختفي الفائض التجاري لصالح الصين، الذي يبلغ الآن نحو 400 مليار دولار. بمعنى آخر، سوف تستمر تلك التوصيات لعقود، إن لم يكن إلى الأبد. ويُطلق لايتهايزر على تلك المقترحات اسم “الفصل الاستراتيجي strategic decoupling”، لكن لا يوجد شيء استراتيجي بشأنها؛ لأنها سوف تقطع العلاقات بين أهم اقتصادين في العالم، مع نتائج كارثية محتملة.
4– حاجة الاقتصاد الأمريكي إلى التنوع لكسب الحلفاء: في حين أن الكثيرين سيختلفون مع حجج لايتهايزر حول الحاجة إلى إعادة توازن العجز التجاري الأمريكي مع الصين، فإن حججه حول الحاجة إلى اقتصاد متنوع كبير مثل الولايات المتحدة للإنتاج وكذلك الاستهلاك من أجل الحفاظ على صدى قوي في عصر أصبحت فيه مخاطر التمويل وسلاسل التوريد العالمية الهشة، أصبحت واضحة للغاية. لذلك أضحت الولايات المتحدة بحاجة إلى المزيد من التجارة واستخدام قوتها الاقتصادية لكسب الأصدقاء، حتى تفضلها البلدان الأخرى على الصين، على سبيل المثال. فبالنسبة إلى الآخرين، تتعلق التجارة حقاً بالحصول على أرخص المنتجات للعملاء.
5– معضلة خفض الرسوم الجمركية على الصين: يستحضر الكتاب أيضاً انتقاد ترامب لـ”لايتهايزر” خلال اجتماع متلفز مع المفاوضين الصينيين، بسبب ضغط لايتهايزر من أجل ما تسمى “مذكرة التفاهم” مع بكين؛ ففي عالم التجارة، فإن مذكرة التفاهم هي صفقة لا تتطلب موافقة الكونجرس، ولكن في عالم العقارات لترامب، فإنها تعني اتفاقاً أولياً. فأثناء عمله ممثلاً تجارياً، استخدم لايتهايزر تعريفات على نطاق لم يتم استخدامها منذ الثلاثينيات لعقد صفقة تجارية تتضمن العديد من التنازلات الأمريكية؛ حيث بدلاً من الانفصال عن الصين، استراتيجياً أو غير ذلك، تصورت اتفاقية المرحلة الأولى زيادة التجارة بين البلدين، وتقديم إجراءات مفصلة لحل النزاعات. وبذلك كان من المفارقة أن يُقدم لايتهايزر خارطة طريق للمشاركة المستمرة، وليس الفصل مع الصين. لم يكن لدى إدارة بايدن حالياً، الإرادة السياسية بعد، لمحاولة البناء على فكرة لايتهايزر. والمفارقة أيضاً، أن لايتهايزر يمتدح فريق بايدن لأنه لم يستغل حتى الآن طُعم خفض الرسوم الجمركية، على أمل حمل الصين على استيراد المزيد من السلع الأمريكية.
6– اعتماد واشنطن على نفسها لمواجهة الصين: في مواجهة الصين، توقع لايتهايزر أن الولايات المتحدة وحدها، لا يزال لديها ثقل اقتصادي كافٍ لإجبار بكين على التغيير. على مدى سنوات، عملت الولايات المتحدة إلى حد كبير على حل الخلافات التجارية من خلال منظمة التجارة العالمية، التي تستغرق سنوات للتوصل إلى قرارات. ولكن بدلاً من الانتظار طويلاً لاتخاذ القرار، قام لايتهايزر بإزالة الغبار عن المادة 301 من قانون التجارة الأمريكي، الذي يُجيز أحياناً للرئيس فرض الرسوم الجمركية رداً على الممارسات التجارية غير العادلة دون اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية. وبالفعل وجد لايتهايزر الكثير من الإجراءات الصينية التي تتفق مع هذا التعريف، بما في ذلك سرقة الملكية الفكرية، والضغط على الشركات الأمريكية لتسليم التكنولوجيا، واللوائح التي أضرت بالمصدرين الزراعيين الأمريكيين وغيرهم من المصدرين.
