تدخل إسرائيل، في مطلع نوفمبر القادم (2022)، انتخابات عامة، ستكون الخامسة في غضون ثلاثة أعوام ونصف العام. ويبدو أن الانتخابات الجديدة ربما تٌبقي على وضع عدم الاستقرار الذي واجهته إسرائيل منذ عام 2019، وحتى اليوم، والذي تمثل في عجز حزب "الليكود" بزعامة بنيامين نتنياهو عن تشكيل حكومة تحظى بأغلبية 61 مقعداً في الكنيست على الأقل خلال أربعة انتخابات سابقة، رغم حصول حزبه على أكثرية في البرلمان في ثلاثة انتخابات منها.
أيضاً عجزت الجبهة المناوئة لنتنياهو، والتي تضم أحزاباً من كافة الطيف السياسي - بما في ذلك جزء من اليمين نفسه الذي يعتبر نتنياهو زعيمه منذ سنوات - عن الحفاظ على الائتلاف الذي شكلته في يونيو عام 2021 ولم يستمر سوى عاماً واحداً ليتم حله في يونيو من العام الجاري.
مظاهر الأزمة المستمرة والمرشحة للبقاء لسنوات قادمة عديدة، وسوف نتناولها بالتفصيل.
معضلة نتنياهو
شكّل وجود نتنياهو في الحياة السياسية الإسرائيلية عائقاً حقيقياً في وجه أي محاولة لخلق استقرار سياسي في إسرائيل منذ عام 2015، فمن جانب تدنت الثقة المتبادلة بينه وبين أعضاء بارزين من داخل حزبه "الليكود"، الأمر الذي أسفر عن تزايد حركات الانشقاق داخله، مثلما حدث مع عضوي "الليكود" السابقين موشيه كحلون، وجدعون ساعر، حيث أدت خلافاتهما مع نتنياهو إلى استقالتهما من الليكود، ليشكل كحلون حزباً باسم "كولانو" عام 2014، فيما أسس ساعر حزباً آخر باسم "تكفاه حدشاه" عام 2020.
وعلى الرغم من عدم تأثر مكانة نتنياهو بهذه الانشقاقات داخل "الليكود"، ونجاحه في كل الانتخابات الداخلية على رئاسة الحزب، واضطرار كحلون لحل "كولانو" والعودة لـ"الليكود" مرة أخرى عام 2019، إلا أن نفس الانشقاقات قادت في النهاية إلى تفكك جبهة اليمين التي تمردت بعض أحزابها على نتنياهو ورفضت الانضواء تحت قيادته، مثلما فعلت أحزاب "إسرائيل بيتينو" بزعامة افيغدور ليبرمان، و"يمينا" الذي قاده رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت (قبل اعتزاله العمل السياسي ونقل قيادة الحزب إلى النائبة ايليت شاكيد)، ومن ثم دخلت إسرائيل منذ عام 2019 في دوامة العجز عن تشكيل ائتلاف مستقر، بعد أن صار وصف النظام السياسي في إسرائيل ليس وفق الافتراق في البرامج والأيديولوجيات، بل وفق من يقف مع نتنياهو، ومن يقف ضده، وبعد أن عجز كلا المعسكرين عن تشكيل حكومة تحظى بتأييد الحد الأدنى من نواب الكنيست (61 عضواً) عبر أربعة انتخابات متتالية، باستثناء ائتلافين قصيرى الأجل تم تشكيلهما: الأول كان في أبريل 2020 وقاده نتنياهو وبيني جانتس (زعيم حزب "كاحول لافن") ولم يصمد سوى سبعة أشهر وتم حله رسمياً في نهاية نفس العام، والثاني الائتلاف الذي شكله نفتالي بينت مع يائير لبيد في يونيو 2021، والذي لم يصمد بدوره سوى عاماً واحداً لتدخل إسرائيل للانتخابات الخامسة خلال أقل من أربعة أعوام.
لم تتشكل معضلة نتنياهو في الواقع السياسي الإسرائيلي من عجز منافسيه من داخل "الليكود" وأحزاب اليمين ومعهم الجبهة المعارضة من أحزاب الوسط واليسار عن الإطاحة به وفقط، بل برهن النظام القضائي الإسرائيلي بدوره على عجزه عن القيام بنفس المهمة. إذ على الرغم من تحويل نتنياهو بموجب توصية من الشرطة للمحاكمة في نوفمبر 2019 بتهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في ثلاث لوائح اتهام منفصلة تتناول قبول هدايا فاخرة وتقديم منافع لأقطاب وسائل إعلام في مقابل تغطية إعلامية إيجابية له، فإن إدانته في هذه المحاكمة تظل محل شك كبير بعد مرور ثلاثة سنوات على بدءها، خاصة مع رفض المحكمة العليا الإسرائيلية لطلب المعارضين لنتنياهو بمنع أي شخص تحت المحاكمة من خوض الانتخابات أو على الأقل منعه من تولي رئاسة الحكومة.
