ترتسم معالم أزمة طاقة عالمية في الأفق الاقتصادي الدولي، حيث تتعرض أغلب دول العالم حالياً إلى أزمة طاقة تعصف باقتصاداتها الإنتاجية والخدميّة والمالية وغيرها، وقد ارتفعت أسعار حوامل الطاقة ارتفاعاً كبيراً من الوقود الأحفوري من (نفط وغاز وفيول) ومنتجات الطاقة البديلة أيضاً، وانعكس هذا مباشرة على أغلب السلع بشكل عام ولا سيما الكهرباء والغاز المنزلي، وسيؤثر هذا على مكونات الاقتصاد العالمي لأن الكهرباء هي الحامل الأساسي للتنمية المجتمعة، وهي سلعة نبيلة تدخل في كل المكونات الاقتصادية والقضايا المجتمعيّة، وبرأينا ستؤدي هذه الأزمة إلى عودة الخلل في الاقتصاد الدولي بعد أن شهد انتعاشاً مع بداية سنة /2021/ بعد أن تراجعت تداعيات أزمة كورونا وقد يدخل الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود أو ركود تضخمي على الأقل وزيادة معدلات التضخم، ولا سيما أننا حالياً نشهد ارتفاعاً في أسعار الغاز والنفط والفحم إلى مستوى لم نشهده منذ سنة /2018/، وأمام هذا الارتفاع تباينت آراء الاقتصاديين والمحللين حول أهم الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا الخلل بين قوى العرض والطلب الطاقوية، ولكن تمّ الاتفاق على أهم الأسباب مع اختلاف الوزن النوعي لكل منها، فمنهم من قال أن من أهم الأسباب هو عودة الانتعاش الاقتصادي الدولي وارتفاع نسبي في معدل النشاط والنمو الاقتصادي، ومنهم من قال أن تغير المناخ العالمي وتوقع زيادة التقلبات المناخية والأحوال الجويّة والبرد القارس الذي ينتظر أوروبا لهذا الشتاء، كما تلعب الخلافات بين الدول المنتجة والمصدرة مع الدول المستهلكة والمستوردة حول الحصص والأسعار ونظام العقود ولا سيما بين بعض الدول الأوروبية وروسيا.
كما أن البعض وجّه الاتهامات نحو الصين التي وجهّت شركاتها بزيادة الكميات المخزنة بغضّ النظر عن الأسعار أو المنظومة السعرية العالمية لمواجهة أسوأ الاحتمالات المستقبلية، وزيادة استخدامها للفحم بل التوجه لتقليل الصادرات منه وإمكانية استخدامه بدل الغاز والنفط ، ولا سيما أن أهم الدول المنتجة للغاز صرّحت على أنها تنتج بأكبر طاقة متاحة لها، وتزداد مشاكل سوق الطاقة العالمية ولا سيما بعد أن زادت أسعار الغاز /400%/ في أوروبا بسبب انخفاض المخزون وزيادة الطلب في آسيا، ويتوقع الكثير من المحللين أن هذا سيؤدي إلى تحويل الكثير من الدول الأوروبية لتحول لاستخدام النفط بدل الغاز وخاصة في توليد الكهرباء، مما سيؤدي إلى زيادة استهلاك النفط بحدود /800/ ألف برميل يومياً وترتفع الأسعار من جديد، فهل ستؤثر هذه التحولات على المعادلات السياسية العالمية وتساهم في تغيير موازين القوة الاقتصادية العالمية ؟ وهل ستؤثر على حجم الاستثمارات العالمية في مجال الطاقة وخاصة على الاستثمار في الطاقات البديلة وعلى برامج التحفيز وبرامج الدعم الاقتصادي الحكومي ومعدلات التضخم؟، وهل ستؤثر على قمة المناخ العالمية التي ستعقد الشهر القادم؟، وهل سنشهد ثورات شعبوية من قبل الفقراء وقد بدأت مقدماتها تظهر في بريطانيا من أزمة وقود واحتجاجات شعبية؟ وبرأينا أن كل ما يجري يؤكد فشل الدول الأوروبية وأمريكا في التحكّم بسياسة الطاقة العالميّة، ويمهّد للاقتصاديات الناشئة وخاصة (روسيا والصين والجمهورية الإسلامية الإيرانية) وغيرها تسجيل معدلات نمو اقتصادية مرتفعة، وستساهم في تربّع الصين على عرش الاقتصاد العالمي، ويزداد دور روسيا في سوق الطاقة العالمية ممثلاً بشركاتها الأساسية ومنها (غاز بروم - روس نفط - لوك اويل) وغيرها، وستنتصر روسيا في قضية تنظيم عقود الشراء على أساس عقود طويلة بدلاً من الشراء بالأسعار اليومية التي طالبت به دول الاتحاد الأوروبي وخاصة بعد تحرير أسعار عوامل الطاقة، وبالتالي ستضطر الدول الأوروبية لتحرير أسعار الطاقة وارتفاع الأسعار للمنتجات وتراجع القدرة التنافسية لمنتجاتها وسيطرة الركود التضخمي، وستؤثر هذه المشكلة العالمية على ملف الاتفاق النووي مع الإيراني الأمريكي، وهذا الاتفاق تم التوقيع عليه بين إيران والدول الخمس لدائمة العضوية في مجلس الأمن وهي (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين) ومعها ألمانيا، وعرف هذا الاتفاق باسم اتفاق إيران مع دول (5+1) سنة /2016/، ولكن بعد أن خرجت أمريكا عن بنود الاتفاق ومزّقته إدارة (دونالد ترامب) في سنة /2018/ ودعوة بايدن للعودة للحوار إلا أن إيران أكدت أن لا مصداقية للاتفاقيات مع الإدارة الأمريكية، وأوروبا متحمسة لتنظيم واستقرار سوق الطاقة وخاصة أن الدراسات تؤكد أن الشتاء الأوروبي القادم سيكون شتاء طويلاً بارداً، وفي حال استمرار هذه المشكلة فإنها ستصبح ككرة النار كلما تدحرجت كلما كبرت، وستؤدي إلى تعميق الفجوة بين الدول المنتجة والمصدرة للنفط والغاز والفحم والدول المستهلكة، مما سينعكس إيجاباً على موازين المدفوعات للدول المصدرة مقابل عجز في الدول المستوردة وزيادة في عجز موازناتها السنوية، خاصة أن منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفاؤها بقيادة روسيا أي مجموعة (أوبك بلس أو أوبك +) قرروا أنهم سيبقون على اتفاق لزيادة إنتاج النفط زيادة تدريجية فحسب، متجاهلين دعوة الولايات المتحدة الأمريكية والهند لزيادة كميات الإنتاج اليومية، كما أن استمرار هذه المشكلة ستؤثر على البرامج الاقتصادية الغربية ومنها برامج الإعانات الاقتصادية والإعفاءات الضريبية وسيزيد هذا من صعوبة العودة إلى الانضباط المالي على المستويين الزمنيين القصير والمتوسط، وانطلاقاً مما سبق نتوقع أننا سنشهد تغيرات كبيرة في معالم سوق الطاقة العالمية، وما يظهر منها الآن ليس سوى رأس جبل الجليد العالمي، ولن تجدي دول الأطلسي كل التهم التي توجهها لروسيا بأنها تريد استغلال سلاح (الطاقة) على الساحة العالمية، وما كان مقبول في الأمس لم يعد مقبول الآن، والمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، فهل تصدق نبؤة كليمنصو خلال الحرب العالمية الأولى أن كل قطرة نفط تعادل قطرة دم؟!.