تصاعد الحرب:
ركّز الكاتب بشكل كبير على الحرب التجارية بين واشنطن وبكين؛ وذلك على النحو التالي:
1– تداعيات سلبية للحرب التجارية بين البلدين: بحسب الكاتب فإنه بنهاية الحرب التجارية التي استمرت ثلاث سنوات، فرض ترامب رسوماً تصل إلى 25% على ثلاثة أرباع كل ما تبيعه الصين للولايات المتحدة. ويروي لايتهايزر بالتفصيل المفاوضات التي أسفرت عن اتفاق، على الورق، وافقت الصين من خلاله على تعزيز التعاون في حماية الملكية الفكرية، وإنهاء اللوائح التمييزية، وزيادة مشتريات السلع الأمريكية بشكل كبير، وحل الخلافات. كما أبقت الولايات المتحدة على جميع رسومها تقريباً، معلنةً أنها لن تتراجع عنها إلا عندما تنفذ الصين تعهداتها.
صحيح أن الصين أوفت إلى حد كبير بالتزاماتها، حسبما ذكر لايتهايزر، إلا أنه يعارض الآن أي تراجع عن التعريفة الجمركية. لكنه في الوقت نفسه، لا يناقش أياً من أوجه القصور أو الإخفاقات في الصفقة، أو الأوقات التي دعم فيها ترامب التوقف عن الإجراءات الصارمة عندما بدأت سوق الأسهم في الانهيار بسبب الحرب التجارية. ويوضح سرد أشمل للحرب التجارية، أن الولايات المتحدة لم تكن هي الفائز، ولا حتى الصين؛ فلقد عانى كل من الاقتصادين الأمريكي والصيني، على الرغم من أن الصين تضررت أكثر من الولايات المتحدة؛ لأنها أكثر اعتماداً على التجارة. ومع ذلك، يواصل مكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، الشكوى من الإكراه الصيني وسرقة التكنولوجيا والأفعال السيئة الأخرى.
2– استفادة دول ثالثة من الحرب التجارية: تعتبر فيتنام من الفائزين من الحرب التجارية بين واشنطن وبكين؛ فوفقاً لحسابات شركة كيرني الاستشارية الإدارية، شحنت الصين سلعاً مصنعة إلى الولايات المتحدة في عام 2021، أقل بمقدار 50 مليار دولار عما كانت عليه في عام 2018، مع زيادة الرسوم الجمركية على الصين. وخلال ذلك الوقت نفسه، زادت فيتنام – الخالية من تلك التعريفات الأمريكية – شحنات سلع المصانع إلى الولايات المتحدة بمقدار 50 مليار دولار. وبذلك، ساعدت عائدات التصدير الإضافية، فيتنام، على بناء مجمعاتها الصناعية والموانئ والطرق وجذب الصناعات ذات الأجور الأعلى، مثل الإلكترونيات. ولكن في مفارقة أخرى للحرب التجارية، اتضح أن العديد من شركات التصدير الفيتنامية الجديدة، مملوكة للصين.
3– تأثًّر عمال المصانع بالتعريفات الجمركية: أما بالنسبة إلى مساعدة عمال المصانع، فقد فعلت التعريفات الجمركية العكس؛ حيث كانت الولايات المتحدة تضيف وظائف في المصانع قبل الركود الناجم عن الوباء في عام 2020، لكن بعد فرض التعريفات الأولى على الصين في يوليو 2018، تراجع النمو في وظائف التصنيع وتوقف تماماً، حتى قبل تفشي الوباء في الولايات المتحدة. هناك، بالطبع، العديد من الأسباب للتدهور الاقتصادي على مدى العقود القليلة الماضية. صحيح أنه تعتبر صدمة الصين لأسواق العمل الأمريكية، واحدة من تلك الأسباب، إلا أن زوال التدريب المهني، ونموذج علاقات العمل المثير للجدل، وتراجع الاستثمار العام والخاص في المنشآت الصناعية، هي أسباب أخرى.