وبشكلٍ عام، يمكن القول إنه بدون خروج نتنياهو من الحياة السياسية الإسرائيلية ولو لفترة مؤقتة، فإن المعضلة التي تسبب فيها ستترسخ وقد تقود إلى انتخابات سادسة في فترة قريبة.
أزمة أحزاب اليسار والأحزاب العربية
على مدى سنوات طويلة، تمكن النظام السياسي الإسرائيلي من العمل بشكل جيد من خلال الاتزان الذي ظل قائماً في خريطة القوى السياسية بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار حتى أواخر تسعينات القرن الماضي، ولكن مع مطلع الألفية الثالثة أخذت قوة الحزبين الكبيرين في الحياة السياسية الإسرائيلية، ونعني بهما حزبي "الليكود" و"العمل"، في التراجع مع تقدم كبير لأحزاب الوسط والأحزاب المعبرة عن عرب إسرائيل أو ما يعرف باسم عرب 48. وأدى هذا التطور إلى تقصير عمر الائتلافات الحاكمة والدخول إلى انتخابات مبكرة بشكل متكرر، خاصة أن ما يسمى بأحزاب الوسط في إسرائيل والتي تتبنى موقف اليمين فيما يتعلق بالنظام الاقتصادي الواجب اتباعه (اقتصاد السوق) وتتبنى حل الدولتين فيما يتعلق بحل الصراع مع الفلسطينيين، كما يرى اليسار، هذه الأحزاب اتسمت بأنها ذات عمر قصير، إذ تختفي سريعاً بعد حصولها على نسبة كبيرة من مقاعد الكنيست لدورة أو اثنتين على الأكثر، وخلال تواجدها في الخريطة السياسية تتسبب هذه الأحزاب في هز استقرار الحكومات التي تشارك فيها أو تقوية جبهة المعارضة ضد الحكومة إذا بقت خارج الائتلافات الحاكمة، الأمر نفسه يصدق وبشكل أكبر على أحزاب الأقلية العربية في إسرائيل، إذ ظلت هذه الأحزاب بعيدة عن المشاركة في الائتلافات الحاكمة لأسباب تتعلق بتصور كل من اليهود والعرب لمفهوم الدولة والمواطنة وعلاقة ذلك بالنظام السياسي والاجتماعي إجمالاً.
وتاريخياً، خاضت هذه الأحزاب انتخابات الكنيست كأحزاب منفصلة أو في تحالفات فيما بينها، ووصلت في بعض الأحيان لتمثيل كبير في الكنيست (خمسة عشر مقعداً) عندما خاضت الانتخابات بقائمة موحدة، ولكن مؤخراً وفقط في الانتخابات الماضية حدث ما لم يكن متوقعاً عندما قررت "القائمة العربية الموحدة" بزعامة منصور عباس المشاركة في الائتلاف الحاكم ودعمه من الخارج (من دون الحصول على حقائب وزارية) وهو ما مكن ائتلاف بينت-لبيد من كسب ثقة الكنيست كما أشرنا سابقاً.
أسفر هذا التغير المفاجئ في سلوك بعض الأحزاب العربية والأحزاب الصهيونية أو اليهودية وموقف كل منهما من الآخر عن نتائج متناقضة، فالجمهور اليهودي عاقب نفتالي بينت على إقدامه على وضع يده في يد حزب عربي مما اضطره في النهاية لاعتزال السياسة حالياً ليقينه بأن الناخب الصهيوني لم يعد يثق فيه أو في حزبه "يمينا" كممثل للصهاينة المتدينين، كما أعلن نتنياهو أنه لن يلجأ للتحالف مع أي حزب لا يعترف بيهودية الدولة (يقصد الأحزاب العربية) في تشكيل الائتلاف المقبل في حالة تكليفه، وبدلاً من أن تكون هذه التطورات دافعاً للأحزاب العربية لخوض الانتخابات المقبلة بقائمة موحدة تضمن لها تمثيلاً قوياً في الكنيست تجعل من الصعب تجاهلها عند تشكيل أي ائتلاف جديد، فقد أعلنت الأحزاب العربية عن خوضها الانتخابات في ثلاثة قوائم منفصلة: "القائمة المشتركة"، و"القائمة الموحدة"، وحزب "التجمع الوطني"، وتظهر نتائج الاستطلاعات الأخيرة أن القائمتين "المشتركة" و"الموحدة" ستحصل كل منهما على أربعة مقاعد، فيما سيفشل "التجمع" في اجتياز نسبة الحسم، أي أن تمثيل العرب في الكنيست من المحتمل أن ينخفض إلى ثمانية مقاعد بعد أن كان العدد عشرة مقاعد في الكنيست السابق، مما يسهل عملياً تجاهلهم من قبل الأحزاب الصهيونية عند التفكير في تشكيل الائتلافات الحاكمة.