4– صعوبة القضاء على العجز التجاري الأمريكي: يبالغ لايتهايزر في تمسكه بالتعريفات، مقترحاً استخدامها للقضاء تماماً على العجز التجاري الهائل بين الولايات المتحدة والصين. لكن القيام بذلك يتطلب مستوى من الحمائية أكبر بكثير من الذي دافع عنه لايتهايزر أثناء وجوده في السلطة؛ حيث أظهرت الحرب التجارية أن 25% من الرسوم خفضت عجز التجارة مع الصين إلى حد ما، لكن عجز التجارة الإجمالي استمر في الارتفاع، في حين أنه لم يذكر رقماً محدداً في كتابه، إلا أن التعريفات التي يتصورها يجب أن تكون أعلى بكثير من 25% – ربما أكثر من 100% أو أعلى – وسيتعين فرضها على نطاق واسع.
وبذلك، يمكن أن تدمر الرسوم بهذا الحجم، قطاعات واسعة من الاقتصاد الأمريكي تستخدم قطع غيار مستوردة من الصين؛ فبينما يجادل لايتهايزر بأن الدخل من الرسوم، سوف يضيف إلى الخزانة الأمريكية، تُظهِر الحرب التجارية أن الأمر لن يكون كذلك؛ فالرسوم مرتفعة بما يكفي لمنع الواردات تماماً، وهذا يعني أنه لا توجد إيرادات جمركية يمكن تحصيلها. ولقد ذهب الدخل الإضافي الذي جمعته الولايات المتحدة من رسوم الـ25%، على دعم المزارعين الذين انهارت مبيعاتهم بعد أن انتقمت الصين وفرضت تعريفاتها الخاصة.
لا يزن لايتهايزر احتمال انتقام الصين في القطاعات التي تحتاج فيها الولايات المتحدة إلى الواردات، لتلبية الأهداف البيئية والأهداف الأخرى؛ فلقد أعطت الصين تلميحاً عن نوع الضغط الذي يمكن أن تمارسه مؤخراً، عندما صرَّحت بأنها ستقيد صادرات الغاليوم والجرمانيوم المستخدم في صناعة الإلكترونيات الدقيقة المتقدمة؛ حيث تهيمن الصين على أسواق معدات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والبطاريات الكهربائية للسيارات، والمعادن المستخدمة في الإلكترونيات، من بين صناعات أخرى. وبذلك يجادل لايتهايزر في كتابه بأن القضاء على العجز التجاري أمر بالغ الأهمية لمساعدة العمال واستعادة القوة الأمريكية، لكنه يقدم القليل من الأدلة لإثبات قضيته.
5– مساهمة الولايات المتحدة في صعود الصين: يرى لايتهايزر أن الفائدة من العولمة فقط، كانت تمكين الصين من الصعود؛ لذلك ليس من المبالغة القول إن أكبر قوة بحرية وأكبر جيش في العالم، قد تم بناؤه بالدولار الأمريكي، ولا يوجد في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، تعني التجارة الموسعة أن الولايات المتحدة ترسل مئات المليارات من الدولارات إلى الصين، التي استخدمتها الصين في النمو والازدهار. ولكن لم يفكر لايتهايزر في انتقاده للعولمة، فيما كان يمكن أن يحدث إذا أبقت الولايات المتحدة الصين خارج نظام التجارة العالمي؛ فعلى سبيل المثال، ليس من الصعب تخيل ما يمكن أن تفعله الصين التي ما زالت تعاني من الفقر، وتشعر بالحنق تجاه الولايات المتحدة، كالتطلع إلى إثارة الثورة وتسليح الخصوم الأمريكيين بالأسلحة، بما في ذلك الأسلحة النووية، كما فعلت مع دول مثل فيتنام وكوريا الشمالية قبل التقارب بين البلدين في عام 1970.
وختاماً، فإن الحرب التجارية أظهرت أن الولايات المتحدة تعتمد كثيراً على سلاسل التوريد العالمية والتكنولوجيا والسلع الحيوية الأخرى. ولكن، تأخرت الشركات الأمريكية في إدراك الحاجة إلى تنويع تصنيعها، بعيداً عن الصين. ومع ذلك، ما زال التصحيح جارياً، إلا أن السؤال المطروح حالياً يتمثل في كيفية إدارة هذا التصحيح. ومن ثم، من شأن مبدأ “لا تجارة حرة”، أن يفسد العلاقات المتبقية بين أكبر اقتصادين في العالم.