على الجانب الآخر، فإن ما يسمى بأحزاب اليسار الإسرائيلي المحصورة في حزبين فقط هما "العمل" و"ميرتس" فإن كلاهما سيحصل على ما بين أربعة إلى خمسة مقاعد حسب معظم استطلاعات الرأي مؤخراً، وهو تمثيل ضعيف ناتج عن اتجاه أتباع يسار الوسط ويمينه للتصويت لصالح أحزاب الوسط خاصة حزب "يش عتيد" المرشح للحصول على ما بين 24 إلى 27 ستأتي معظمها على حساب الأحزاب اليسارية والعربية، ويزيد الوضع تعقيداً أن أحزاب اليسار والأحزاب العربية التي كان يمكن لتأثيرها في الكنيست أن يزداد في حالة تقاربها حتى وهى داخل جبهة المعارضة، قد بدأت بدورها في التباعد عن بعضها البعض، بسبب المواجهات الأمنية بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقوات الجيش الإسرائيلي، حيث أعلنت ميراف ميخائيلي زعيمة حزب "العمل" أن حزبها ليس مستعداً للعمل مع أحزاب "القائمة المشتركة" التي تنتصر "للإرهابيين" في الضفة وتصفهم بالشهداء!!
وعلى أية حال، فإن استطلاعات الرأي الأخيرة حتى يوم 27 أكتوبر الجاري (2022) تُظهر أن جبهة نتنياهو قد تحصل على 60 مقعداً بما لا يؤهلها لتشكيل الحكومة، والوضع سيكون أسوأ للجبهة المعارضة له في ظل المواقف المذكورة من أحزاب اليسار والأحزاب العربية والتي ستحول دون تشكيل ائتلاف حاكم حتى لو اتفق كل فرقائها على التوحد ضد نتنياهو.
احتمالات نظرية للخروج من المأزق
إذا ما صدقت توقعات الاستطلاعات الأخيرة بعدم حصول جبهة نتنياهو والجبهة المعارضة له على العدد الكافي من نواب الكنيست لتشكيل ائتلاف يحظى بثقة 61 نائباً أو أكثر، فإن إسرائيل قد تشهد انتخابات سادسة ستكون في الأغلب في شهر مارس أو أبريل من العام القادم، ما لم يحدث أحد الاحتمالات النظرية (أي تلك التي لا تساندها وقائع فعلية على الأرض) وهي:
1- أن يتمكن نتنياهو وجبهته من حصد 61 مقعداً أو أكثر قليلاً بالمخالفة للحسابات المستقرة نسبياً عن توجهات الناخب الإسرائيلي حالياً.
2- أن ينجح نتنياهو في إقناع حزب "إسرائيل بيتينو" بالعودة إلى جبهة اليمين والمشاركة في ائتلاف سيكون قوياً، حيث ترشح الاستطلاعات حزب افيغدور ليبرمان للحصول على ما بين 5 إلى 6 مقاعد. وإن كان يصعب تصور قبول "إسرائيل بيتينو" المتشدد في علمانيته بالمشاركة في ائتلاف يضم أحزاباً حريدية متشددة دينياً مثل "شاس" و"يهودة هتوراه".
3- أن يتمكن نتنياهو من إقناع بيني جانتس زعيم "كاحول لافن" الذي يخوض الانتخابات بقائمة مشتركة مع حزب "تكفاه حدشاه" بزعامة جدعون ساعر، من المشاركة في ائتلاف يتم التناوب على رئاسته بين جانتس ونتنياهو. ويبدو الاحتمال صعب التحقق سواء لأن ساعر سيرفض في الغالب مثل هذا الائتلاف بسبب عداءه الشخصي الشديد مع نتنياهو، أو لأن جانتس نفسه سبق له وأن خاض تجربة التحالف مع نتنياهو بصيغة مماثلة عام 2020، ولم تكن ناجحة بسبب الخداع الذي تعرض له من نتنياهو.
4- أن يقبل حزب "يش عتيد" بالتحالف مع "الليكود" وحزبي "شاس" و"يهودة هتوراه" المرشحين للحصول على ما بين 15 إلى 17 مقعد على أن يتناوب لبيد ونتنياهو رئاسة الحكومة، ولكن من الصعب تمرير تحالف من هذا النوع يستبعد حزب "الصهيونية الدينية" الذي يظل جزءاً مهماً من الجبهة التي يقودها نتنياهو، خاصة في ظل انعدام الثقة بين لبيد ونتنياهو وصعوبة تقبل حزب "يش عتيد" الليبرالي وشبه العلماني للطروحات القومية المتطرفة التي يتبناها حزب "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش (ترشحه الاستطلاعات للحصول على ما بين 12 إلى 14 مقعد في الانتخابات المقبلة) في حالة انضمامه لائتلاف نتنياهو في وجود سموتريتش.
في كل الأحوال، يبدو أن مأزق عدم الاستقرار السياسي سيتعمق أكثر سواء استمرت حالة العجز عن تشكيل ائتلاف حاكم مستقر ولو نسبياً في الفترة القادمة، أو في حالة تقبل عودة نتنياهو الذي تطارده تهم الفساد واستغلال النفوذ للحكم والمجازفة بصورة إسرائيل كدولة قانون ودولة ديمقراطية كما تزعم دائماً.